مجتمع

البروف عبد الله التوم 2

عبقريّ الأنثروبولوجي بين دارفور ودبلن

توطئة:

سوف أرجأ مقدمتي عن البروف عبد الله التوم، هذا الرجل المتفرد، القامة العلمية السامقة، في إحدى الحلقات القادمة التي سوف نسلط الضوء فيها على موسوعيّة هذا الرجل، الذي حتما يعرفه البعض وأغلب الظن يجهله الكثيرون من أهل السودان. اسمحوا لي يا سادتي ولكي يدخل القارئ من أول وهلة في أجواء غرب السودان الحالمة وسحر السرد المتفرّد لهذه القامة العلمية السامقة أن أغيّب مقدمتي فيه لحلقات تالية وسوف نتبع هذه الحلقة بحلقات عديدة شيقة متميزة وحصريّة للمدائن بوست وسوف نبحث فيها عن حيوات هذا الرجل وعن آثار ومآثر قامة جليلة علّمت نفسها وبلغت من درجات المعرفة العلا، فضلا عن إجلالي لقامته العلمية والإنسانيّة.

حاوره: د. محمد بدوي مصطفى

> تحدثت في بعض أبحاثك عن الصراعات النفسيّة أو لنقل العرقيّة وطرحت قضية الهوية وتداعياتها ومآلاتها في سياق السودان الوطن؟ ماذا يمكن لنا أن نتعلم من ماضي السودان وما هي الخلاصة لحاضره القريب والبعيد انطلاقا من قراءة سايكو- أنثروبولوجية لهذا البلد القارّة؟

الهويّة:

ترددت كثيرا في الاستجابة عندما طلب مني الأستاذ محمد بدوي مصطفى، رئيس تحرير جريدة المدائن بوست الأدبية، أن أتحدث عن الهوية في السودان. تدعونا سيكولوجيتنا أن نتحدث بتفاخر عما يجمعنا مثل الكرم واستضافة الغريب ومساعدة الفقير ومعاطفة المكلوم. أما سوءاتنا والتي نمارسها في حياتنا اليومية، فالحديث عنها يندرج في عداد المحرمات.   لقد أبدع الكاتب السوداني فرانسس دينق عندما عبر عن معاناتي بقوله “إنما يفرق بيننا في السودان هو ما لا نتحدث عنه”.

لقد تجاهلنا مسألة الهوية لقرون حتى عصفت بوحدة البلاد.  ذهب عنا حديثاً جنوب السودان وما زلنا نناضل للحفاظ على جبال النوبة وجمعينا نعرف أن الخلل يقبع في الهوية العوجاء والتي فرضها قادتنا علينا منذ الاستقلال. أقول إن هويتنا عوجاء لأنها لا تسع تنوع السودان وتعدد إثنياته. الهوية الوطنية ليست مجرد دعابة فكرية لتحديد ذاتية المواطن ولكنها إطار لتنمية المجتمع وبكل مشتقاتها السياسية والثقافية والاقتصادية وتحدد نصيب الإثنيات المكونة للسودان للتعاطي مع هذه المشتقات.  دعني أعالج مسألة الهوية في السودان في محاور محدودة.  وإن افتقد تحليلي روح المهادنة، فقد سبقني في ذلك مفكرون أفذاذ مثل محمد جلال والعفيفي ومادبو وشريف حرير.

البعد الإفريقي:

قد نشأت الهوية السودانية باستقصاء شقها الإفريقي ويعني ذلك تجاهل غالبية إثنيات القطر من عملية نسج الهوية القومية.  لقد أصر قادتنا أن يصبح السودان دولة عربية صرفة وليت هذا المنحى شمل كل عرب السودان وليته أيضا قوبل بالرضى في العالم العربي.  أما داخل السودان فقد بنيت العروبة على ثقافة مستعربي الإقليم الشمالي حصريا مع استبعاد قبائل عدة، بعضها أكثر عروبة مثل الكبابيش والرزيقات والرشايدة والمسيرية بحكم أن عروبتهم متخلفة وقد تقعد بالمشروع الجبار.  أما فيما يخص نجاح هوية السودان في العلم العربي، فحدث ولا حرج.  عندما تقدم السودان للانتساب إلى منظمة الجامعة العربية، تم رفض الطلب بإصرار لا يخلو من الاستهجان.  ولعل الدول العربية كانت أذكي منا حينها فالسودان دولة إفريقية ولا مكان لها بينهم.  لم يتمكن السودان من دخول الجامعة العربية إلا بعد الجهد الجهيد والذي قامت به مصر لعلاقتها التاريخية بالسودان.  ليتنا اقتنعنا برفض الانتساب فالسودان الآن عضو مستخف به في الجامعة العربية والعلم العربي أجمع.  سل السودانيين الذين أفنوا حياتهم في الخدمة في السعودية ودول الخليج، فلكل قصة تعكس النظرة العربية والدونية للوافد السوداني. 

عفا الله وأجزل عطاءه للمفكر الإفريقي على مزروعي حينما قال إن السودانيين آثروا أن يكونوا أسوأ العرب من أن يكونوا أفضل الأفارق.  قد ألهبت هذه المقولة مشاعر بعض المفكرين السودانيين فرددوه بنوع من التفاخر.  نعرف تماما ما الذي يجعل السودانيين أن يكونوا أسوأ العرب وذلك لتغولهم على نادي لا يعتبرهم أعضاء على حد سواء.  ولكن ما الذي يجعل السودان أفضل الأفارقة، يا سيدي بروفسير مزروعي؟  هل هو الإسلام أم عمق الثقافة العربية أم هو اللون الذي تحايل عليه السودانيون بشتى الطرق فوصفوا بشرتهم بالأخضر والأسمر والأزرق، كلها لتفادي اللون الأسود وهو ما اشتق منه إسم السودان؟    هذه الخصائص الثلاثة لا تعطي السودان أية أفضلية على الدول الأفريقية وليست هي حكراً عليه.  صحيح أن الثقافة العربية قد ربضت اللون الأسود بكل ما هو سيء وقد أصبح هذا مداعاة لعقدة “الأم السوداء” كما عبر عنه الأستاذ العفيفي فمستعربي السودان يرون أنهم نتاج أب عربي وأم إفريقية.  برزت أصوات عدة تتحسر على اشتقاق أسم السودان من لون بشرة سكانه وهذه حقيقة تاريخية أذ أن كوش وكرمة ونوبيا وإثيوبيا، جميعها ترمز الي البشرة السوداء.  والغريب أن قائمة المتظلمين من هذه التسمية شملت بعضا من كبار مفكري السودان مثل الطيب صالح والذي لم يرتبط اسمه بهوس المركز الإسلاموعروبي، فهو القائل مستنكراً أن السودان هو الدولة الوحيدة التي سميت باسم لون بشرة سكانها.  حتى علم السودان لم يسلم من نكران الذات الأفريقية وإيلاج السودان في لب البلاد العربية، ففي عام ١٩٧٠، ألغي علم السودان والذي ساد منذ الاستقلال واستبدل بعلم آخر أكثر عروبة.  تعجب الكاتب جلال هاشم أن العلم الجديد قد بني على بيت واحد من قصيدة الشاعر العربي صفيّ الدين الحِلّي والذي ولد في القرن الثالث عشر حيث قال:

بيضٌ صنائعنا، سودٌ وقائعنا – خضرٌ مرابعنا، حمرٌ مواضينا

غني عن القول إن معظم السودانيين لا يعرفون حتى القليل عن هذا الشاعر الذي أوحى لنا بألوان علمَنا ولا يمت هذا الشاعر إلي السودان بأية صلة.   

لقد قسمت الهوية السودان إلى أسياد يستأثرون بالسلطة والثروة وآخرين أقل حظا وبينهم من قال عنهم شريف حرير أنه يمكن استرقاقهم. صحيح أن الهوية الحالية عززت عقلية النخاسة في السودان وللرق تاريخ طويل في السود ان لا يسمح المجال لسرده.  أن إلغاء الرق فُرض على السودان ولم يتأتى من قيادته سواء كان ذلك في المهدية أم غيرها.  أشار نقد في كتابه “علاقات الرق في المجتمع السوداني” إلى المذكرة التي رفعها “الأسياد” الثلاثة: علي الميرغني والشريف يوسف الهندي وعبد الحمن المهدي ١٩٢٥.  تقدموا بهذه المذكرة ألي مدير المخابرات البريطاني في السودان يستجدونه فيها بعدم المضي قدماً في تحريم الرق والسماح لمزارعي أبو حمد بمواصلة ملكيتهم للرقيق واستغلالهم في الزراعة.  نعم، كان هذا في القرن السابق ولكن الروح باقية في رمزيات شارع الزبير باشا في الخرطوم والذي لقب بملك النخاسة.  ليس أدل على قوة وجود الزبير في مخيلة بعض السودانيين أن البروفسير عبد الله الطيب نفسه استجار به وبنبرة عنصرية عقب مجزرة طالت أهله في جنوب السودان:

ألا يدري قبر الزبير بأننا

نذبح عند الزنج مثل البهائم

والأكثر غرابة أن الزبير لم يلعب أي دور في محاربة الاستعمار أو تحرير السودان ولقب باشا يفضح تعاونه مع المستعمر أكثر من مناوأته.    

في عقدي الثانيات والتسعينات استعاد السودان ارتباطه بالرق وكان ذلك إبان حروبه ضد محاربي جنوب السودان. انتشرت في هذه الحقبة قصص سبي مواطني جنوب السودان وهرعت المنظمات الخيرية الغربية لتحرير الذين تم استرقاقهم بشراء حريتهم.  الحق يقال إن هذا لم يحدث في حرب دافور الأخيرة ولكن وصف حركات دارفور وإثنياتهم بالزرقة لها مدلولاتها في معايير الأيديولوجية الإسلاموعروبية.  ربما تغالى القوات التي سميت بالجنجويد أكثر في هذا المجال ففي صرخة حروبهم كان بعضهم يهتف: “المات، مات شهيد، والحيا يحل ليهو مال العبيد”.  لا أقول إن هذا هو فكر كل الذين حاربوا “الزرقة” في نضالهم ضد المركز في دارفور فنحن ندري أن للحرب منطقها والذي قد يستدعي شيطنة العدو واستلاب إنسانيته.  عندما أقدم الهوتو لإبادة التوتسي في رواندا في عام ١٩٩٥، وصفوهم بالصراصير والتي لا يمكن التخلص منها إلا بإزالتها الجماعية، وكذلك الحال في إبادة اليهود بيد الحكم النازي في ألمانيا حيث بدأوا بنزع إنسانيتهم وليس فقط هويتهم الألمانية.  وصفوهم بأنهم صئبان أم هوان ولا يستقيم وجودهم بين “الجنس الآري الرفيع”.  أود أن أشير هنا أن نمط شيطنة العدو المعتقد سواء كان ذلك الزرقة دارفور أو التوتسي في رواندا أو اليهود في ألمانية الحقبة النازية لا تأتي من فراغ.  إنها نتاج حاضنة فكرية تضفو إلى السطح خلال أزمات المجتمع وتظل كامنة في فترات الهدنة الجمعية.

  

الهوية توزيع السلطة والثروة:

لا غرو أن الهوية هي التي تحدد أطر الحقوق والواجبات في المجتمع وتقرر أولويات توزيع الثروة في البلاد.  يعني هذا أن الهوية الشاملة للكل هي التي تضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة، أما الهوية الإقصائية، مثل هوية السودان الحالية، فتنتهي بهضم حقوق غالبية الشعب في المحورين المذكورين.  أعتقد إن “الكتاب الأسود” والذي قمت بترجمته إلى اللغة الإنجليزية قد كفاني الحديث عن هذه المعضلة.  ليس هذا فحسب، فقد أقتنع الجميع بضرورة مراجعة توزيع السلطة والثروة في مفاوضات أبوجا والمفاوضات الحالية في جوبا.  لقد تحدثت في بعض مقالاتي عن رسالة ال ٩٥:٥ ٪ بمعني هيمنة ٥٪ من سكان السودان على ٩٥٪ من الشعب السوداني وتحويل جل موارد إلى إقليمهم الشمالي وضد كل أعراف الإقتصاد ومعايير التنمية.  قلل الكاتب مادبو النسبة إلى ٢٪، زاعماً إنهم المهيمنون على سلطة السودان وثروته.  وتساءل مادبو عن كيف يستقيم إستصلاح أراضي موري بواقع ٢٠٠٠$   للفدان مقارنة ب   ١٠٠$ في كردفان أو دارفور؟ 

الهوية والتاريخ:

لقد قبعت الهوية السودانية شبه معزولة عن السوان بتنوعه وتعدد ثقافته.  وبدلاً عن تعديل الهوية لتتسق مع شعبها، هرع قادتنا لتعديل تركيبة السودان لكي يتماشى مع الهوية.  يحضرني هنا قصة الوزير عبد الله محمد أحمد وقد كان وزيراً للثقافة في إحدى حكومتي الصادق المهدي.  أمر هذا الوزير مسؤولي المتحف القومي السوداني بإزالة آثار الحضارة النوبية واستبدالها بمعروضات أخرى حتى يعكس المتحف تاريخ السودان، ولاسيما الإسلامي.  وتنفيذاً لأوامر السيد الوزير، أزيلت تحف الحضارة النوبية وهي من أعظم حضارات الدنيا وهي سبقت الحضارة الإسلامية بآلاف السنين.  أما وزارة التعليم فهي أيضا لعبت دورها في هذا المضمار وكرست مادة التاريخ لدراسة تاريخ الإسلام والدول العربية كامتداد لتاريخ السودان وأصبح تلاميذ المدارس يعبرون البحر الأحمر لكي يتعرفوا على أجدادهم وأسلافهم: العباس وعلي إبن أبي طالب وجعفر المنصور وفاطمة الزهراء.  يمكن أن نضيف هنا ظاهرة تغيير أسماء القرى، بالأخص في غرب السودان من قبل الحكومات المتعاقبة مثل عد الغنم والتي أصبحت عد الفرسان وعريجة والتي أصبحت عديلة، وخسار مريسة وغيرها.  وألفت النظر هنا إلي أسماء الأحياء الجديدة في الخرطوم وغيرها من المدن والتي نزعت من الدول العربية دون أدنى تفكير. أن أسماء القري والمدن مرتبطة بتاريخ المنطقة ولها مدلولاتها الثقافية ولكنها أصبحت عقبة أمام الهوية الجديدة. 

دكتور خليل إبراهيم اسم معروف في الأوساط العامة في السودان ولكن قليلين يعرفون قصة حصوله على إسم “خليل”.  ففي أول حصة لخليل، دخل عليهم مدير المدوسة ليتأكد من عضوية الفصل الجديد.  وقف المدير أمام الطفل وسأله عن أسمه فرد خليل أن اسمه “هنين”.  تعجب المدير من هذا الاسم وفكر ملياً ثم قال: “من اليوم إنت إسمك خليل ولا نريد سماع كلمة هنين بعد اليوم.”  تحرك المدير نحو تلميذ آخر وترك هنين يكرر لفظ خليل سراً حتى لا ينساه فلم يسمع بهذا الاسم من قبل ولا يعرف معناه وفقد كان إذ ذاك يتحدث لغة واحدة وهي لغة الزغاوة. أشير هنا أنا التحدث بلغة الزغاوة محظورة في المدرسة ويسري هذا الحظر على جميع اللغات غير العربية. فالمدرسة في زمن هنين تمثل أرض معركة لتحطيم الثقافات المحلية وتعزيز الهوية المختارة. 

لم تأتي كل الأسماء المشبوهة نتيجة لأوامر فوقية فقد برع المهمشون أنفسهم في نهش ثقافاتهم المحلية وإحلالها بالهوية الجديدة الإسلاموعروبية.  دعني أعطي مثالاً واحدا من مدينتي أمكدادة وقد يظن من لا يعرف موقعها أنها مدينة سعودية لا تبعد كثيراً من مكة المكرمة.  أقول هذا لأن أمكدادة تضم أربعة أحياء سكنية وهي مزدلفة، الصفا والتقوى والسلام. أنبه القراء أن كلمة السلام أيضاً لها جرس ديني حيث أنها جزء من تحية الإسلام وختام صلواته.  ليس هذا اعتراضا على الأسماء الإسلامية ولكنه إشارة للاستلاب الثقافي الذي نعاني منه.   

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على نهلة صالح إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق