سياسة

«خارطة» حمدوك … ومنتهكو الوثيقة الدستورية … وصوت الشوارع

محمد المكي أحمد

في ضوء التفاعلات الساخنة على الساحة السودانية ، أرى أن التطور الأهم، الذي يُمكن أن يحدث اختراقا، إذا تفاعل معه بصدق أطراف الأزمة، يكمن في ( خارطة الطريق) التي أعلنها رئيس الحكومة الانتقالية ( الثانية) دكتور عبد الله حمدوك، وطرحها للفرقاء، وهم مكونا السلطة ،العسكري والمدني، وحاملو لافتات( إعلان الحرية والتغيير)  بتعدد شوارعهم، ومنطلقاتهم.

أخيرا، خاطب حمدوك وجدان الشعب ، وعقله، ونبضه الثوري،  وتضمنت كلمته توصيفا أراه دقيقا ، في تشريح الأزمة الراهنة بين مكوني السلطة الانتقالية، مع تأكيد انحيازه  لخيار الشعب والثورة ، وضرورة إنجاح المرحلة الانتقالية والتحول الديمقراطي.

من الجوانب المهمة أن كلمته  في  15 أكتوبر 2021  وجهت رسائل إلى جهات عدة ،و شملت ( أنفسنا) ما  قد يشكل بداية  مكاشفة لمراجعة الخطي، وتصويب المسار، إذ قال (نعمل على مراجعة أدائنا وتصحيح أخطائنا، ولا نتوقف عن التعلم من تجربتنا وتجارب الآخرين، فتجربة الانتقال صعبة ومعقدة، وواهم من يظن أنه يملك كل حساباتها ويرسم كل خطواتها بدقة).

أرى أيضا أن  توصيفه الأزمة، اتسم ببُعد نظر، وعمق تفكير ، حينما قال، إن (الصراع ليس بين المدنيين والعسكريين، بل هو بين معسكر الانتقال المدني الديمقراطي ومعسكر الانقلاب على الثورة، وهو صراع لست محايداً فيه أو وسيطاً، موقفي بوضوح وصرامة، هو الانحياز الكامل للانتقال المدني الديمقراطي ولإكمال مهام ثورة ديسمبر المجيدة وتحقيق شعاراتها المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة).

هذا توصيف حاذق،  ينأى عن دور (المحايد والوسيط )  لكنه يستوجب التمسك بمقتضياته، وتشديده على احترام الدور الوطني للمؤسسات العسكرية والأمنية، مهم،  و يعني  أنه ينظر اليها في اطار مهماتها الوطنية، الكبيرة، لحماية الشعب وخياره  الديمقراطي، والوطن، وكنت دعوت في مقال سابق إلى عدم الخلط   بين المؤسسات العسكرية، ومن يتنمر على ( الشركاء).

خطاب حمدوك تميز بتوازنه، إذا ما قورن بخطابات عشوائية ، تبلغ المسامع، فتثير أزمات، بدلا من أن تطفيء حرائق، لأن  أصحابها لا يترددون في  القاء  الكلام على عواهنه.

تحدث رئيس الحكومة بلغة الرصانة عن قضايا وعناوين يتجاهلها بعض الذين يخوضون  المعارك في حلبة الصراع ، وشملت (شعبنا والثورة، وأرواح ودماء أبنائه وبناته) و ( المصابين والمفقودين) و(المعتقلات والسجون وبيوت الأشباح، والمنافي والمهاجر) و ( معسكرات النزوح واللجوء) وأننا ( لن نسامح أنفسنا أو يسامحنا التاريخ إن لم نحقق شعارات  الثورة في الحرية والسلام والعدالة ، ونصل بالانتقال إلى مراميه)

قدم  في كلمته،  إلى الشعب، رؤى محددة، وخطوات لمعالجة الأزمة الحالية، التي فجرها كما أرى  ( المكون العسكري) في يوم الإعلان عن محاولة إنقلابية في 21 سبتمبر 2021 ربما  لـ ( حاجة في نفس يعقوب).

(خارطة) حمدوك،  التي تتكون من عشر نقاط ، تضع أطراف الأزمة، أمام تحديات واختبارات حقيقية، وستكشف المواقف وردود الفعل من يسعى إلى إنجاح الفترة الانتقالية ، ومن يعرقل مساراتها، خصوصا أن رئيس الحكومة دعا أولا  إلى (ضرورة الوقف الفوري لكافة أشكال التصعيد بين جميع الأطراف، والتأمين على أن المخرج الوحيد هو الحوار الجاد والمسؤول حول القضايا، التي تُقسم قوى الانتقال) وهذا يعني أن الاملاءات من أي طرف لن تعالج الأزمة.

الدعوة إلى ( العودة للعمل بجميع مؤسسات الانتقال على أن توضع الخلافات في مواضعها الصحيحة وأن تدار من مواقع أخرى وبأساليب أكثر نضجاً والتزاماً بالمسؤولية وببوصلة واحدة هي مصلحة هذا الشعب واستقراره وتطوره)  تعني  أن تعطيل مؤسسات الحكم الانتقالي  هو عمل لا ينم عن روح مسؤولة، بل عن نهج  وتفكير خاطيء ، لأن ذلك يعني ضرب المؤسسية، وعرقلة عمل مؤسسات السلطة الانتقالية، وجعلها مرهونة لقرار شخصي أو مزاج.

النقطة الأهم  التي  طرحها حمدوك، وكنت تناولتها في مقالات، ولقاءات فضائية  عدة، تكمن  في  ضرورة احترام الوثيقة الدستورية، وهاهو حمدوك  يرى في (خارطة الطريق) أن ( مرجعية التوافق بين مكونات السلطة الانتقالية هي الوثيقة الدستورية، وهي مرجعية يجب أن تُحترم وتنفذ نصاً وروحاً، ويمكن مناقشة كل المواقف والقضايا استناداً على هذه المرجعية) وهنا مربط الفرس.

لا يخفى على المتابعين أنني  وجهت انتقادات شديدة في وقت سابق  لجانب من سياسات رئيس الحكومة الانتقالية ( الأولى ) و( الثانية) ، وكنت وما زلت أرى أنه تساهل مع ( المكون العسكري)  في السلطة الانتقالية، وسمح بتجاوز صلاحيات دستورية،  وخرق لبنود  في الوثيقة  الدستورية بطريقة سافرة.

سايرهم، كما لم يقم بتشكيل مفوضيات منصوص عليها في الوثيقة ، و سايرت الحكومة ووزراؤها في مرحلتين ( المكون العسكري) في انتهاكاته، و لم يتم إدراك أن مجاراة منتهكي الوثيقة الدستورية  ستكون في النهاية وبالا عليهم، وتُهدد في الوقت نفسه بإفشال المرحلة الانتقالية، كما أشرت في وقت سابق إلى  بؤس الخيال السياسي، فالخيال مهم لأي سياسي، تجنبا لسوء العاقبة.

كتبت وانتقدت عدم تمسك رئيس الحكومة بصلاحياته كاملة ، وأرى أن ذلك  من أسباب الأزمة الحالية بين (مكوني) السلطة، حيث ارتفع  سقف الاتهامات المتبادلة عشية تسليم  مرتقب لرئاسة مجلس السيادة، من رئيس المجلس الفريق  عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق محمد حمدان، إلى ( المكون المدني).

أرى أيضا أن مجاراة الحكومة و(حاضنتها) المدنية لخروق ( المكون العسكري) للوثيقة الدستورية، تسببت في هز هيبة الحكومة، وعرقلة  بعض أدوراها داخليا وخارجيا، ما يعني أن (المكون المدني)   في السلطة وحكومته شركاء في  مسلسل الخروق.

هذا معناه أن جهات ثلاث مسؤولة عن  التجاوزات الصارخة لـبنود ( الوثيقة الدستورية)  وهي ( المكونان) المدني والعسكري، ورئيس الحكومة والوزراء في الحكومتين، الأولى والثانية، لأن المسؤولية في مجلس الوزراء تضامنية.

وهكذا استصغرت الحكومة نفسها، وكذلك بعض  القوى  السياسية، فاتسعت الشقة بينهم وشارعهم وجماهيرهم، فاستصغرها واحتقرها ( الشريك) العسكري، ولم يعد يتردد في توجيه أقسى الاتهامات بالفشل للحكومة ، رغم أنه  من أسباب  الضعف بشأن  ملفات اقتصادية وخارجية وغيرها ، و  تزامن ذلك مع  تصرفات غريبة، طالت شخصيات دستورية، ولم يتبناها أحد، لأنها قبيحة، وخطيرة.

مثلا ، رفع الحراسة  الأمنية – وهي حق – عن  عضو (مجلس السيادة) والرئيس المناوب لـ (لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال) الأستاذ محمد الفكي،  شكل ابرز دليل، بعدما كتب ( هبوا لحماية ثورتكم) مخاطبا الشعب، على صفحته في فيسبوك ،بعد سريان خبر المحاولة الانقلابية، ما أكد سوء الإدارة، واستغلال السلطة، و الاستخفاف  بالمدنيين ، أي ممثلي ( الحكم المدني).

البرهان  لم يستطع إخفاء غضبه من ( هبوا) فانتقد ذلك  ضمنيا في كلمة أمام عسكريين، أي في منصة عسكرية، وليس داخل (مجلس السيادة).

في إطار سوء استخدام السلطة تداول السودانيون خبر رفع الحماية المشتركة عن مرافق تقع ضمن مسؤوليات ( لجنة إزالة التمكين)  لكن الشرطة واصلت دور الحماية كما ذكرت المصادر،  لكن لم تُعلن الخلفيات  الكاملة للتصرف غير المسؤول.

استمر مسلسل سوء استخدام  واستغلال السلطة، وبلغ ذُروته، بالكشف عن  حظر سفر  ( دستوريين)  ، ولم  تُعلن أية جهة  رسمية مسؤوليتها عن هذا التصرف، وخيرا فعل حمدوك حينما أدرج في  (خارطة الطريق) نصا يشدد على ( الابتعاد عن اتخاذ قرارات وخطوات أحادية، وعدم استغلال مؤسسات وأجهزة الدولة، التي هي ملك لجميع السودانيين، في الصراع السياسي).

مسلسل ضرب الفترة الانتقالية، تواصلت حلقاته،  إذ جرى تعليق  اجتماعات  (مجلس السيادة)، والاجتماع المشترك بين مجلسي  ( السيادة) و( الوزراء)، أما  (مجلس الشركاء ) الذي تغنوا بتأسيسه، وأهدافه، وقيل أنه يعتمد  ( الشفافية) أسلوبا للعمل، فانه يغط في نوم عميق، وقيل أن من أهدافه تقريب وجهات النظر بين ( الشركاء).

أما أكبر شاهد على  ضرب (الوثيقة الدستورية ) خلال عامين، فيكمن في  تجاهل تشكيل ( المجلس التشريعي) ، أي جرى تعطيل دور الرقابة والمساءلة، الشعبية، للعسكريين والمدنيين والحكومة، وهذا من أبرز أسباب الأزمة الراهنة .

( المكونان) المدني والعسكري  يتحملان المسؤولية في هذا الشأن، وأرى أن  (قوى الحرية والتغيير)  تتحمل المسؤولية الأكبر، إذ كان  على  أحزابها –  قبل أن يتشتت شملها، بسبب خلافاتها، أو بسبب عمليات استقطاب نفذها ( المكون العسكري)  لبعض القيادات السياسية، أو بسبب ضعف كامن فيها – أن تركز على تشكيل منبر الشعب وقواه الثورية الشبابية، التي صنعت فجر الحرية.

رغم  ذلك، لا أحد  في مقدوره تغييب صوت الشارع، وهاهو حراك القانونيين و موكبهم في  14 أكتوبر 2021 يسجل  حضورا، خصوصا أنه انطلق من  مقر ( لجنة إزالة التمكين) ، وهتفوا وأثاروا قضية الساعة (  سلم .. سلم..  يابرهان) أي سلم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين.

وجاءت  تظاهرات السبت 16 أكتوبر 2021 ، الحاشدة، لتعكس نقل الصراع إلى الشارع، ورغم الشعارات المتناقضة التي رفعها مشاركون، إذ دعت إلى (توسيع الحكومة) و( حل الحكومة) و( تسقط ياحمدوك) و( متمسكون بالوثيقة الدستورية)  و( بيان.. بيان يابرهان) و( الحكم العسكري) فانها تمثل شارعا، وجد فيه أعداء التحول الديمقراطي مظلة، فدخلوا  في المشهد.

التظاهر  السلمي  والاعتصام حق  للسودانيين كافة، و يجب حمايته، ويساهم في  تحديد المواقف وفرزها،  أي أن تحرك مجموعة (الميثاق الوطني)  التي تضم  بعض حركات ( الكفاح المسلح) وأحزابا منشقة من ( قوى الحرية) شكل عملية فرز  للمواقف، وتنافس بين لافتات ( قوى الحرية والتغيير).

وهاهي تظاهرات 21 أكتوبر 2021  على  الطريق، وتدعمها قوى (حرية  وتغيير) وسترسم كل هذه التفاعلات ملامح تطورات جديدة، ستفرض نفسها على  المشهد السياسي المُتحرك، وهذا يعني  أن الشارع بات منقسما، إلى شارعين أو شوارع، لكن الشارع المتمسك بأهداف  الثورة سيحدد البوصلة.

والمؤكد أن الصراع  سيتصاعد بشأن قضية ( حل الحكومة)  وإذا جرى حلها، من دون توافق، فذلك سيصب في مجرى تقوية شوكة ( المكون العسكري) الذي سيجد في فراغ السلطة مرتعا، لتمرير مخططاته، مع حلفاء جُدد.

الخيار الأفضل أن يراجع الجميع  خطاهم ، للتوصل إلى قواسم مشتركة، و سيخسر (الشركاء) كافة، إذا أفرطوا في الخصومة، ذات الأبعاد والطموحات الشخصية، التي تفتح أبواب الضغوط  أمام الأصابع الدولية، المهتمة بنجاح الفترة الانتقالية، ومصالحها، وأمنها، وفي الصدارة واشنطن.

برقية

معظم النار من مستصغر الشرر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق