ثقافة وفن

قرن على نبي جبران خليل جبران استدراج الرمز لتجريب المعنى التشكيلي

بشرى بن فاطمة

«إذا امتزج عملك بالحب فقد وصلتَ نفسَك بنفسك، وبالناس وبالله.»

لم يكن تاريخ إصدار كتاب النبي لجبران خليل جبران سنة 1923 بالحدث العادي بل كان الحدث الأكثر تأثيرا في تاريخ الأدب العربي والعالمي والإنساني، ولم يؤثر على الأدب والفلسفة فقط بل أثّر على الفنون التشكيلية والبصرية وكان له بعد رمزي في دفع الحركات الاحتجاجية وحركات التمرّد الشبابي في ستينات القرن الماضي.

كان وقع هذا الكتاب عميقا في الطرح والتناول والتجميع والقراءة الجديدة التي نفّذها جبران وهو يقدّم مواعظه وحكمه وخلاصة انتصاره للمحبة والإنسانية والتسامح الشمولي الذي يصل الحياة الجامدة بالحياة الدائمة والخالدة.

جبران خليل جبران كان محاطا بالمكان ومحمّلا بالثقافة ومدركا لقيمة الانتماء الأوّل لهويّته التي صقلته شرقيا في الغرب وغربيا في الشرق وبتلك الثنائية استطاع أن يلملم فراغه بالإنسانية ويستجمع حكمة التواصل مع الانسان.

فقد حمل الصورة الغربية بحنين رومنطيقي مشرقي يقول فيه « أنا شرقي ولي فخر بذلك، ومهما أقصتني الأيام عن بلادي، أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال، لبناني العواطف، أنا شرقي، وللشرق مدينة قديمة العهد، ذات هيبة سحرية ونكهة طيبة عطرية، ومهما أعجب برقي الغربيين ومعارفهم، يبقى الشرق موطناً لأحلامي ومسرحًا لأمانيّ وآمالي، في تلك البلاد الممتدة من قلب الهند إلى جزائر العرب، المنبسطة من الخليج العربي إلى جبال القوقاس، تلك البلاد أنبتت الملوك والأنبياء والأبطال والشعراء، في تلك البلاد المقدسة تتراكض روحي شرقاً وغربًا».

بهذه الفلسفة الجمالية نال جبران شهرة الفكر والكتابة في الشرق وعمق الرسم والفن التشكيلي في الغرب ليصبح ثنائيا في الكلمة والريشة في البوح الشاعري والحضور الملون متأثرا بالفطرية والانطباعية والتعبيرية وبالرومنسية والرمزية.

حمل جبران الشرق في روحه وإبداعه وفي أسلوبه كان غربيا ومتحرّرا ومنطلقا نحو زوايا التمشيات التعبيرية التي حملت الانسان وذاته وحضوره وحلمه ومحبته فكان رمزا لتسامح الفكرة وتساؤلات الوجود وأصبحت أعماله الأدبية كما التشكيلية لها رمزياتها التي اكتسبت ثقة محبيه في المنطقتين وأثّرت على تعبيرية الفنون عنده غربا وشرقا وجعلت اسمه حاضرا وبارزا في لوحاته ومقالاته ومؤلفاته التي ظلّت مخلّدة اسمه في كل فكرة وحضور وبالخصوص في كتابه النبي الذي مرّ على ظهوره قرن من الزمن ولم يخفت.

زرع جبران في كتابه النبي روح بحث عميقة غاصت في الإنسانية بتجلياتها التي توافقت مع الطبيعة والفكرة المقدسة بمزج الجانب الايماني الديني في فكرة الروح القدس وحضور المحبة التي أرادها السيد المسيح ألوان حياة ممزوجة بالتسامح والتضحية بعيدا عن جمود المادة وقوالبها، ليثبت الرمزية الخالدة لبقاء الفعل وتجاوز العنف والخراب والهدم من أجل منح التفاعلات الإنسانية تحررا في حياة أكثر انسجاما.

كما اعتمد جبران إضافة إلى الوصف التعبيري السردي باللغة أضاف عليه الرسوم التوضيحية والتعبيرية والانطباعية فتجاوز المحاكاة الحرفية للطبيعة بالرؤى الماورائية للصورة في عمقها الرمزي، فهو يجيد تكوين التفاعلات الروحانية من العناصر المختلفة في واقعه وبيئته حيث تتفاعل بين الأضواء والظلال لتكوّن معان ضبابية في المسارات الكونية وهي تحاول أن تلامس الروح بالفكرة والأحاسيس وتتجاوزها نحو اللاملموس أو اللامادي من الرؤى الميتافيزيقية.

وقد اختار عديد الفنانين السير وفق هذا المنطلق متخذين من كتاب النبي مسارا ملهما وروح بحث تجريبية فقد استوعبوا رموز التوافق الإنساني مع اعتبارات التفاعلات الواقعية ليعبّروا انطلاقا من مواقفهم عن اندماجهم بصريا وحسيا وذهنيا وتعبيريا ورمزيا مع دواخلهم العامة وحضورهم المختلف تعبيرا عن الذات والمجتمع عن التعايش والانتماء عن الهوية الخاصة والجماعية والتكامل بينها فكان المشروع احتفالا بقرن من التمازج الرمزي مع «النبي».

هذا المشروع الذي يقدّمه متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية ضمن مجموعة «نبي جبران» يقدّم اقتباسات مؤثرة من كتاب النبي اختارها عدّة فنانين عرب نذكر من بينهم منير العيد، جيهان القطان، سمير الصفدي، محمد قباوة، طرح كل واحد فيهم رؤية فنية معاصرة وتصوّرا متفرّدا لتجربته مع النبي.

قدّم منير العيد من خلال أسلوبه الملون والمحاكي للحرف بين التداخلات في المعاني وتناقضاتها تصورا تشخيصيا لجبران خليل جبران كثيف وصاخب كما هي الحياة التي تنتشل الانسان من الظلمات وتستدرجه إلى النور شيئا فشيئا من خلال اندفاعه نحو المعرفة والتماهي مع الكون ليحمل رسائله ويصقل بها حضوره الوجودي رغم العوائق والأحداث يُبقي على انسانيته وخلود أثره.

يحاول العيد من خلال عمله أن يخلق محاورة عفوية وتواصلا بين جبران الانسان والكاتب والفنان استجمعها في كتابه النبي وأعاد اكتمالها ببقية أعماله الأجنحة المتكسرة، دمعة وابتسامة وكأن تلك المؤلفات تعترف أنها تمضي وراء النبي وتنساق إلى حكمته.

أما جيهان القطان فقد قدّمت رؤيتها ارتكازا على اقتباس «ولئن اكتظت شواطئكم بالسفن المشحونة، العالقة بالرمال، والتي ترتقب المد لينتشلها، فليس لكم أن تعجّلوا ساعات مدكم» حاولت محاكاة الترقب والتأني والانتظار والتأمل المطّلع نحو المستقبل، توليفة من الرؤى والتداخلات التي تتناقض وتتآلف بين الحركة والجمود.

في عمل التشكيلي سمير الصفدي بدت التعبيرية مندمجة مع الرمزية التي انطلقت في مقتطف «النبي ليس فكرا أخلفه ورائي، بل هو قلب جملته مجاعتي وجعله عطشي رقيقا خفوقا».

مزج الصفدي في هذا العمل البروفيل الأول لجبران من كتاب النبي وأعاد تكوينه من جديد وكأنه يعيد تعريفه على الواقع في الشرق ويقرّبه من مواقع الألم بحريّة تستعيد فكرة التضحية وتستثير معنى الوجود الذي يكون بالفعل والعطاء والمشاركة والانتماء دونما قيود بكل حرية تثري فكرة الإنسانية.

في عمل محمد قباوة كان للأزمنة والمواقيت تصوراتها من خلال الاقتباس المتدفّق عنها وعن هلامية الانتظار الواهي بين الماضي والغد وتلك العلاقة العبثية التي تسافر بالإنسان عبر مراحل حياته بين كرّ وفرّ بين انسجام وتوتّر تتواتر أحداث الحياة وتمتزج معها الحواس والانفعالات بين الحضور والفناء.

إن قيمة هذا المشروع الفني لا تقف عند التفاعل مع كتاب النبي والاحتفاء بقرن على صدوره بل تستمر أبعد نحو تفكيك التوجه الفني العام الذي ارتقى به جبران خليل جبران وآثر فيه على التفرّد والتكامل والتماهي مع انسانيته المحبّة لانتمائه الكامل للأرض والطبيعة والانسان.

*الأعمال المرفقة:

منير العيد- جيهان القطان-سمير صفدي-محمد قباوة

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق