سياسة

نظرة جديدة لتاريخ الحكم الثنائي: السودان الإنجليزي – المصري بين 1934 و1956 (3)

Gabriel Warburg جبريل واربورج

تقديم وترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي

وذكر دالي – محقا – أن الطائفية ومشكلة الجنوب كانتا من أهم العوائق التي أضرت بمستقبل السودان وهو يستشرف عهد الاستقلال. وانتقد دالي في كتابه ظهور “المهدية الجديدة” وعد أن ظهورها تحت قيادة السيد عبد الرحمن المهدي، كان نتيجة للسياسات الخاطئة التي انتهجتها حكومة العهد الثنائي، وأيضا لموت “القبلية”. ويرى دالي أن بزوغ نجم السيد عبد الرحمن لا يمكن أن يكون بسبب “الكاريزما” التي عُرف بها، أو بسبب أيديلوجية “المهدية الجديدة”، ولكن كان نجاحه بسبب ثروته الضخمة من جانب، وبسبب تردد وازدواجية الحكومة من جانب آخر (2). فقد تمت في عهد الحاكم العام سايمز مراجعة الحظر الحكومي الذي كان مفروضا على السيد عبد الرحمن، إذ أن ذلك الحاكم العام لم يكن يعد “المهدية الجديدة” المسالمة إلا مجرد طريقة صوفية، ولم يكن يعتبرها مهددا سياسيا للحكومة، وكان يعتقد أن بزوغ نجم السيد عبد الرحمن أمر لا مفر منه، حتى وإن كان في بزوغ نجمه نوعا من “الإحراج الإداري” للحكومة. ورغم ذلك كان سايمز يقر بأن لـ “المهدية الجديدة” طِمَاح سياسي، وأنها توفر أرضا خصبة للوطنية السودانية. وكان دالي يرى أن آراء سايمز تلك “مضللة ومتهورة وعشوائية وتعتمد على ردود الأفعال”. غير أن دالي لم يفصح عن رأيه هو شخصيا في “المهدية الجديدة”، رغم أنه ينتقد الحكومة لـ “سوء فهمها لتلك الحركة” (صفحات 71 – 76) دون أن يتطرق إلى أساس الأيدلوجية المهدوية التي أبرزت السيد عبد الرحمن وأنصاره. ولو فعل لتوصل لتحليل أكثر توازنا لنجاح لك الحركة. وبان رأي دالي في “المهدية الجديدة” بصورة أوضح عندما تطرق لفشل حزب الأمة في انتخابات 1953م، وعلق على فوز حزب الوطني الاتحادي بها بالقول إن ذلك الفوز “دليل على رفض الناخبين لمفهوم ضيق لـ (الاستقلال) يعدهم به حزب الأمة، لا يهتم إلا بالمصالح الذاتية”، وكأنه بقوله هذا يزعم أن من اختاروا الحزب الوطني الاتحادي قد اختاروه على أساس أقوى وأقل ذاتية، وهو ادعاء لا يمكن له بالطبع إثباته. غير أن دالي كان محقا في زعمه أن فوز حزب الوطني الاتحادي هو في الواقع فوز لزعيم طائفة السيد علي الميرغني أكثر منه فوز للأزهري وجماعة الأشقاء العلمانيين. أي أنه كان فوزا في ساحة حرب علمانية لطائفة على طائفة أخرى، ولسيد على سيد.

وأصيبت مصر بخيبة أمل غير منتظرة لتخلي الحزب الوطني الاتحادي في عام 1954م عن خيار الاتحاد مع مصر، وتفضيل استقلال السودان، وقررت تأجيل “تقرير المصير” بأي ذريعة. وكانت مشكلة جنوب السودان (الذي كان قد بدأ في التململ والغليان بعد تجاهله في عملية السودنة ونقض الشماليين لوعودهم) هي الذريعة الملائمة. وطلبت بعض الجهات المصرية (منهم صلاح سالم) من الجنوبيين أن يضعوا ثقتهم فيها، بل ووعدوهم باتحاد فدرالي أو إدخال قوات مصرية لحفظ الأمن بالمنطقة. وزعم دالي أن تخوف الأزهري من تدخل مصر في الجنوب ومن فقدانه للأغلبية في البرلمان هو ما حفزه للقيام بمحاولات محمومة للطلب من البريطانيين الإسراع بتنفيذ حق “تقرير المصير”. واستجابت بريطانيا لذلك الطلب، ليس لخوفها بالطبع على مصير الأزهري، بل لخشيتها من التدخل المصري. وكان من المفارقات العجيبة أن يجد القسم السياسي لحكومة السودان نفسه يؤيد الأزهري في سعيه المحموم لنيل حق “تقرير المصير”، وهو الذي ظل لسنوات يسعى لإطالة عمر الحكم الثنائي؛ وأن تجد مصر نفسها تحاول تأجيل إنهاء الحكم الثنائي، وهي التي كانت تؤيد الأزهري الذي كان يسعى للاتحاد معها.

ويُحمد لدالي التفاته إلى النمو الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي حدث بالسودان بين 1945 و1955م. فقد زادت إيرادات الحكومة أربعة أضعاف، من 8.3 مليونا في 1946م إلى 36.2 مليونا من الجنيهات المصرية في 1955م، بينما ارتفعت المنصرفات في نفس السنوات من 7.9 مليونا إلى 33.0 مليونا من الجنيهات المصرية. وتوسعت كذلك عقب سنوات الحرب خدمات السكة حديد والطرق والبريد والتلغراف والطيران وغيرها، والخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والبيطرة والتعليم. غير أن تلك التنمية لم تكن متوازنة، إذ تركزت فقط في المناطق النيلية الشمالية والجزيرة والعاصمة المثلثة بينما تجاهلت غرب وجنوب السودان (وكانت تلك وصفة لمشاكل في المستقبل) (صفحة 305 – 306). ولم يقم بالجنوب سوى مشروع الزاندي للغزل والنسيج على أمل أن يزرع القطن في المديرية الاستوائية، التي تم ترحيل خمسين ألف عائلة لها لهذا الغرض منذ بداية الخمسينيات. وكان العاملون بالمشروع (الذي ثبت أنه كان خاسرا) غير راضين عن القليل الذي يجنونه من عملهم، بينما كان “الخبراء الأجانب” في المشروع ينالون أجورا عالية (صفحة 311). وأسوأ من هذا، كانت الحكومة قد نشطت في تثبيط أي محاولة للتنمية الاقتصادية بالجنوب بزراعة الشاي والكاكاو والسكر والمحاصيل الأخرى التي كان من الممكن أن تكفي حاجة السودان كله. وكان السبب هو رغبة حكومة السودان في زيادة إيراداتها من الضرائب والجمارك ومن وسائل النقل (بالقطارات والبواخر) التي تفرضها على البضائع المستوردة من الخارج. وصرح الدبلوماسي البريطاني (قافتي – اسمث) إبان زيارته للجنوب في عام 1955م بأن بلجيكا أو فرنسا كانتا ستفعلان أكثر من بريطانيا لو استعمرتا أعالي النيل. ويجب علينا أن نتذكر أن حكومة السودان كانت قد دأبت على تخفيض إنفاقها في جنوب السودان بزعم أنه يستنزف اقتصاد البلاد.

لخص دالي ما حاق بالسودان من كوارث بعد عشرين عاما من نيله للاستقلال في: الحرب الأهلية والطائفية والمجاعات والإفلاس. وتسائل إن كان من الجائز عَزْو (جذور) تلك الكوارث إلى إرث عهد الحكم الثنائي، وأقر بأنه ليس هنالك من إجماع على مدى مسؤولية الحكم الثنائي فيها. وكان من رأيه الشخصي أن ذلك العهد قد زاد تلك الكوارث سوءاً، إذ كان بإمكانه أن يقود السودان على طريق يؤدي لحكومة أكثر تمثيلا (لكل مناطق السودان)، ولكنه قنع بعمل أقل ما يمكن عمله في هذا الجانب.

يستحق مارتن دالي التهنئة على إكمال كتابه الضخم (من جزئين) في وقت قياسي. فقد كان قد اِطَّلَعَ على (غالب) المصادر البريطانية الأولية والثانوية، وقرأ آلاف الرسائل الخاصة والمذكرات والوثائق الأخرى حتى وصل لخلاصات متوازنة. ويحمد له التفاته لكل شؤون الاقتصاد والزراعة والاجتماع في السودان، إضافة للسياسة الداخلية والعلاقات الداخلية إبان تلك الفترة المهمة من تاريخ السودان. ولا شك عندي في أن كتاب دالي (مع كتاب روبرت كولنز عن الجنوب) يعدان أفضل ما نُشر من أعمال بحثية لأي فترة من تاريخ السودان الحديث.

إحالات مرجعية

1/ حسين ذو الفقار صبري (1915م – ) هو طيار سابق وممثل مصر في لجنة حاكم عام السودان، ورئيس أركان حرب القوات المصرية بالسودان (1953 – 1956م). وصدر كتابه المذكور بعنوان Sovereignty for the Sudan عام 1982م في لندن، ولعله ترجمة لكتاب بالعربية عنوانه “ثورة يوليو واتفاقية السودان”.

.2 سبق لنا ترجمة مقتطفات من كتاب (إمبراطورية على النيل) منها مقال “بزوغ نجم عبد الرحمن المهدي” https://www.sudaress.com/sudanile/92234

3/ المقصود هو جورج استيوارت سايمز (1882 – 1962م)، حاكم عام السودان بين عامي 1934 و1940م. ولامسون (لورد كيليرن لاحقا 1880 – 1964م) هو المندوب السامي البريطاني لمصر والسودان بين عامي 1934 و1936م.

4/ للمزيد عن اتفاقية 1936م بين مصر وبريطانيا يمكن النظر في: https://sources.5/ للمزيد عن اتفاقية 1946م بين مصر وبريطانيا يمكن النظر في: https://www.marefa.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق