مجتمع

مدينة فاس المغربية … أقدم مركز تعليمي في العالم

كريس غريفث وتوماس باتري

لم تتغير معالم هذه المتاهة من الممرات والدروب المتشابكة، والنوافير، والأسواق، والباحات كثيرا منذ التطور العمراني السريع الذي شهدته مدينة فاس تحت حكم الدولة المرينية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
ولا يكاد يخلو ركن من أركان المدينة القديمة من أطلال الرياض المغربية العريقة المتداعية، التي كانت يوما ما دورا وقصورا فخمة، لكن الحكومة المغربية رصدت أموالا مؤخرا لترميم المعالم والمباني الأثرية بالمدينة العتيقة، أو «فاس البالي»، التي تعد واحدة من المدن الأكثر حفاظا على تراثها التاريخي في العالم العربي والإسلامي.
كما تعد المدينة العتيقة واحدة من أكبر المناطق التي لا يُسمح فيها بدخول السيارات في العالم، إذ تعتمد على الحمير، والبغال، والعربات اليدوية في نقل البضائع عبر أزقتها الضيقة والمنحدرة.
وتزخر جدران المساجد والكتاتيب القرآنية والزوايا والأضرحة في أنحاء المدينة العتيقة بالنقوش والزخارف الإسلامية الدقيقة، والفسيفساء المغربية الخلابة، وهي بلاطات صغيرة تصطف بجوار بعضها البعض في تصميمات هندسية على الطراز المغربي. لكن مبنى واحدا في قلب المدينة العتيقة يُسحر عقول الزوار ويأسر قلوبهم.
تأسست جامعة القرويين في عام 859 ميلاديا، مع بداية تأسيس مدينة فاس التي اتخذها الأدارسة عاصمة لدولتهم، وصنفتها اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية كأقدم جامعة لا تزال تعمل دون توقف على مستوى العالم.
صحيح أن هناك مواقع تاريخية وأثرية أخرى – مثل جامعتي «تاكسيلا» و»نالاندا» الهنديتين- أقدم من جامعة القرويين، وأن المجتمعات السومرية القديمة شرعت في تأسيس مدارس الكتابة (آي-دوبا) قبل عام 3500 قبل الميلاد، لكن جامعة القرويين تستحق الرقم القياسي بجدارة لأنها لم تتوقف عن نشر العلم والمعرفة منذ تأسيسها وحتى الآن. فضلا عن أنها أول مؤسسة تعليمية تمنح درجات علمية في العالم.
ويضم المجمع، الذي يوجد في قلب المدينة العتيقة، مسجدا وجامعة وخزانة كتب، ويتصل من جوانبه الأربعة بشبكة الأزقة والممرات المتشابكة بالمدينة العتيقة. ويطل سطح الجامعة المغطى ببلاطات خضراء على الامتداد العمراني لمدينة فاس.
إلا أن القصة وراء نشأة هذه المؤسسة العريقة قد تكون أكثر إبهارا من تصميمها. فمنذ مطلع القرن التاسع وحتى منتصفه، ازدهرت المدينة الوليدة وأصبحت تُشَد إليها الرحال، وهاجرت إليها فاطمة الفهرية برفقة أختها مريم من مدينة القيروان بتونس، واستقر بها المقام وتزوجت في فاس. وبعد أن قضى والدهما نحبه، قررت الأختان أن تهبا ميراثهما لخدمة المجتمع الذي انتقلا للعيش فيه بتأسيس مسجد وجامعة القرويين.
خصصت مريم نصيبها من الميراث لبناء المسجد الأندلسي في وسط المجمع. ويسع المسجد، المزدان بالنقوش والزخارف من الداخل، ما يصل إلى 20 ألف مصلٍ، بينما كرست فاطمة مالها ووقتها وطاقتها لبناء مركز لنشر العلم والمعرفة بين أهل فاس على أن يكون مجاورا للمسجد.
ويُقال إن فاطمة من شدة إخلاصها وتفانيها، قررت أن تصوم حتى يكتمل بناء المجمع، وذكرت بعض المصادر أنها صامت لمدة 18 عاما.
ولا يُسمح لغير المسلمين بدخول الجامع، لكن أغلب السياح يلقون نظرة على صحن المسجد الفسيح ونقوشه اليدوية الدقيقة والأقواس والنوافير من خلال الأبواب الضخمة للجامع في جوانبه الأربعة.
وتطل أسطح المباني بالمدينة العتيقة على مناظر تخلب الألباب، فترى منها المسجد ومئذنته البيضاء، التي ينطلق منها صوت الأذان فتتردد أصداؤه في أرجاء المدينة.
إلا أن شكل المجمع وتصميمه المعماري لن يكون واضحا عندما تنظر إليهما من الأرض، لأن المباني تكاد تكون متلاصقة، إلى درجة أن الأسطح تلامس بعضها بعضا، بل وتتداخل مع بعضها فوق الممرات الضيقة. لكن القباب والأقواس الضخمة والجدران الخشبية قد تساعد الزوار في تحديد الشكل العام للمجمع.
ويمتلئ المسجد بالزخارف والنقوش الدقيقة، مثل سقف المسجد المزدان بالرسومات المفعمة بالتفاصيل في المدخل الرئيسي. وقد صُمم المبنى من الداخل في عهد دولة المرابطين، الذين عملوا على توسيع المسجد وباحات الصلاة في القرن الثاني عشر.
وتوالت أعمال التطوير والتغيير في المسجد في القرون اللاحقة. وفي عهد دولة الموحدين، الذين بسطوا سيطرتهم على مساحات شاسعة من المغرب والمناطق الجنوبية من أسبانيا بعد قيام دولتهم على أنقاض دولة المرابطين في القرن الثاني عشر، زُين المسجد بالزخارف ذات الطراز الفني المغربي، وبدا جليا تأثير التصميمات الأندلسية في النافورة الوسطى المصنوعة من الرخام.
وأُضيفت النافورتان، اللتان تشبهان نافورة باحة الأسود في قصر الحمراء بغرناطة في أسبانيا، إلى صحن المسجد في مطلع القرن السابع عشر.
ومع مرور السنين، تحول جامع القرويين من مسجد ملحق به مدرسة لتعليم القرآن ومكتبة متواضعة، إلى مؤسسة تعليمية ملأت شهرتها الآفاق، تمنح درجات علمية في مختلف المجالات، وتوافد إليها الدارسون والباحثون من مختلف أصقاع العالم طلبا للعلم.
وكان اهتمام المدرسة، في بادئ الأمر، منصبا على العلوم الدينية، لكنها توسعت فيما بعد إلى تدريس علوم اللغة، والنحو، والقانون، والموسيقى، والمذهب الصوفي، والطب، وعلم الفلك. وفي عام 1947، أصبحت جامعة القرويين جزءا من نظام التعليم الحكومي في الدولة.
وبموجب ظهير (أي مرسوم) ملكي مغربي صدر عام 1963، بعد انتهاء فترة الحماية الفرنسية التي كانت مفروضة على المغرب، باتت الجامعة تخضع لنفس النظام التعليمي المعمول به في الجامعات الحديثة. وفي عام 1965، سُميت رسميا جامعة القرويين.
وتلقى العلم في قاعات الجامعة ذات الجدران المزدانة بالفسيفساء الكثير من العلماء، وكان من أبرزهم الفيلسوف ابن رشد في القرن الثاني عشر، والبابا سيلفستر الثاني، الذي يُقال إنه نقل الأرقام العربية التي تعلمها في الجامعة إلى أوروبا في القرن العاشر، والفقية ابن الحاج العبدري الذي ولد في القرن الثالث عشر، وتُوفي في القرن الرابع عشر، والدبلوماسي الأندلسي الأمازيغي ليون الأفريقي.
ويقال إن الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، الذي اشتُهر بكتاباته عن المبادئ الأخلاقية والشريعة اليهودية في القرن الثاني عشر، كان على صلة بالمدرسة.
واهتم المرينيون بتوسعة خزانة الكتب في عام 1359، وأضافوا مساحة شاسعة تحوي آلاف المخطوطات، منها أكثر من 20 ألف كتاب يعود تاريخها إلى مطلع القرون الوسطى، وأربعة آلاف نص ووثيقة نادرة.
وتعد الآن خزانة كتب القرويين، التي تحوي بعض أقدم المخطوطات في التاريخ الإسلامي، إحدى أهم المكتبات في العالم العربي والإسلامي، لا سيما بعد أن حُرقت الكثير من المخطوطات المهمة، ودُمرت مكتبات بأكملها في بعض البلدان العربية الأخرى، مثل مكتبة جامعة الموصل بالعراق، في غمرة الحروب التي شهدتها في السنوات الأخيرة.
وتحوي خزانة القرويين نسخة من القرآن الكريم مكتوبة بالخط الكوفي تعود إلى القرن التاسع، ونسخة من السيرة النبوية تعود إلى القرن العاشر، ومجموعة نصوص على شكل أرجوزة طبية كتبها ابن طفيل في القرن الثاني عشر، وكل هذه المخطوطات مُصانة داخل خزانة الكتب.
وفي أثناء عملية الترميم المكونة من مراحل عديدة، التي أجريت ما بين عامي 2012 و2016، أقيم مختبر متطور لترميم المخطوطات التاريخية وضمان الحفاظ عليها لتستفيد منها الأجيال المقبلة.
كما تحتضن خزانة القرويين مخزنا بُني في القرن السادس عشر، له باب مصفح مزود بأربعة أقفال، ويتطلب فتحه أربعة أشخاص يحمل كل منهم مفتاحا، وصُمم هذا النظام خصيصا لحماية المخطوطات التي لا تُقدر بثمن فقط. ويحمل عبد الفتاح بوكشوف، محافظ خزانة القرويين، المفتاح الوحيد للقفل الذي لا يزال يعمل.
وبعد تلقي وزراة الثقافة المغربية منحة ضخمة من المصرف العربي الكويتي في سبيل حفظ التراث الثقافي، أُعيد افتتاح جناح صغير من المدرسة للجمهور في عام 2016، وأصبح بإمكان السياح مشاهدة النقوش الدقيقة ولوحات الفسيفساء الخلابة، وكذلك غرف الدراسة وغرف الإيواء.
وفي عام 2012، كلفت الوزارة عزيزة شاوني بترميم الجامعة، واستعان العمال والمهندسون بالمواد المحلية، كلما أمكن، ونجحوا في ترميم لوحات الفسيفساء بعد جهد شاق، بالإضافة إلى إصلاح وتغيير أساسات المباني وتركيب نظام صرف صحي حديث، وتركيب بلاطلات السطح الخضراء المميزة من جديد.
وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة العلمية العريقة أسستها امرأة منذ ما يربو على ألف عام، إلا أنها لم تشهد زيادة في أعداد الطالبات إلا في السنوات الأخيرة، بسبب العادات والتقاليد المقيدة لخروج المرأة، التي امتدت لقرون طويلة.
لكن أبواب الجامعة الآن مفتوحة أمام جميع الطلاب، بغض النظر عن دينهم أو جنسهم، وإن كانت تشترط حصول الدارسين والعلماء على إذن مسبق قبل دخول الجامعة.
(نقلا عن BBC عربي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق