ثقافة وفن

مؤامرة كلاوديوس

مؤامرة كلاوديوس

د. محمد بدوي مصطفى

حتى عموم الشعب يعرفوه، يقدسون ريشته، يتغنون بها ويصفونه بعبقريّ زمانه، رامبرانت هو أشهر الرسامين الهولنديين على الإطلاق، وقد أشرقت شمسه في القرن السابع عشر، في عام ١٦٠٦ بالتمام والكمال، وكان ذلك بمدينة ليدن، هذا الصرح العلميّ الشامخ ومنارة الأدب البازخ. درس علوم اللغة اللاتينية، التي كانت إجبارية على الكل في تلك الحقبة، إن صح التعبير، والجدير بالذكر أنه حتى الترانيم القدسية والأناجيل كانت أغلبها تقدم بهذه اللغة وأي الآن تعلب اللاتينة ودرًا هاما في الثقافة والعلوم. بيد أن رغبته التي صرّح بها منذ صغره، هو أن يصير رساما وقد تمكن بقوة جأشه وعزيمته أن يحقق هذه الرغبة، حيث درس الفنون على يد المعلم جاكوب فان سوانينبورغ والبروفسير بيتر لاستمان بكلية الفنون بليدن ومن بعد وكما يقال، صار هو رساما من الدرجة الأولى، كالحواريّ الذي غلب شيخه! تميزت أعماله بأنها كانت غنية في تفاصيلها، دقيقة في ملامحها، صادقة في كل نبرة وحسّ يخرج منها وقد اجتهد رامبرانت في نقل التيمات الدينية والمجازية نقلًا صادقا قربها إلى النفوس المختلجة بحبّ القدسيات والنورانيات. ازدانت متاحف العالم بأسرها بما خلقته ريشته الجبّارة وصار مع مرور الأيام علمًا في فنون الرسم والتجسيد لا يشق لا غبار. لقد رحل عن الدنيا أشعث أغبر في عام ١٦٦٨ بمدينة أمستردام عن عمر يناهز الاثنين وستين عاما بعد أن أذاقته الحياة مرارة الماسي وكدمات الأماسي.

من المدهش أن رامبرانت لم يسافر إلى الخارج أبدًا، لكنه تأثر كثيرًا بأعمال العمالقة من الإيطاليين والفنانين الهولنديين الذين درسوا في إيطاليا، مثل بيتر لاستمان وأترخت كارافاجيستس و بول روبنز. ويشار في العديد من المراجع أنه استطاع أن يحقق نجاحات رائعة وهو ما زال في عمر صغير كرسام بورتريه، وقد تميزت سنواته اللاحقة عندما احترف الرسم بمأساة شخصية ومصاعب مالية عديدة نغصت عليه حياته وجعلته ينطوي في إطار اجتماعيّ ضيّق. لكن رغم ذلك فقد حظيت رسوماته ولوحاته بشعبية جبّارة ذلك طوال حياته واحتفظ بسمعة جيدة بين الناس. 

تعد اللوحة التي نحن بصددها في هذا المقال: مؤامرة كلاوديوس، المرسومة بين عاميّ ١٦٦١ و١٦٦٢، إحدى أقوى الأعمال التاريخية في الرسم الهولندي في القرن السابع عشر على الإطلاق، وتعتبر هي اللوحة الأخيرة التي رسمها رامبرانت، وكانت أكبر لوحة رسمها منذ أن شرع في فنّ الرسم، وتبلغ مساحتها خمسة وعشرون مترًا مربعًا ولقد كُلِّف من قبل مجلس مدينة أمستردام برسم هذه التحفة حتى يتم وضعها في مبنى البلدية بالعاصمة الهولندية. وقد تمَّ تكليفه في هذا السياق أن يرسم مشهد من مشاهد تمرّد سكان هولندا السابقين (الباتفيين) ضد الإمبراطورية الرومانيّة، وقد وُصف الموضوع العلماني للعمل وأنه يتماشى تماما مع جماليات فن الإصلاح البروتستانتي بين حوالي ١٥٢٠ – ١٧٠٠. وجسد فيها رامبرانت المدعو كلاوديوس سيفيلس ورؤساء باتافي وهم يتعاونون ويتناقشون للقيام بتمرّد ضد الإمبراطورية الرومانيّة.

لقد تم تسليم اللوحة الضخمة وقامت البلدية بتعليقها في أروقتها في أواخر عام 1661، ولكن في وقت مبكر من عام 1662 أعيدت مرّة أخرى إلى الفنان لإعادة صياغتها ذلك سببه الصدام الأسلوبي مع سلسلة لوحات أخرى طلبت من رسامين آخرين. ولقد طلب رامبرانت، الذي عُرفَ بسخطه في مواجهة مثل هذه الطلبات من قبل العملاء، أن يتقاضى أجرًا مقابل هذا العمل الإضافي. بيد أن المجلس لم ينزل عن رغبته تلك، فما كان من رامبرانت إلا أن احتفظ باللوحة وغير من ملامحها وقلص من حجمها وجعلها أكثر قابلية للبيع. ولسبب غير معروف عُرضت اللوحة في الأكاديمية الملكية السويديّة في خلال القرن الثامن عشر وتتواجد اللوحة الآن بالمتحف الملكي السويديّ بمدينة ستوكهولم.

لقد سعى رامبرانت في العديد من أعماله الخالدة إلى تجسيد مشاهد وصور من قصص توراة العهد القديم وقد استعان في ذلك بجيرانه، أقرانه وأصدقائه من يهود هولندا. على صعيد آخر عانى رامبرانت وزوجته من انتكاسات حياتية قاسية كان لها أعظم الأثر في صقل موهبته الفنيّة، فنجده قد وثق للعديد من هذه الأحداث المأسوية التي تركت بصمتها في حركة ريشته؛ ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، أن ابنه رومبارتس توفي بعد شهرين من ولادته في عام ١٦٣٥، ثم توفيت نجلته كورنيليا وهي بالكاد في أسبوع ولادتها الثالث في عام ١٦٣٨. وقد أنجبا في عام ١٦٤٠ ابنة ثانية سموها كورنيليا أيضًا وقد توفيت بعد شهر من ولادتها. وأنجبا في عام ١٦٤١ طفلًا رابعًا اسمه تيوس وقد شاء الله أن يعيش حتى مرحلة البلوغ لكن توفيت أمّه ساسكيا بعد عام من ولادته في سنة ١٦٤٢. وكل هذه الوفيات كان سببها أغلب الظن مرض السّل الذي كان مستشريا في أوروبا في تلك الحقبة. وتعد أعمال رامبرانت لزوجته ساسكيا وهي على فراش الموت من أهم توثيقاته على الإطلاق فقد أجاد، وأثار وأغدق في نقل اللحظة ولمس الوتر الحساس بقلب كل مشاهد. لنا عودة مع هذا الفنان العالمي العملاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق