ثقافة وفن

قصة أغنية أبكت فيروز

سألوني الناس

د. محمد بدوي مصطفى

فيروز وكما ينعكس رونق الاسم بهاءً وسحرا، هي وبدون منازع، فيروز وفيروزة الطرب الأصيل، وبريق الأغنية الشرقيّة ولمعانها. شمس في ثوب سيّدة ومدام بحق وحقيقة، على مسرح الطرب الجاد الرصين وملكة على خشبة اللحن والموسيقى العميقة، كل ذلك بذهبتيها وماسها المتلألئ. نعلم كلنا يا سادتي عنها أنها حينما تقف على حافة القلوب المحبّة لها وأمام جمهورها، تصب كل طاقاتها لتتدفق وتجري سلسبيلا في ثدي الأغنيات؛ تقف ساكنة، هائمة، مطمئنة حليمة وسابحة مع كمانات قدسيّة وساجدة أمام محراب الهارموني وراحلة معهما إلى برازخ لا نعلمها، تحسها هي ولا أحد غيرها، عالم الطرب المجهول، عبقرية الجبابرة من عيار الوزن الثقيل. نجدها لا تهرج، لا ترقص ولا تتمايس عابثة لاعبة كما يفعل غيرها من المطربات.  لذلك أدهشني بكاؤها عندما رأيت وقرأت أن دموعها قد انهمرت مدرارة ذات يوم حينما تغنّت بأغنية: سألوني الناس! فما السبب؟ وما الخطب بربكم؟

إنّ هذه الأغنية الساحرة، هي دون أدنى شك، من الأغاني الخالدة التي لا تزال الأنفس ترددها إلى الآن، وتستمع إليها الأفئدة الحزينة المنكسرة من آهات الحب وصدمات الفراق في كل مكان وزمان، ذلك رغم مرور السنين الطوال على ميلادها، نعم رغم كل هذه الأبعاد الزمنيّة والمكانيّة فهي لا تزال عالقةً في قلوب الكلّ وأنا أحدهم يا سادتي. قليل منّا يتفكر ويتدبر في ماهيّة الأغاني، تاريخها، نظمها ووقعها ناهيك عما بداخلها من جمل موسيقيّة أو شعريّة اجتهد في غزل حروفها الكتاب ونسج نوطتها الملحنين! من منّا بركم يساءل نفسه عن أسباب نشأتها وأثرها على قلب المطرب أو المطربة! وهل يا ترى يكمن وراء أبيات زجلها وشعرها حزن، فرح، ترح أو مأساة نجهلها؟ إنها أسئلة شتّى تؤرقني وتنقص عليّ راحتي عندما أسبح في قصة أغنية وذلك “من غير ليه!”.

فقصة سألوني الناس التي أبكت فيروز التي لا يبكيها أمر ولا يرف لها رمش على خشبة المسرح، تعود إلى بدايات السبعينيات عندما أصيب بعلها عاصي الرحباني بنزيف في المخ مما أجبره على العلاج المكثف ودخول المستشفى لحين ليس بالقصير. حينها ألف أخوه، منصور الرحباني، أغنية يجعل منها متنفس لفيروز ألا تُكتم أنفاسها من مرارة اللحظة فتصمت ويصمت بعده الصوت السماوي. نعم قصد أن تكون الأغنية سلوى لقلبها المكلوم وأن تهدأ أحزان الفؤاد الغائرة وناره المضطرمة. فكم كانت حزينة لغياب شريك حياتها ولبعده فضلا عن خوفها لوعكته وسقمه. على كل قام ابنها العبقريّ زياد الرحباني بتأليف اللحن وكان حينها ابن السابعة عشرة. وما كان من فيزور إلا أن أدخلتها في سياق مسرحيّة “المحطّة” التي كانت تقوم بتمثيلها وقتذاك. وبعد خروج الزوج من المستشفى أسرّ في نفسه خيفة، أن المسرحيّة، كانت، ظنًّا منه، مسرحيّة بحق وحقيقة أي مبتدعة القصة ومحبوكة التمثيل، ذلك من قبل أخيه وأنها كانت بضاعة بخسة للمتاجرة بمرضه، فقرر دون تردد حذف الأغنية من مجريات مسرحيّة “المحطّة”. بيد أنّه فيما بعد راجع نفسه مليًّا وعزف عن موقفه المتزمت ذاك وأعطى الضوء الأخضر أن تُنفَّذ وتُغنَّى. مع مرور الأيّام رحل عاصي وجاءت لحظة غناء اللحن في عام ١٩٨٦ وفي بداية أول مقطع “لأول مرّة ما منكون سوا” أجهشت ملكة الطرب وصوته السماوي بالبكاء وهي على خشبة المسرح ولم تستطع تكملة الأغنية. فظلت تلك الحادثة أثرا سطرته فيروزة الغناء العربيّ تاريخا لن ينسى. فيروز ملكة وحدّت الأمّة العربيّة بأغانيها كعتاد دون أسلحة، وجعلت منها كتلة متناسقة بديعة يجمعها الفن ويغذيها، فأفحلت فيما أخفق فيه ملوكنا ورؤساؤنا طيلة سنيّ حكمهم وذلك منذ الاستقلال. لذلك فستظل فيروزنا شمسا تسطع في حنايا قلوبنا ما حيينا. حياك الله يا ملكة القلوب ويا نوره القدسيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق