مجتمع

ذكريات وزير

الانسبكتير

د. محمد بدوي مصطفى

وصلنا بحمد الله إلى مدينة أدري بعد عناء ومشقة فوجدت شقيقي الشيخ مصطفى ينتظرني هناك. لقد سمع بالخبر في الأبيض فتجشم عناء السفر وغادرها بلوري آتيا إلينا ليقف إلى جانبي في محنتي هذه. عندما بدأت الشروع في أمور تخليص الجلود تعرفت بمكتب الدوانيه على المترجم وكان يدعى (أبّا أتيم). عمل بكنف الفرنسيين مترجما وكان يتقن لغتهم المعوجة اللسان، لغة “الواغ واغ”. عُرف عنه أنه ينطقها بنبرة إفريقية غلفاء – على حسب ما سمعت من أصدقائي السودانيين. كان رجلا متوسط الطول، مائلا للقصر، كبير الرأس، جاحظ العينين، أغبش اللون، ذو أنف خرافية عظيمة انبطحت على مقدمة الوجه فأكسبته غلظة وصرامة. بيد أنني عندما عاشرته عن كثب وحينما رافقني لكي أحلّ معضلتي، تبيّنتُ أصله الكريم وعرفته على سجيته، والسجايا مرآة القلوب. على كل حال كان رجلا طيب السريرة خالص النفس نقيها، يحب مساعدة الآخرين فيخلص فيها أيما اخلاص. عاشر النصارى– كما كان يناديهم – على مضض ورغم كرهه لهم. أخبرته بأني بحاجة إليه ليترجم لي عندما يأتي الدوانيه. سألني قائلا بعد أن استجاب لطلبي:

– لكن الدوانيه بتاع أبشي ما أداكم جواب؟

كنت بصحبة رفيق سوداني كلفه الأمين عبد الرحمن وقتذاك بتقديم الخطاب الآخر الذي كتبه لنا الكمندان جيرو في أبشي. أجابه رفيقي وقد أكفهرّ وجهه مغتاظاً من تطفل المترجم:

– أيوه أدونا جواب أهو ده! لكن أظنه للجنينة!

علّق عليه أبّا أتيم متهكما:

– هه ما عندك راس، ده لينا هنا!

ولم يستطع مقاومة حبّ استطلاعه ففتح الظرف بحركة سريعة ليقرأه. فقرأه ومن بعد أعطاه للدوانيه الفرنساوي ليقرأه، فما أن أستكمل قراءة اسطره حتى طلب منّا بعنجهية وتسلط ظاهرين، مشيرا بعسكرية:

– احضروا لي كل الطرود إلى هنا!

وقف في خيلاءه وعنتظته ينتظر وما كان من أبّا أتيم إلا أن رافقنا لنحضرها أمامه. فتحها فاحصا متفحصا وكأنه أمام بضاعة انطوت على آثار خليقة بأن تكون من كوكب آخر أو مجرّة أخرى. فلّلها وبعثرها راميا بين الفينة والأخرى الجلود هنا وهناك حتى امتلأت الأرض وتغطت بالجلود المتناثرة. وبعد لأي عثر بينها على قطع من الصوف الفاخر اشتريتها لأفصل منها بدل وبناطلين – تجهيزا لرحلاتي إلى الشرق وحماية من صقيع أروبا الكافر. كانت تتملّكه ثمة هواجس وشكوك جعلته يرجع البصر كرتين فوقع ناظريه على شوك وسكاكين وملاعلق من الفضة الفاخرة، كنت اشتريتها لأهديها لشقيقي الشيخ إكراما لأخوته الخالصة وردا لجمائله الكثيرة عليّ طيلة السنين الماضية. تمعنها ثم تمعنها وأطرق مليّاً في كنهها، ثم حرك يده اليمنى بتردد معلنا عن رفضه البات قائلا:

– أمشي لمن يجي الإنسبكتير . (بالفرنسيّة)

لكزت أبّا أتيم سائلا عما قاله، فأجابني:

– النصارى قال ليك أرجع لغاية ما يجئ المراقب!

قمت قائلا لأبّا أتيم: أسأل النصارى متي يحضر الانسبكتير؟!

كانت الإجابة المفزعة: ” بعد يومين!”

– طيب أنا أقعد وين … يعني في الشارع؟

فقلنا له أنا ورفيقي السوداني: الإنسبكتير ده نحن جايين على أبشي لقيناه راجع فورتلامي.

كانت فترة الأربعينيات تتسم بشح المواصلات وقِلّتها فضلا عن بطئها. وما كان لي إلا أن أذعن لقضاء الله فاقتعدت وصديقي وسادة أحضرتها معي وصرت أحادث نفسي في صمت: يا جماعة أنا مكثت الآن قرابة ال١٦ شهرا بمايدوغري ولم أحضر في هذه الفترة ولو لمرة إلى السودان. أأنا أرجع ثانية أبشي عشان أكلم الدوانيه ولو لم يرض، ماذا أفعل؟ أأذهب إلى فورتلامي عشان أقنع الإنسبكتير ليحضر؟ أهل يعقل هذا؟ فسكت واستطردت في نفسي قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله!

اجتلسنا الأرض حزنا وامتعاضا وسلمت الأمر لحلّال العقد، هامسا في سجيتي: الكاتل الله والحي الله! رجعت أقعد على مفرشي إلى أن يأذن الله أو أموت دونها. ففي لحظات انتظارنا المستعرة بنار الكمد أتى أحد السودانيين بلوري من الجنينة قاصدا أبشي. سردت على مسامعه الحكاية من الألف إلى الياء، فقال لي أن عبد الله هو نائب الإنسبكتير  الفرنساوي، وهو رجل مرتشي، فإن أعطيته ١٥ جنيها يخلصك على الفور من الخازوق الذي أنت به. قلت له: “أعطيه ١٥، ٢٠، ٣٠ جنيها، أو أكثر”؛ وأعدت عليه: “نعم أعطيه أي مبلغ يريده بشرط أن يخلصني من هذا الكابوس المريع.” حقيقة لم ترتح نفسي لحديث السوّاق هذا فأسررت أنه أغلب الظن يكذب، لكنني رجعت أعيد في نفسي الأوابة ساعتذاك: “فإن بعد الظن إثم” وتأهبت لصراع تهادت لظاه في الأفق القريب، مؤمنا بقولة والدي: لا يَغلِبُ عسرٌ يسرين.

كان الموظفون الفرنسيين يذهبون إلى الغداء ما بين الساعة ال١٢ والساعة ال٢ بعد الظهر، فطلب مني عبد الله، الذي أوصاني به السائق، أن أصبر إلى أن يأتي الموظف الفرنساوي قائلا: “سوف أتوسط لك عنده”. ولما جاء الدوانيه الملعون في تأني وبطء أسرعت بالقيام من مفرشي وطلبت من أبّا أتيم أن يترجم ما سوف أمليه عليه. فوجهت حديثي إليه بمساعدة المترجم:

– يا مسيو هذه الجلود كلها ملكي أنا، وفيها ما فيها من خدش وعيوب، وها هي ذا كل أوراق الترانزيت التي جلبتها معي من نيجيريا (أبرزتها له): كلها صحيحة وفي أتم السلامة. يا مسيو أنا لم أكن حاضراً عندما وصلت الشحنة إلى أبشي ولم أر حينا دسّ السائق بها ما دسّ من البضاعة المهربة فضلا عن عدم حضوري. وقلت له مستطردا: بالمناسبة، لقد علمت بأن ما أخفاه السائق من أشياء، هي حقيرة الثمن لا تصل إلى ١٠ أو عشرين جنيها.

سألني نائبه عبد الله:

– منذا الذي فحص جلودك ورآها في فورتلامي؛ من؟ أهو رجل أبيض أم أسود؟

أجبته:

– أبيض! (ثم صمت)

علّق على إجابتي ساخراً:

– هه!

أبديت أنه تشابه عليّ البقر، فاستطردته ملغيا إجابتي بسرعة قائلا:

– أسود!

أجابني:

– ديل لخباطين ساكت!

صمت الفرنساوي مليّاً ثم قائلا:

– أحضروا لي كل الطرود!

فشرع في تفحصها وامتحان دواخلها بعين الصقر، ترى ولا تذر. وقف هنيهة وأخرج من بينها جلد تمساح في غاية الجمال والروعة، ثم أخرج الشوك والسكاكين والملاعق الفضة التي رآها من قبل والتي أحضرتها لشقيقي الشيخ، ووضعها أمامه مراقباً. سأل أبّا أتيم قائلا:

– أسأل الرجل، ما ثمن هذه الأشياء؟

التفت أبّا أتيم وقد نالت الدهشة من وجهه المتجعد الأغبش كل منال، قائلا:

– النصارى قال ليك ديل ثمنهم كم؟

فقضضت بصري فيما يشبه الأسى، إذ عاودتني أصداء العمل بدواوين الحكومة وعنجهية المستعمر في شكل مستر ماير ناظر النهود ساعتذاك. كنت لا أزال أتنفس ريح الحريّة بعدما أعياني العمل في دواوين الإنجليز الحكومية. أتنفس في جوها الآمال الجديدة بيد أن حياة العمل الحرّ تجبهني كل يوم بصدمات قاسية. فلم استسلم لحيرتي لحظتئذ فنظرت إليه في حيرة، ألا أرد عليه بشيء قد يثير غضبه. توكلت على ربي قانطا من متاع الحياة الدنيا، ثم مجاهرا:

– لم أحضر هذه الأشياء بغرض البيع! قل له: يمكنه أن يأخذها بدون ثمن!!

رضي الخواجة بالأمر دون مقدمات وأستحوذ على الأشياء عن بكرة أبيها. لم يترك ولم ينس منها شيئا كما أنه لم ينبس بكلمة واحدة تنم عن شكر أو عرفان. هكذا حال المستعمر، يستعبد الناس وقد “خلقتهم أممهم – والله من قبل – أحرارا”؛ لمم نصيب الليث من الحاجيات وهيأ نفسه للانصراف، فهممت مسرعاً أن أسأله في رجاء قبل أن ينصرف مدججا بما اغتنى من الغائم، سائلا:

– من فضلك أفرج لنا عن هذا اللوري ليوصلنا لنقطة التفتيش فهي لا تبعد إلا ١٠ كيلومترات من هنا!

سكت مدّة ثم أجاب متجهما ممتعضا وكأن الأرض قد أخرجت أثقالها وأجاب بنبرة متنرفزة آمرا:

– لكن يجب على اللوري أن يرجع في الحال! مفهوم؟

قلت له وكان الغضب واحساسي بظلمه لي قد نال من جرحي كل منال. رنوت إليه حانقا:

– حاضر!

رفعنا كل طرود الجلود باللوري وساقنا حتى وصلنا نقطة الحدود في أدري وكانت آخر نقطة لحدود السودان الفرنسي إذذاك.

وصلنا سالمين غانمين إليها وتلاقينا مع العساكر فاستقبلوني بالبشر والترحاب وأحضروا لي شاي وأومأوا إليّ متكرمين بالجلوس على كرسي، أحضره أحدهم. طلبوا مني أن أصبر حتى يجيئ المسؤول ليعطي الضوء الأخضر بالرحيل. فما أن حضر ووافق، حتى قمنا أدرجانا خلل الرمال الذائبة في الأفق لا نلوي على شيء. فواصلنا المشوار حتى نقطة الجمارك في الجنينة، وانقضى الأمر بعد ولادة قيصريّة كادت أن تسلمني لأياد القنوط دون الشكر وكدت أن أفقد عقلي أو قل كاد أن يفقدني عقلي ولكن كان الله معي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق