ثقافة وفن

“وتحملني حيرتي وظنوني”.. سيرة التكوين والحلم والشجن

عبد العزيز كوكاس

هي سيرة مختلفة في أسلوبها وفي شكل استعادتها لوقائع معيشية وشمت ذاكرة وشخص مؤلفها، وفي كيفية بنائها لأحداث وقعت في زمن ولى، أنتجت ما أصبح عليه الكاتب سعيد بنكراد الآن وهنا، هي سيرة لمسار التكوين الفكري يعبر بنا من خلالها السارد في سراديب وقائع فيها المعيش الماضي المعاد بناؤه وفق منظور ما أصبح عليه الطفل سعيد… سيرة موشومة بالأمل والفقر والحرمان والتجدي، بالعذابات القاسية والألم الذي عرفه المغرب في سنوات الرصاص، هي سيرة جيل مختصرة في جسد كاتب مبدع، يعيد بناء الوقائع والأحداث بما أصبح عليه اليوم، حيث تعيد اللغة إعطاء معنى وجودي أكبر للفرح والحزن، للأمل والألم.. عبر إعادة سرد ما عاشه منذ طفولته.

ليس هدفي هنا سوى أن أقود القارئ الكريم في رحلة استكشافية لأبرز المفاصل في نص مفتوح، يشكل دليل غواية، تُبنى فيه تجربة معرفية وإنسانية من خلال وشمها الخاص وعبرها نكتشف مسار تحولات مجتمع بأكمله، إن الماضي في نص سيرة سعيد بنكراد يعاد بناؤه بلغة شفيفة تحاكي لغة الجسد أحيانا وتطرح قضايا فلسفية وأدبية بعمق كبير خاصة في الفصول الأخيرة، يقول الكاتب في تقديم سيرة تكوينه، التي حملت عنوانا ذا إيقاع شعري لا تُخفى فتنته وبهجة إيقاعه “وتحملني حيرتي وظنوني”: “ما كان يشدني إلى الوقائع التي أروي بعض تفاصيلها في هذا النص هو تلك السيرورة التي تحول من خلالها ما عشته حقا إلى تجربة جديدة تبنيها الكلمات وحدها. فوجودنا في اللغة كان دائما أوسع وأرحب من وجودنا في حقيقة الواقع، إنها إخراج لغوي لحياة تمت في غفلة منا. لقد حاولت من خلال ذلك الإمساك بخيوط شتى هي ما مكنني، من بناء قصة تتميز بالوحدة والانسجام. يتعلق الأمر بوضع اليد على الفجوة الرفيعة الفاصلة بين الاستيهام والحقيقة، بين ما عشته فعلا وبين ما أضافته اللغة لحظة الترتيب والتركيب وما قُدم وما أُخر وما أعيدت صياغته وفق وعي اليوم لا استنادا إلى ما وقع قديما، وتلك هي مخلفات صمت الفواصل والبياض واللامحدد في الذاكرة”.

لا فضل لي فيما أقدمه هنا، غير القفز على الكثير من الوقائع بغية العثور على رأس خيط الحكاية وتتبع مسارها، كما وردت بلغة الكاتب وأسلوبه الممتع، بغية تقريب القارئ من كاتب ثري ومن كتاب مبهج، لا يُغني هذا المقال عن قراءته والوقوف على فتنته خارج أي اختزال لحكاية مبنية بوجع وبتأمل عميق..

اليتم في اللغة أشد إيلاما..

“كانت بداياتي الأولى في الكُتّاب وفي المدرسة بعد ذلك.. كنا نقطن في منطقة فلاحية تسمى لعثامنة على بعد كيلوميترات قليلة من مدينة بركان.. كان والدي فلاحا بسيطا يعمل في أرض كان يزرعها خضرا وفواكه وبرتقالا، وفيها رأينا النور جميعا أنا وإخوتي الخمسة،

قيل لي إن والدي كان أثيرا عند جدي وجدتي وأعمامي وعماتي. توفي في سنوات عمري الأولى، وتغير كل شيء في حياتنا، كان هو المعيل الوحيد لعائلة من ستة أفراد. وعندما مات، وكان في الخامسة والأربعين من عمره، ترك فراغا كبيرا وشعر الجميع أن العائلة فقدت رأسها قبل الأوان. وتكفلت والدتي بتربيتي. كان أخي الأوسط، التهامي، ما يزال صغيرا حينها، ومع ذلك سيتحمل عبء إعالة عائلة بأكملها. وسيلتحق بالعمل في ضيعات المعمرين. وهو من سيتكلف بعد ذلك بمصاريف دراستي.

كانت بداياتي الأولى في عالم القراءة والكتابة في الكُتاب بطبيعة الحالة، وعندما بلغت السابعة من عمري التحقت بالمدرسة. ولهذه “النقلة النوعية” في حياتي قصة غريبة. لم يكن واردا في ذهن أمي والعائلة كلها أن أذهب إلى المدرسة بعد أن توفي والدي. وحدث مع بداية أكتوبر أنني كنت ألعب على جنبات الطريق التي تمر بمحاذاة منزلنا، فمرّ بي مجموعة من الأطفال صحبة آبائهم، وسألت أحدهم عن وجهتهم، فأخبرني أنهم ذاهبون إلى المدرسة. فانضممت إليهم، ووقفت وحدي في الطابور، إلى أن وصل دوري، فسألني المكلف بالتسجيل عن والدي وأخبرته بموته، وسألني عن إسمي واسم والدي ووالدتي ودوّن اسمي في السجل. وهكذا أصبحت تلميذا بالمصادفة وحدها.

كانت هذه المدرسة تبعد عن منزلنا بثلاثة كيلوميترات تقريبا، وكانت تسمى “مدرسة الخُضران”. كانت عبارة عن حجرات بُنيت على عجل بعد رحيل الاستعمار وسط أشجار الليمون، كانت الساحة بلا غطاء ولا وجود لصنابير المياه ولا للمراحيض. ولا وجود لنقل مدرسي ولا مطاعم. لم يكن هناك سوى العراء… وظللنا نتردد عليها مدة سنتين. انتقلت بعدها إلى مدرسة أخرى كانت قريبة نسبيا من منزلنا، تسمى اليوم مدرسة “يوسف بن تاشفين” في مركز العثامنة. وفي هذه المدرسة حصلت على الشهادة الابتدائية، لأنتقل من مدينة بركان تلميذا في إعدادية ابن رشد وكانت تبعد عن منزلنا بعشرة كيلومترات.

كنا فقراء، نمشي صباحا إلى المدرسة ونعود مساء على الأقدام، كان الطين في أيام الشتاء يلطخ أقدامنا العارية، وكان التراب الحار في الصيف يُدميها. وكان رغيف الخبز الحاف هو زادنا اليومي، لا فواكه ولا حلويات ولا مشروبات غازية غير ما تجود به الآبار من مياه كما هي دون معالجة أو تطهير.

وحدث مرة أخرى أن كان درس المحادثة هو “اليتيم”. لم أكن حينها أعير اهتماما لهذه الكلمة، ولم يكن لها أي وقع على نفسي، فوجود أمي وحنانها كانا كافيين لأستمر في الحياة وأتمتع بطفولتي وانطلاقها. وقدم المعلم تعريفا كما هي العادة: اليتيم هو من مات أبوه أو أمه. وبدأ التلاميذ يرددون التعريف في حماسة شديدة، واندفعت بدوري أردد التعريف بنفس حماستهم. وفجأة انتبه المعلم إلي، ويبدو أنني كنت اليتيم الوحيد في القسم. فتوجه إلى التلاميذ قائلا: سعيد يتيم لأنه فقد أباه. وانطلق التلاميذ من جديد يرددون اللازمة، واستمر الصراخ، فانفجرت باكيا. وما كان من المعلم إلا أن توجه إلى التلاميذ من جديد ليسألهم: لماذا يبكي سعيد؟ ثم يجيب عن سؤاله: سعيد يبكي لأنه يتيم. وانطلق التلاميذ من جديد يرددون فيما يشبه النشيد السؤال وجوابه، ولم يتوقفوا إلا مع نهاية الدرس وكانت عيناي قد احمرتا من شدة البكاء.

ويومها فقط أدركت معنى اليتم. لقد عشته حقيقة موضوعية منذ سنوات عمري الأولى، وتعودت على العيش مع والدتي، كما كان يفعل إخوتي. ولم أنتبه إلى “اليتم” كما تسميه هذه الكلمة أبدا في حقيقة معيشي اليومي. ولكن عندما أصبحت يتيما في اللغة تغير كل شيء.

سحر القراءة وجاذبية الكتاب

سأتعرف على سحر الكتاب بفضل معلم لن أنساه أبدا. كان اسمه السي البكاي رحمه الله. كان معلما في منطقة أخرى بعيدة عن العثامنة، ولكنه كان يتردد على منزل والديه في أيام العطل. ومدّني في إحدى زياراته بكتاب وطلب مني قراءته. فرحت بالكتاب وانكببت على قراءته وأعدته إليه، لا أذكر موضوع هذا الكتاب ولا عنوانه. المهم أنني قرأته، ولا أعرف هل فهمت شيئا مما قرأت أم لا. الأهم أيضا من كل ذاك أنني تعودت على القراءة.

وعندما تمكن مني حب الكتاب، كنت ألجأ إلى أختي التي كانت تملك آلة خياطة. كانت هذه المرأة خياطة ماهرة وكانت تتمتع بذكاء غريب. كانت تجتهد وتبدع في كل أنواع التصاميم، على الرغم من أنها لم تذهب إلى مدرسة الخياطة ولم تذهب إلى المدرسة قط… وكانت هي التي تزودني ببعض المال لكي أشتري كتبا في السوق الأسبوعي في مدينة بركان.

كنت أقضي الليل كله أقرأ الروايات. وكانت والدتي تستيقظ عند الفجر لتهييء فطور أخي قبل أن يتوجه إلى العمل في إحدى ضيعات المعمرين، ويثيرها الضوء في الغرفة التي كنت أقتسمها مع إخوتي فتصرخ بي: كف عن القراءة ونم ستستهلك الغازي الذي في الفانوس. كنا فقراء وكان لقطرة الغاز أو للشمعة قيمة كبيرة. ولكنني كنت أواصل القراءة. كنت مشدودا إلى العوالم التي تصفها الكتب، كانت تلك نافذتي من أجل الإفلات من محدودية المحيط وشظف العيش.

ستجرفني موجة اليسار الجديد إلى العذاب

وصلت أصداء اليسار الجديد إلى ثانويتنا، كانوا يطلقون عليه “الجبهة” ولم أكن أعرف مصدر هذا الاسم ومن أطلقه، وسأعرف، سنوات بعد ذلك، أن الأمر يتعلق بتحالف عُقد بين منظمة 23 مارس ومنظمة إلى الأمام من أجل خوض معركة المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في جامعتي الرباط وفاس.. كل ما كنا نعرفه حينها أن الأمر يتعلق بقوى سياسية جديدة تريد القيام بالثورة على النظام القائم وتقضي على كل أشكال الظلم. لم أكن أعرف الشيء الكثير في السياسة، في حقيقة الأمر، ولم يكن لدي أي اطلاع على هذا التنظيم، كان أغلبنا يتحدث عن “منظمة” ثورية تريد الإطاحة بالسلطة، ولكن لا أحد كان يعرف أعضاءها، أو على الأقل أنا لم أكن أعرف منهم أحدا. كانت الإضرابات لا تتوقف، ولم نكن في الكثير من الأحيان نعرف أسباب الإضراب ومطالبه، شيء واحد كان يدفعنا إلى مقاطعة الدراسة هو الإحساس بالتهميش والظلم والغبن والحكرة.

وقبض علي الدرك ذات مرة بعد موجة الإضرابات هاته، اعتقلوني من المنزل أمام أمي وأخوتي وساقوني إلى المركز. لم أقض في حضرتهم سوى ليلتين وأطلقوا سراحي لصغر سني، أو ربما لجهلي بما كان يجري حقيقة.

وتوقفت الإضرابات وعدنا إلى الثانوية واجتزنا الامتحانات وحصلت على شهادة الباكالوريا، لألتحق بعدها بمدينة فاس طالبا في كلية الآداب في شعبة اللغة العربية.

حللت بمدينة فاس طالبا، وكان ذلك سنة 1974، وانتسبت إلى شعبة الأدب العربي في كلية الآداب التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله.. كان الكثير من أساتذتنا في تلك المرحلة من مصر وسورية والعراق. وكانوا في أغلبهم تقليديين في المنهج وفي طريقة التدريس وطريقة الحضور في القاعة نفسها. يستثنى منهم فئة قليلة كانت مسيسة وتتمتع بتكوين أكاديمي عميق. ومن هؤلاء عز الدين إسماعيل وفؤاد الماوي ومنير موسى، ومن المغاربة محمد السرغيني ومحمد برادة وحسن المنيعي وأحمد المجاطي ومحمد سبيلا… كان أغلب الأساتذة المغاربة شبابا، تخرجوا من جامعات المشرق العربي، من العراق ومصر وسورية. ومع ذلك كانوا حداثيين في السياسة أو في الأدب أو في كليهما. وقد حاولوا بطرقهم الخاصة أن يبعثوا الحياة في ما يُلقى علينا من شعر ورواية ومسرح. وقد استفدنا كثيرا من هؤلاء جميعا.

وكان الطيب بالغازي حينها أحد القادة الديناميكيين في تيارنا، كان طالبا في شعبة الإنجليزية، ولكنه كان متمكنا من العربية ويجيد التعبير بها في السياسة والخطاب التعبوي. كان سريع البداهة وكثير المبادرات، وله القدرة على إشعال الفتيل أو إطفائه. وأذكر أننا كنا نوزع أنا وهو بعض المناشير ليلا، ومنها منشور طُلب منا توزيعه على عمال النسيج في المعامل الكثيرة التي كانت تحيط بالكلية، وكان موقعا، يا للغرابة، باسم “الحزب الماركسي اللينيني” (ولا أعرف مصير هذا الحزب الوهمي). وسيكون هو رفيقي في رحلة الهرب خارج الوطن، متوجها إلى فرنسا عبر الجزائر. وستنتهي رحلتي في هذه الكلية بالاعتقال والسجن.

الاعتقال والتجربة المريرة للتعذيب

أتذكر الكثير من تفاصيل ليلة الاعتقال هاته.. كنا في رحلة إلى الرباط من أجل “المشاركة” في “معركة نضالية” كان يخوضها رفاقنا هناك.. كنا نريد مد يد العون لهم، فنحن كنا في ظهر المهراز نعتبر أنفسنا القوى الرئيسية لليسار في الجامعة المغربية، فنحن أصل الحركة ومهدها، أو هكذا خُيل لنا. ولكننا كنا نعرف أيضا أن السلطة لن تفوت هذه الفرصة، وستعتقلنا لا محالة. وأذكر أيضا أن مدير الحي الجامعي، وكان رجلا يتميز بحس إنساني غريب، حذرنا من السفر، وحذرني أنا شخصيا من هذه المخاطرة بما يوحي أن رجال الشرطة وضعوا فعلا كمينا لاعتقالنا. ومع ذلك أصررت على الذهاب وكان معي محمد مسكين رحمه الله والكثير من الرفاق الآخرين، فنحن لن “نتخلى” عن رفاقنا في الرباط.

وهكذا كان.

فبمجرد ما غادرت الحافلة التي تنقلنا مدينة فاس، وكان الوقت ليلا، حتى خرج من بين الأشجار فيلق كبير من رجال الشرطة من كل الأقسام كانوا في انتظارنا. أوقفوا الحافلة، ركب البعض منهم معنا وأمروا السائق بالعودة إلى فاس.. أخذونا جميعا إلى ساحة كبيرة وسط المدينة، وكانت تُستعمل معرضا، وأنزلونا هناك جميعا وأخلوا سبيل الحافلة. ومن هذا المعرض سينتقون الطلبة المستهدفين وسيأخذونهم إلى قسم الشرطة الرئيس في فاس وأخلوا سبيل الآخرين.

أما نحن، رؤوس الفتنة، فقد رحّلونا إلى القسم المخصص للشرطة القضائية والسياسية في مقر للشرطة كان يطلق عليها Ravin (الوادي) في حي الليدو، وكان قريبا من الجامعة، وكان مشهورا بأنه مخفر للتعذيب.. وضعوا مجموعة منا في زنزانة واحدة، وفصلوني عنهم ووضعوني في زنزانة انفرادية، وكانت صغيرة جدا ووسخة فيها مرحاض تفوح منه رائحة كريهة. وكان صنبور المياه يُفتح بالتقسيط. حينها ستبدأ رحلة تعذيب استمرت لأكثر من شهر.

بدؤوا بتعذيبي، واستمر هذا التعذيب لفترة طويلة دون أن يوجهوا إلي أي تهمة ولم يضعوا علي أي سؤال. انهالوا علي بالسوط والكرباج والرفس والركل والشتائم بكل اللغات. شدوا وثاقي وانهالوا علي بسوط خاص ليحدثوا أكبر قدر من الآلام. كانوا يشتمونني ويشتمون أصلي وفصلي، ونعتوني بكل الصفات.

عندما حل المساء، أخذوني معصب العينين إلى مكتب في الطابق الأول. حينها فقط أزاحوا العصابة عن عيني ووقفت أمام ضابط برتبة كبيرة فيما يبدو، وكان بجانبه مجموعة أخرى من الضباط ومنهم الجلادون، وفي الطرف القصي من المكتب كان هناك موظف صامت أمام آلة الكتابة وكان يكتب كل ما يُقال. وبدأت الأسئلة… أجبت عن كل ما له علاقة بتاريخ حياتي، ولكنني أنكرت كل شيء غيره، أنكرت انتسابي إلى منظمة 23 مارس، وأنكرت أن يكون لي رفاق، وأنكرت أن أكون قائدا في التنظيم الطلابي..

واصلوا تعذيبي أياما عديدة، كان الجلادون دون رحمة… تعفنت قدماي من شدة الضرب بالكرباج، ولم أعد قادرا على الوقوف أو المشي أو الحركة داخل الزنزانة، ولم أعد قادرا على قضاء حاجاتي الطبيعية في المرحاض. وأصبت بحمى شديدة، وبدأت أرتجف وأهذي وأصرخ من الألم. كنت أدخل في غيبوبة لساعات ثم أستفيق، ويعاودني الألم ثم أغفو، وقد اختلط علي النهار بالليل ولم أعد أعرف كيف أفرق بينهما، وبقيت على تلك الحال أياما لا أذكر عددها.

وحينما اشتدت آلامي وتعذر عليهم مواصلة تعذيبي، حملوني إلى مستوصف صغير في حي سيدي إبراهيم، وكان قريبا أيضا من الجامعة. وعندما أدخلوني إلى غرفة التطبيب، نظرت الممرضة المكلفة بالاستعجالات إلى قدمي المتعفنتين فسألتني بدهشة عمن فعل بي كل ذلك المنكر، وأشرت إلى الضابطين، ولاذت بالصمت. فحقنتني بحقنة، وقامت بغسل رجلي بمحلول كحولي ووضعت عليهما مرهما وضمادة كبيرة وأعطتني بعض الحبوب لأتناولها في مقر “إقامتي”.. وعندما عدت إلى الزنزانة تذكروا ما قلته للممرضة، فانهالوا علي بسيل من الشتائم بدأت بديني وأصلي وانتهت بالعضو التناسلي لأمي وأختي وأهلي أجمعين.

وتماثلت للشفاء.

خبزة لي وخبزة للفأرة المعتقلة معي

كان الاعتقال في شهر أبريل، وكان الجو باردا في الليل ولكنه كان دافئا ومحتملا في النهار. كنت أنام على الإسفلت، بلا غطاء ولا وسادة ولا أي شيء. ولن أكن أرتدي ألبسة تحميني من البرد. كان لباسي عبارة سروال من الثوب العادي وسترة من الدجين. ولم تكن كافية لتقيني من قسوة البرد. كان الشرطي المكلف بالحراسة يوزع علينا في الصباح خبزة كانوا يطلقون عليها البيدانصي pénitencier… وكانت هي غذائي الوحيد اليومي. كان الشرطي يأتيني أحيانا ببعض الأكل من الزنازن الأخرى. وطلبت من الشرطي أن يأتيني بخبزتين، لكي آكل واحدة وأتوسد الثانية. وبالفعل جاءني في اليوم الموالي بخبزة إضافية.

وبما أن المصائب تأتي تباعا، فقد انضافت إلى مآسي مصيبة أخرى، أياما بعد ذلك. ذلك أنني وجدت نفسي ذات يوم أمام جرذ كبير خرج من مرحاض الزنزانة. فأصابني رعب شديد، وخشيت أن أنام ويلتهم يدي أو رجلي. طلبت من الشرطي مرة أن يأتيني بخبرة ثالثة لأعطيها للجرذ استرضاء له. ويبدو أن فضل السجن كان كبيرا علينا، فلم يتردد فأعطاني خبزة ثالثة. كنت أقضي الليل تقريبا يقظا أغني أو أقرأ الشعر بصوت عال أو أناجي نفسي، كان البرد يمنعني من النوم، وكان الاستلقاء على الاسفلت دون فراش أو غطاء يسبب لي الكثير من الأذى. وتعودت على ذلك بعض الوقت. وكنت أستلقي في النهار على الأرض وأتوسد الخبزة وأسهر الليل كله…

سأختطف من قلب السجن بعد ذلك وسيضعونني في سيارة… كانوا يريدون أن يتأكدوا من رسالة ضُبطت عند شخص آخر كنت أنا من كتبها وشتمت فيها كل السلطات، فألقي القبض عليه في مدينة وجدة واعترفت بأنني أنا كاتبها. وكان معنى ذلك تحمل حصة التعذيب الآتية التي ستكون هي الأخيرة، ولكنهم لم يعذبوني هذه المرة أيضا.

وسيمارس الجلادون علي في المراحل الأخيرة في أقبية الشرطة، قبل أن أنقل إلى سجن عين قادوس، الأسلوب نفسه. بدؤوا بصب الماء على فمي وقاومت بعض الوقت ولكنني لم أستطع، فشعرت بالاختناق، فرقعت أصبعي، وتوقفوا، حينها قلت لهم: أشهد أن لا إلاه إلا الله، فما كان منهم إلا أن أعادوا العملية مرة ثانية، وكانت هذه المرة أطول من الأولى وأشد عذابا، فرقعت أصبعي من جديد، ترددوا بعض اللحظات ثم توقفوا عن صب الماء ورفعوا الخرقة عن وجهي، ونطقت بالشهادة للمرة الثانية، ولم أقل شيئا. ثم عادوا أكثر عنفا وقسوة من المرتين السابقتين، وواصلوا صب الماء وشعرت بالاختناق ورفعت أصبعي للمرة الثالثة، ثم رفعته، ظل أصبعي مرفوعا، ولم يتوقفوا وواصلوا صب الماء، وشعرت بالاختناق، وسقط الأصبع وأغمي علي وفقدت الوعي نهائيا.

سلسلة من التعذيب القاسي ورحلة العودة من الموت

لا أعرف كم من الوقت قضيت في هذه الغيبوبة التامة. ما أذكره أنني وجدت نفسي، وأنا بين الحياة والموت، ملقى على الإسفلت وكان أحد الجلادين يصب علي سطلا من الماء البارد، وكان أحد مرافقيه يقول: آدين أمه حسابني مات. وكانت تلك أول جملة تلتقطها أذناي بعد عودتي من الموت. وكانت تلك آخر مرة أخضع فيها لحصة تعذيب. فقد ألهموني بعض الوقت، ولم يسألوا عني، إلا عندما بدؤوا في تحرير محضر كتبوا فيه ما أرادوا، ولم يكلفوا أنفسهم مطالبتي بتوقيعه.

الهرب إلى فرنسا بجواز مزور

دخلت فرنسا هاربا من السلطة بجواز سفر مزور، كان ذلك سنة 1981، وسأنتسب إلى جامعة السوربون في باريس. وتلك كانت البداية الحقيقية في رحلة فكرية لم تنته لحد الآن. أشياء كثيرة ستتغير في حياتي. كان اللقاء مع الوسط الجامعي الجديد قويا وعنيفا ومستفزا ومثيرا. أحسست، بما يشبه الحرقة، ألا قيمة لكل ما تعلمته في ميدان الأدب والنقد… شهادة للتاريخ: للأستاذ حنون مبارك، الذي كان قد سبقني إلى فرنسا، وكان قد ناقش رسالته الجامعية، فضل كبير في تسجيلي في الكلية، فهو الذي سحب الملف وهو الذي خاناته وأرشدني إلى المصالح المختصة في التسجيل، بل وهو الذي أشار علي بالأستاذ المشرف،

وكانت فرنسا مضيافة كعادتها. فأنا القادم إليها من الجنوب الفقير والمتخلف، بجواز مزور، بلا أوراق إقامة ولا مسكن ولا مال ولا مصالح قنصلية تحميني ستقبل بتسجيلي في أكبر مؤسساتها العلمية، برسوم لم تتجاوز المئة فرنك حينها (ما يقابل مئة درهم).

اشتغلت في دار نشر كانت متخصصة في طباعة المصاحف، وكان مقرها في مدينة بانتانPantin في الضاحية الشمالية لمدينة باريس، وكان يحكمها الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان صاحبا المطبعة لبنانيا وإيرانيا. كنا نقوم ليلا بوضع ورقتين في صفحتين من صفحات المصحف لتحديد خطأين، ليأتي في الصباح آخرون ليصححوهما. والغريب في الأمر أن الناشر كان يشير في الصفحة الأولى إلى أن هذا المصحف طبع في المملكة العربية السعودية.

ومن طرائف هذه الأعمال، أنني كنت ذات مرة أشتغل في مدينة في الضاحية الغربية لباريس، وكان علي أن أقف في ملتقى طرق وأحصي السيارات الآتية من طريق رئيسي في اتجاه باريس، وبيدي آلة للعد (الغاية من ذلك تنظيم حركة المرور في المدينة). فوقفت بجانب متجر كانت كل واجهاته زجاجية وبدأت أعد السيارات. كان البرد قارصا شديدا لا يُحتمل. وكنت أعد وأرتجف. فانتبهت لي سيدة كانت داخل المتجر، وهي صاحبته. فنادت علي، وادخلتني إلى المتجر الذي كان به مكيف هوائي ينشر الدفء داخله، وقالت لي: ستجلس هنا داخل المتجر وتستطيع عد السيارات فالزجاج لن يمنعك من القيام بذلك. وأشارت علي بمكان لم يكن في واقع الأمر سوى تابوت. فقد كانت السيدة تبيع التوابيت في دكانها.

دخلت باريس منفيا وغادرتها باكيا

غادرت باريس باكيا. كنت قد ألفت أجواء هذه المدينة وتعودت التردد على مكتباتها والتجول في شوارعها والمشاركة في مظاهراتها. باريس مليئة بالحياة، إنها وحيدة عصرها، فهي لا تشبه مدن العالم، إنها مدينة الحب والجنون والضياع.

قال لي مصطفى وهو يقود السيارة في طريق العودة: انظر، تشير اللوحة. إلى أننا على بعد 30 كيلومتر من باريس نوتردام، إنهم يخيرونك فيما يبدو بين الاستمرار في رحلة العودة أو الرجوع إلى باريس. فانفجرت باكيا. كنت لحظتها طفلا انتزعوه من حضن أمه. لم أقض في باريس زمنا طويلا، كانت فترة قصيرة هي سنوات الدراسة الأربع، ولكنها كانت كافية لكي أقع في عشق هذه المدينة وسأظل أعشقها إلى الأبد. ولكننا واصلنا الطريق، لنصل بعد ثلاثين ساعة إلى الحدود المغربية حيث أوقفونا لمدة عشر ساعات في مركز الشرطة، وكان ذنبي الوحيد أنني معتقل سياسي سابق وأحمل كمية كبيرة من الكتب. وكان ذلك كافيا لإيقاظ الشك عند المسؤولين الأمنيين في الحدود.

كنت أحمل في السيارة أكثر من ثلاثمائة كتاب. وهو أمر كان مريبا في تلك الفترة. والمثير في الحكاية للضحك أو البكاء، هو أن المسؤول في المركز الحدودي أصر على معرفة معنى كلمة sémiotique، وكانت كلمة جديدة في تلك الفترة، فأغلبية عناوين الكتب في سيارتي كانت تشير إلى السيميائيات، وهو الأمر الذي أثار شكوكه. وحاولت بجميع الوسائل أن أشرح له أن الأمر يتعلق بتخصص في العلوم الإنسانية لا غير، ولكنه ظل مصرا على موقفه. وبعد ساعات طويلة من الانتظار سيقتنع أو أقنعه مسؤولوه أن هذه الكلمة ليست ثورية ولا تشكل خطرا على السلطة، فأمر معاونيه بختم الجوازات وواصلنا الرحلة إلى الدار البيضاء ومنها إلى وجدة ثم بركان ثم العثامنة، كافي مور، المركز الحضري الذي رأيت فيه النور.

كان ذلك سنة 1985. كانت السلطة قد أصدرت قبل هذا التاريخ عفوا عاما عن كل المتابعين في القضايا السياسية، وعاد الكثير من مناضلي اليسار إلى أرض الوطن. وفضلت البقاء حينها في فرنسا إلى أن ناقشت رسالتي في بداية نوفمبر 1984. ولم أعان من البطالة، كانت الدولة قد بادرت إلى خلق الكثير من الجامعات في مدن أخرى غير مدينتي الرباط وفاس بغية القضاء على التجمعات الطلابية الكبيرة، وأحدثت الكثير من كليات الآداب، ولم أجد صعوبة كبيرة في الحصول على “منصب مالي” في الوظيفة العمومية.

حينها قررت التخلي الكلي عن أي عمل نقابي أو سياسي وعن أي نشاط ثقافي عدا الدروس التي واصلت إلقاءها على الطلبة. وربما كانت تلك هي البدايات الأولى عندي في التفكير في الانتقال إلى كلية الآداب بالرباط، جامعة محمد الخامس، فقد كان العميد السابق، عبد الرحيم بن حادة، وكذا الصديق الطيب بالغازي، يغرياني بالالتحاق بهما في الكلية. وانصب اهتمامي، كل اهتمامي، على القراءة والتأمل في التجربة الإنسانية في كل أبعادها. كانت العودة إلى مساءلة كل الوقائع الدالة في المجتمع والسياسة والسلوك الفردي واللباس والإشهار والظواهر والرموز والطقوس الاجتماعية…

تجددت معارفي وتنوعت قراءاتي، وانفتحت أمامي آفاق كثيرة كانت متعتها في النفس أقوى مما يمكن أن يتجلى في ما سأكتبه أو أقوله. فالمعرفة رضا عن النفس قبل أن تكون سلعة نبيعها في الأسواق أو نعرضها على الناس بحثا عن مجد وهمي أو شهرة مزيفة. ووجدت نفسي داخل وسط طلابي جديد كان هو الباعث على أمل جديد.

وهكذا سيزداد اهتمامي بالصورة، وسأكرس جزءا هاما من أبحاثي للغة البصرية ضمن ما تقترحه سيميائيات تأويلية تود احتضان كل الموضوعات التي تستوطن الإنساني في الفضاء العمومي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق