ثقافة وفن

هذا الأدب يأبى إلا أن يرفع أهل البادية!

شغوف بالكتابة اذ هي الحياة وما دون ذلك لذة ذابلة

بنعبد الرزاق يوسف

هذا الكلام أتى بعد تأمل مصحوب بشجن عميق دام قرابة أسبوع، كنت قد عزمت أن أسكت فيه وأبقي كلامي هذا في جوفي لا يسمعه غيري. إلا أن البادية أبت إلا أن تستنهض لساني من ركدته بجمالها الأخاذ الذي أحيا أنفاسي، وبعد فلقد كنت قد كتبت من قبل كلاما مستفيضا على هيئة خواطر قصيرة مصحوبة بصور طريفة وأخرى غير ذلك، أودع من خلالها هذا الحب الذي أكنه في نفسي للبادية وأهلها. إلا أنني وجدت نفسي اليوم تسترذل أي تحتقر ما كانت تكتبه وتخطه من خواطر! إذ أنها لا تلبي رغبة ما في نفسي من تحنن وإعجاب بالبادية، لذا كان حقا علي أن أكتب هذا المقال، أطرح فيه هذا التفاوت العجيب والتباعد البعيد بين المدينة والبادية، سواء من جانب الأخلاق أو من ناحية الجمال!

وقبل الدخول في معترك هذا الحديث أطرق مسامعكم مستأنسا بقول خفيف على سبيل الاستشهاد باقتضاب شديد غير مخل بنظيم القول ولا مضر بسمع القارئ كلاما لأديب الفقهاء وفقيه الأدباء “علي الطنطاوي” في مقاله الجميل “معلم القرية” من كتابه الرائع “فصول اجتماعية” والذي أتى جمعه وترتيبه بعد وفاته رحمه الله من طرف حفيده “مجاهد مأمون ديرانية” بعد تعب شديد وتنقيب مضن في كراتين مليئة بمقالات الشيخ يجمع المؤتلف منها ويستبعد المختلف حتى اجتمع لديه من الأشباه والنظائر ما يوافق موضوع هذا الكتاب الذي أسماه “فصول اجتماعية” وهو عنوان أورده الشيخ في مسودة من مسوداته رحمه الله.

وحتى لا يمتد بي المقام هنا في غير موضوعي وفي غير فائدة أنتقل لأتم الحديث،وفيه أنه قال – المقال الذي ذكرناه- قال متحدثا على لسان بطل القصة “حسني أفندي” ما يلي: “…ونظر إلى هذه السهول الواسعة التي تحيط البلد، فراقه مشهد الشمس وهي مائلة إلى الغروب، وأعجبه منظر الفلاحين وهم يروحون إلى بيوتهم، لا تشتمل ثيابهم إلا على صحة الأجسام وصحة النفوس وصحة الأخلاق …فأحس بالرضا والاطمئنان.” انتهى حديثه ص،107.

ويقول الأديب المصري “زكي مبارك” الذاهب إلى مولاه أيضا في مقطوعته الشيقة “حديث الإسكندرية ذو شجون” في كتابه الماتع الممتع “الحديث ذو شجون” وهو مجموعة مقالات كانت تنشر في مجلة الرسالة للأديب العملاق أحمد حسن الزيات رحمه الله. إذ كان ينشر فيها أسبوعيا على مدى سبع سنوات كما وضحت ذلك ابنته ” كريمة زكي مبارك” في مقدمة نفس الكتاب.

وحتى لا يضيق بي المقام هنا في غير موضوعي الذي أكتب من أجله، فمحل الشاهد أنه قال في تعليق له على مدينة القاهرة يوم ذاك في مقاله هذا ما يلي: “…أما الوافد على القاهرة من الشمال فتلقاه منازل مهدمة تقبض النفس، فمتى تفطن حكومتنا إلى هذه الظاهرة؟ ومتى تمد يدها لرفع تلك الخرائب وتحويلها إلى حدائق ورياض ليشعر الوافد على القاهرة بأنه مقبل على مدينة تفهم قيمة الجمال؟ ص،17، وحاصل القول إنني ما استشهدت بهذا الحديث عن البادية وضده عن المدينة. إلا من أجل أن يتبين القارئ ذلك التفاوت العجيب من ناحية الشعور. هذا الاختلاف في الشعور الذي يبدو واضحا جليا في وصفهما، فلا تكاد تجد شعورا متشابها أو متجانسا بينهما؛ إذ يصعب على الأديب أو أي إنسان له عقل أن يبدي شعورا عن المدينة يماثل أو يعدل في جماليته ذلك الشعور اللذيذ البديع الذي يأتي في حق البادية.

وهذا يبدو جليا مما تلوناه من نُتفٍ ومقتطفات.. فبينما يتغنى الأديب الأريب “علي الطنطاوي” بالقرية ويجعلها مصدرا للجمال والصحة والإحساس بالطمأنينة؛ نجد الدكتور “زكي مبارك” رحمه الله يستوحش من هذا الخراب الذي لحق مدينة القاهرة، بل يرجو ويتمنى أن تحول إلى رياض وحدائق ذات بهجة كأنه يستغيث بجمال البادية! أو يأمل أن تتزيا هذه المدينة ببعض زيها الجميل الفتان. هذا من ناحية الجمال. أما فيما يخص جانب الأخلاق فالمدينة فيها من الاحتشاد والاختلاط ما جعل الإنسان يفقد الثقة في أخيه الانسان. فلم يعد يأمن بعضه بعضا، فضاعت تحية الإسلام بين هذا الكم الهائل من الناس، وقل الترحاب بينهما وانصرف الصحاب.. وأغلق الجار بابه فانقطع الوصال وفني الضيف وبخل المضيف!.

وأما عن البادية فحسبك ما استهل به “علي الطنطاوي مقاله الذي تلوناه على مسامعكم عن “معلم القرية” قائلا: ” أطبق حسني أفندي كتابه مغيظا محنقا على أنه لم يفهم منه شيئا، وطفق ينظر إلى الغرفة التي أكرموه بها، وآثروه بها على نفوسهم، وحلفوا له على أنها أحسن غرفة في الصنَمَيْن.” . والصنمين قرية تقرب دمشق بنحو خمسين كيلا. ص 105 والشاهد هنا هذه العبارة” وآثروه بها على نفوسهم! ” وآثروه من الإيثار؛ وخُلقُ الإيثار هنا قد خَلَقَ تفاوتا عجيبا ما بين أخلاق أهل المدينة وأخلاق أهل البادية. وهذا الخُلُق مازلنا نلمسه في أيامنا هذه كذلك.. على قلته.

ودرءا لأي تأويل خاطئ في حق ما اخترته من نُتَفٍ أو مقتطفات من كلمات الأديبين علي الطنطاوي والدكتور زكي مبارك ” فإن الأديب مع هذا قد يأتي كذلك بكلام جميل في حق المدينة، ولكن هذا ناذرا ما قد يحصل فالإنسان والأديب خاصة قد جبل على الهروب من صخب وعجيج المدينة ليستمتع بهدوء الطبيعة وسحرها الخلاب.

وهذه أديبة بارعة بقلم رائع جميل الآنسة ” فتاة الفرات” تكتب في مجلة الرسالة للأديب أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة، العدد 85، القصص. تعلن فرارها من جلبة المدينة وضجيجها المستمر قائلة. ” لقد سحقتني المدينة بجلبتها وضوضائها، ففررت بفكري المجهود وعقلي المكدود إلى قرية قائمة في وسط صحراء هادئة نائمة لأداوي بسكوتها فكري الثائر. وكنت في كل يوم ألقي بنفسي في أطهر ضواحي القرية من أنفاس الناس، فأستنشق فيها رائحة الطبيعة الجميلة تحت أشعة شمس الربيع التي كانت تسيل بغزارة من بين قطع السحاب، فتحرك النفوس الجامدة وتثير القلوب الخامدة…” لتستمر بعد ذلك في وصف القرية وجزئياتها وتفاصيلها الجميلة التي تخر من أجلها الأسماع.

وصفوة القول فجمال البادية جعلني أعتقد جازما أنها أصل لكل فضيلة، والأصل أصل ولو أغريت الناس بضده -المدينة- فلا شيء يشد النوارس إلى أوكارها، ولا الحمائم إلى محاضنها، ولا الظباء إلى أكنستها، غير ما لها من البيض الباهر، والفراخ الجائعة واليعافير النائحة في تلك الغابة النائية، وإنني لكذلك فلا شيء يشدني إلى هذه البادية غير هذا الجمال الجذاب، ولجمال نسائها وبراءة أطفالها ههنا وصف آخر وغنج لذيذ قد يأتي ذكره فيما بعد والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق