مجتمع

محكمة سودانية!

عبد الله الشيخ

في زمن الخواجات – الحكم الثنائي – وقع خلاف بين حكيم العبدلاب، وناظر خط الريف الشمالي للخرطوم، العمدة سرور رملي. وُضِعت القضية بين يدي أحد القضاة الإنجليز، في المحكمة كان الحضور كثيفاً والعيون تشرئب من وراء شبابيك القاعة على رجلين من براح الحقول، ينتظران القول الفصل في خصامهما، من الخواجة (أبو برنيطة). صرخ الحاجب صرخته المعروفة: محكمة، وقبل أن يبدأ القاضي إجراءاته الروتينية، رفع حكيم العبدلاب يده طالباً الإذن بالكلام: يا مولانا، أولاً وقبل كل شيء، عندي نقطة نِظام. همهم الناس على الحكيم وثوبه الملفح وعمامته المُقنطَرة كسحابة فوق الكثبان.. بعضهم ظنَّ أن شيخ العرب (اتضعضع) وبعضهم قال: شوف زويلك، كمان داير يتكلم تحت حنك القاضي؟ الليلة الله قال بى قولو. ثم شرع حكيم العبدلاب في تنقيط النظام، فقال: يا مولانا، الراجل ده سيد البلد، وزعيم الخط، وتقديراً لمكانتو، أنا أتنازل عن حقي.. هو يقعد في الكرسي، وأقيف أنا فوق كرعيني أمام المحكمة. أطرق الخواجة، في تلك اللحظة السودانية الفارقة، كأنه يسعى لاستيعاب تفاصيل السماحة بين خصمين، يراهما بعض رعايا في إمبراطوريته التي لا تغيب عنها الشمس. بصوت جهور، وبعينٍ تسبر غور النفس الشاحِمة، نفض الخصم جلبابه وقال: يا مولانا، أنا العمدة سرور، أتنازل أمام المحكمة للزول دا، عن الساقية زاتا.. ما داير معاهو قضية، وما داير أي حاجة.

كان الخواجة – الحاكِم – قد تحوّل في تلك اللحظة السودانية الفارِقة إلى متفرِّجٍ ينقِّر بأصابعه فوق دفاتر آل سكسون، بينما مضى حكيم العبدلاب في مجادعته للناظر: أسمح لي بكلمة يا مولانا.. أنا ما ممكن أطلع من المحكمة منتصراً على زعيم البلد، وما بخلي الناس تقول العبدلابي مشى كلمتو فوق كبيرو.. حرّم أنا ما بسوّيها. وقف القاضي حائراً بين خصميه، بينما تربّع العمدة سرور بهيبته كلها فوق عرش المحكمة وقال: خلاص يا أخوي، أنا أديتك ساقية البحر، بدل الساقية دي.. أها، العفو والعافية. ولكن، لكن حكيم العبدلاب برم أشنابه التي تُخفي سبارس البحاري، وقال موجهاً حديثه للقاضي: قسماً بالله يا مولانا، ما دايِرا.. ساقية البحر دي، طول السنة سواقيها مدوِّرة قُصاد ديوان ود رملي، كيف أقبل أشيلا أنا براي؟ حرّم دي أنا مَا بسوّيها. عندما وصلت المجادعة إلى هذا المستوى، ضرب الخواجة كفيه تعجُباً، وأمر الحاجِب برفع الجلسة وهو يقول: بالله شوف.. السودانيين دايرين يعلمونا الأخلاق؟! نعم سيدي، إن مطلوب الأخلاق فوق مطلوب القانون.. فتأمّل يا سيدي، كيف كُنّا نحنُ، وأين أصبحنا الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق