سلايدر

وعد حمدوك

بصيص من النّور في آخر النفق

د. محمد بدوي مصطفى

دولة الإخوان العميقة وراء الشغب:

نعم، تخوف الكثيرون من تطور الأحوال في السودان ومن انفلات زمام الأمور من بين أيادي ساسته وأن تعمّ الفوضى والأنارشيّة في كل شبر من أرض الوطن، وقد تنبأ آخرون بحاله اهتزاز حكومي مريع من قريب أو بعيد والكل يعلم كل العلم أن بالحكومة الانتقالية يتربص المتربصون، ذلك منذ أوّل يوم وطأت قدماها منصة الحكم وصولجانه؛ يريدون بها شرًّا ولن تهجع جنوبهم حتى يروها أسفل سافلين، لكن هيهات، فعزيمة الثوّار أقوى من شكائم كل الحاقدين، فضمائرهم الصافية النقيّة ستزهق كل المحاولات الآثمة الفاجرة في إجهاض الثورة؛ يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

أوّد في سياق هذا المقال أن أتعرض للأحداث التي انبثقت عن قرارات رفع الدعم الحكومي عن المحروقات من جهة، ولوعد وحديث د. حمدوك الحكيم وشرح الأسباب التي دعت إلى كل ذلك من جهة أخرى. نعم، قابلت الأمّة هذه القرارات الجديدة بموجات من الغضب العارم والعنف الغير مبرر وعادت العوائق والمتاريس مجددًا إلى الشوارع وكأننا رجعنا نحو سنتين ونيف إلى دفة الماضي حيث نشأت ونشبت نيران الثورة وصمد الاعتصام. نرى هذه الأيام أن بعضهم قد جاءوا ليشعلوا النيران في الطرقات والأماكن العامة؛ وحدثت في الحقيقة العديد من حالات العنف وشتى أنواع الاعتداءات المبتذلة والمتصافقة على ممتلكات المواطنين، وكانت في نظري في أيّ حال من الأحوال غير مبررة البتة لذلك ينبغي على الكل أن يشجبها ويجرّمها لأنها لا تشبه لا الثورة ولا الثوّار. وفي خضم هذه الموجات العارمة من الغضب وجدت بعض العصابات المندسة والمحرضة من قبل جماعات الإخوان طريقها لنشر الفوضى وعدم الأمن بين المواطنين، فقاموا بنهب المنازل والسيارات على مسمع ومرأى من الناس، وطفقوا يتعدون بالأذى الجسيم على حياة المواطنين في الطرقات وكل ذلك كان من المبررات التي جعلت الناس تتنبأ بحالات انفلات أمني لم تشهد له البلاد مثيل، وقد ذكر د. حمدوك في خطابه للأمة أن وراء هذه الفوضى كانت أياد الدولة العميقة التي لا تريد أن تستكين البتة ولا ترجو للبلد أي خير وكأنهم يقولون، إمّا أن نحكم نحن أو نهلك دونها، أو عليّ وعلى أعدائي.

على كل حال ترجل في تلك الساعة د. حمدوك الساحة وخرج مخاطبًا الأمّة في قضية الأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة التي ما فتأت أن تزداد يومًا تلو الآخر، جاء ليبيّن ويشرح بكل عقلانية دواعي وأسباب هذه الأزمة التي حتمتها قراراته الأخيرة والتي تتمثل في رفع الدعم عن المحروقات، وكما جاء مبشرًا بثوب يحمل ريح وثوب يوسف الأمين، وأن الفرج قريب وعالق في الأفق، ويؤكد مرّة ثانية على الملأ إن الفرج قاب قوسين أو أدنى وأنه يرى وبكل صدق وأمانة ضوءًا في آخر النفق وبصيصا من نور في نهاية الضائقة الكاسرة. من ثمّة يؤكد عن وعد خبير يعهد له الحرفية والأمانة وعن إيمان راسخ أن فاعلية هذه السياسات ستأتي أكلها في القريب العاجل ويجني الشعب ثمارها لا محالة. وما يؤخذ على الحكومة، كان من الأجدر أن تبين من أول وهلة وفي خطوات متتالية وعلى طوال المشوار كل الخطوات التي بُنيت عليها هذه الإصلاحات أو تعطي بتدرج نظرة في رؤاها الاقتصادية وفي سياسة رفع الدعم ليكون المواطن في الصورة وليجد الأسباب الناجعة في تفهم الوضع وأن يستكين في رضا وصبر قائلاً إنّ بعد العسر يسرًا. للأسف جاءت تعليلات الحكومة وإعلان سياساتها أغلب الظن متأخرة وفي وقت وصل فيه السيل بالناس الزبى. كنت أتحدث إلى لصديقة بالأمس فسردت لي في حديث مطول معاناة أسرتها مع انقطاعات الكهرباء التي لا صارت لا تطاق ولا يمكن وصفها في بلد تصل فيه درجة الحرارة إلى حدِّ السعير. تقول إنها لا تفهم لماذا، فحتى الآن ونحن في هذه الضائقة منذ بداية الفترة الانتقالية وقد تكاثفت هذه الانقطاعات في الفترة الأخيرة، لماذا لم يخرج أحد المسؤولين ليحدثنا ما القصة بالأساس وما الأسباب التي دعت إلى كل ذلك وهل من مخرج في القريب العاجل؟ تستطرد قائلة، لم نر هذا الضيم والجحيم حتى في عهد الإنقاذ، فهل الدولة العميقة هي وراء كل هذه التفاهات أم أن من استلموا زمام الأمور في فترة السنتين الماضيتين لم يكونوا على قدر المسؤولية؟ وترجع لتقول نحن صابرون ومع د. حمدوك إلى النهاية!

نادي باريس واعفاء الديون الخارجية:

انتظر الشعب السوداني خطاب السيد رئيس الوزراء بفارق الصبر وجرت عادة هذا الرجل أنّه لا يخرج في كل «فارغة ومليانة» على حد قول المثل كما كان يفعل الإخوان وكل من هبّ ودبّ فيما قبل. فهو على عكسهم، لم يرتجل الرجل الكلام ويرميه خبط عشواء كما كان يفعل جهلاء الإنقاذ، بل جاء حديثه متزناً، وازنًا وعقلاني، يجيب على العديد من الأسئلة التي طرحها الشعب وعرضها هذا العناء الذي أثقل كواهل الناس، من قطوعات كهربائية، شح في المحروقات، ندرة في المواد التموينية، الخ. وصرح السيد رئيس الوزراء إن اتفاقاً مع البنك الدولي وفّر لبلاده منحة بمبلغ 2 مليار دولار، وذكر أنه سيتم صرفه على عدد من مشاريع في مجالات مختلفة. كما وشرح في خطابه للأمة، أن حكومته وقعت اتفاقيات مع شركات عالمية في مجال التعدين والتنقيب، وستوقع في الأيام المقبلة على اتفاقيات أخرى في مجالات النقل والبنى التحتية، والطاقة وتوليد الكهرباء، والزراعة، وبناء وإنشاء طرق في مناطق عديدة، ومطارات جديدة، والاتصالات، والمواصلات بالمدن، خاصة بالعاصمة المثلثة الخرطوم. كما أشار في حديثه هذا للمبادرات الدولية التي نشأت في صحن مؤتمر باريس الداعم للسودان وأنها التزمت بإعفاء السودان من حوالي خمسة عشر مليار ونصف دولار، وتبلغ في الوقت الحالي ديوان السودان المتراكمة والتي كانت نتيجة لسوء حكم الإنقاذ ما يعادل ٦٠ مليار دولار، وهو مبلغ خرافي لبلد يرفل في بداية المشوار بخطواته المتعثرة نحو نهضة وإصلاح اقتصادي قادم لا محالة. وقد نوّه السيد حمدوك أن هذه الخطوة الإيجابية قد حفزت غالبية أعضاء نادي باريس بإعفاء ديونهم على السودان والتي تبلغ حوالي ٢٣ مليار دولار وكما نفى في نفس سياق إطار الإصلاحات الاقتصادية بأنها لم تفرض على حكومته من قبل أيّ جهة كانت، وأنه كخبير اقتصادي لجأ إليها لأنها كانت هي الخيار الأوحد الوزان والمنطقي الذي يدعم الاقتصاد ويكفل بإصلاح أعمدته رغم أياديه الباطشة وقسوته الشديدة على البشر، وكأنه يوحي لنا مقولة: لا توجد حلاوة بدون نار، على حد قول المثل الشعبي.

هيكلة الاقتصاد المصاب بالعجز والأنيميا:

لا يخفى على أحد أن اقتصاد السودان بعد ثلاثين سنة من حكم الإنقاذ صار ضعيفاً وواهنًا بكل المعايير، ولا داعي للندب والشكوى والاسهاب في فتح صفحات الماضي الإنقاذي البائس، فالأسباب التي دعت إلى ذلك معروفة كلها، والأشخاص الذين خربوا وعاثوا في أرض السودان فسادًا معروفين، فكان بلوغ الحكم في تلك الحقبة المظلمة، للأسف، خطة مدبرة ومتقنة سلفًا، جاءت لنهب ثروات البلاد دون رحمة من قبل حفنة من الأشخاص باسم الدين. ويمكن أن نقول بأنهم مع كل أسف نجحوا على مدى ثلاثين عامًا، في مداهنة الناس وفي التملق والتدليس عليهم بآي التقوى الزائفة وغرر السجود المفتعلة وبكلمة الله أكبر، فعلوا ذلك هم وأهليهم ومن جاورهم إلى يوم الدين. فمن تابع اخبار لجنة التمكين في الأسبوع الماضي نراه قد وقف على منشآت فارهة وأملاك توحي بالثراء الفاحش مثلًا لبعض أفراد أسرة رئيس الوزراء السابق على عثمان. كيف يستطيع هذا الرجل أن يبني لابنه قصرًا بحوالي ستة ملايين دولار وجدير بأن نذكّر أن المشروع قد نفذته شركة صينية وقامت فيه بكل عمليات البناء. نعم، هو منزل لأسرة واحدة، عائلة ابنه المصون. وكل الأسرة تتمرغ في جنباتها الفردوسية بينما عامة أهل السودان يقبعون ويعيشون تحت خط الفقر والعوذ، أيعقل ذلك؟

وقد تطرق السيد حمدوك لقضية هيكلة الاقتصاد السوداني المنهار في حديثه للأمة، وقد أفصح عن الأدوات التي ستُفعّل للخروج به من ظلمات الإنقاذ إلى أنوار الحقبة الحمدوكيّة. ولقد قام د. حمدوك بتوجيه الاتهام على ما سماه بـ»الأيادي الخبيثة» بأنها تعمل لتعطل عجلة الإنتاج وتخرّب دولاب العمل الحكومي وتعثر سير عمل القطاع الخاص، مؤكداً أن «حكومة الثورة لن تتهاون في حسم تلك الجهات بما يقتضيه القانون والسلطة الممنوحة من قبل الوثيقة الدستورية».

نعم الاقتصاد مشوّه بكل ما تحمل هذه المصطلحات من معان، وعلى الحكومة الحالية أن تسعى في تخليصه من الديون المتبقية (ما يقارب ٢٦ مليار دولار ونيّف بعد خصم الإعفاءات)، ثم عليها مراجعة مصروفات وإيرادات البلد لتقليل العجز الحاد في ميزان المدفوعات. وكل هذه الإجراءات ينبغي فيها التفاوض مع المؤسسات المالية الدوليّة المعنية (البنك الدولي – وصندوق النقد الدولي)، وقد جاء اتفاق بين الحكومة وهذه المؤسسات في غضون العام الماضي الذي اقتضى أن يدخل السودان بموجبه في برنامج إصلاح مدّته عام واحد، ينتهي في الثلاثين من يونيو الجاري، وبنهايته سيكون السودان مؤهلاً للإعفاء من ديونه المتراكمة ويكون اقتصاده قد وضع على قاعدة صلبة للانطلاق إلى آفاق الإصلاح بحق وحقيقة. وأن أعترف أن ما قامت به حكومة حمدوك في هذه الفترة الوجيزة شيء خرافي وفوق العادة فله الشكر في حق الشعب السوداني، وسنصبر إلى أن يأتي الله بأمره والفرج دون أدنى شك قريب، فالصبر والجلد هما السلوى.

برنامج الدعم الأسريّ:

إن سياط التدابير الجديدة يا سادتي ورغم قساوتها، بيد أنّها، على حد قول د. حمدوك، هي كما عملية الكيّ الذي يعالج به المرضى من الدمل. وأشار السيد رئيس الوزراء إلى أن حكومته وضعت سياسة واستراتيجيات محكمة لتخفيف آثار الإجراءات الاقتصادية التي طالت كل طبقات الشعب دون فرز، من بينها برنامج الدعم الأسري المعروف اختصارًا ب»ثمرات»، وهو يختص بتقديم الدعم النقدي المباشر لفئة تبلغ حوالي ستة ملايين نصف مليون أسرة، يعني نسبة ٨٠ بالمائة من السكان، والرصيد الذي وضع لهذه البرنامج الإصلاحي يقدر بحوالي ٨٢٠ مليون دولار، تمّ استخدام حوالي ١٥٪ منها، ويتوقع السيد رئيس الوزراء أن يرتفع الدعم إلى حوالي ٢ مليار دولار بعد دورته الأولى. وفي نفس السياق تعهد د. حمدوك بإصدار قرارات حاسمة من أجل تحقيق إصلاحات حقيقية ووازنة في قلب الجهاز المصرفي وبهيئة الجمارك ومصلحة الضرائب وتجديد ونفض الغبار من سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب وصارت في الحقيقة بؤرة للتأخر والرجعية والنهب. كما صرح بإصدار قرارات أخرى هامة تُعنى بإعفاءات جمركية وضريبية واسعة على السلع الضرورية ومدخلات الإنتاج الهامة، والسلع الرأسمالية، مع فرض ضرائب وجمارك مرتفعة على السلع غير الضرورية، وقد نوّه هاهنا إلى أن هذا النوع من السياسات سيساعد في توفير السلع الضرورية بأسعار تنافسية، ولن يمنع الحصول على السلع غير الضرورية بقيمتها الحقيقية، كما أنه سيشجع عجلة الإنتاج المحلي وسوق التوظيف.

من الأشياء الهامة الذي يجب أن تتضمنها الحكومة في سياساتها وفي إطار برنامج دعم الأسرة هو الدعم المتصل للعديد من السلع الاستهلاكية الهامة مثل الدقيق والزيت والسكر والخدمات الضرورية مثل الكهرباء والمياه والغاز والدواء. بالطبع نعرف أن كل هذه السياسات تحتاج لوقت وجهد كبيرين وأظن غالبية الشعب قد صرح بالوقوف مع الثورة والحكومة الانتقالية ضد الدولة العميقة ورجعية الإخوان المتأسلمين.  نتمنى أن تكلل كل هذه الخطوات والسياسات الجيدة بالنجاح ليخرج الناس بالبلد إلى آفاق الإنتاج والعمل والجاد وتطوير المرافق العامة والخدمات العمومية والخاصة في كل أنحاء السودان ومن هناك يجب علينا جميعا بيد واحدة تحريك عجلة الإنتاج الفردي، الجماعي والجمعوي في ربوع السودان الواعدة والتي تكمن فيها طاقات لا يعلمها إلا الله، ويجب علينا تطوير مواردنا والخروج بها من نطاقها الضيق إلى آفاق أوسع وهذا سوف يكون سببا وجيها في حثّ رؤوس الأموال الأجنبية بأن تستثمر في السودان.

وختامه مسك:

إن قراءة وعد د. حمدوك يوحي بأن كل هذه السياسات والاستراتيجيات هي بمثابة مشرح طبيّ يسلك طريقه في قلب الاقتصاد المريض، ليخلع من صماماته الأعطاب والأورام التي جعلته هالكا ضعيفًا طيلة هذه العقود الثلاثة. والحكومة الانتقالية حسب ما أشار إليه د. حمدوك في طريقها لجلب المستثمرين للدخول في مشاريع ضخمة وعظيمة وفي الأول والآخر تتجه لإنشاء مشروعات ملّحة وهامة ذات أولوية قصوى لتحقيق الخطط التنموية القادمة، لا سيما في مجال البنى التحتية والطاقة والزراعة والموارد المائية والتعدين والاتصالات والمواصلات والسياحة بكل مجالاتها وأفرعها. يجب علينا أيضًا ألا ننسى في أنّ رفع ميزانية التعليم والبحث العلمي ذات أهمية قصوى في طريق النهضة المنتظر. حقيقة إن أمام السودان فرصا كبيرة لاحتواء الأزمات والتخطيط في طريق الحضارة والتنمية على أسس ديموقراطية حقّة وتحت مظلة سلام شامل يتضمن كل أبناء الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، دون تفرقة أو عنصرية. والكل مطالب في مسيرة البناء وفي المشاركة في المنظومة العالمية بجهدنا وثمار جنيناها بأنفسنا، والله وليّ التوفيق. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق