ثقافة وفن

العم اشتفان للكاتب المجري زولتان توري

ترجمها عن اللغة المجرية: عامر كامل السامرائي

طُرِقَ باب المرسم على الطريقة المجرية، بحیث كسَرَتْ بُرجمة الطارق الواقف في عتبة الباب لوحها الرقیق. نظر الرسام الى الباب باكتراث مرتعداً بسبب الطرق، وأشار بیده للفتاة الجالسة أمامه كموديل وقال:

• أش. آملاً في أن یستمر الضیف واقفاً حتى یصیبه الیأس ویذهب، ولكن یبدو ان للذي یطرق بهذا الشكل قصد حازم في الدخول، فقد تكرر الطرق، وبقوة أكبر هذه المرة.

وضع الرسام الفرشاة ولوحة الألوان باكتراث وهز كتفه قليلا، وأومأ للفتاة، فقامت وربطت حول خصرها شریط تنورتها، وفي اللحظة التي ركضت فیها في المرسم لتختبئ خلف الستارة، فُتِح الباب، وراحت نظرات الذي وقف في العتبة تلاحق الفتاة، وقد تسمر في مكانه فاغر الفم مذهولاً، وببطءٍ شدید تحول ذهوله الى سخط، وراح یهز رأسه ویعاود النظر باتجاه الستارة وكأنه یرید التأكد تماماً من أنه رأى تلك الفتاة نصف العاریة التي اختفت وراء الستارة ام لا.

اندفعت ذراع مكورة بیضاء جميلة من خلف الستارة لانتشال بعض الملابس الداخلية وضعت على كرسي. في هذه اللحظة غمد الضيف رأسه في الهواء مثلما تغمد الملعقة في صحن الحساء، وهز رأسه طويلا، وكأنه تأكد الآن من كل شيء، ودخل الى المرسم كئيباً صارماً.

كان الرسام شاباً نحیف البنية، أشقر الشعر، وقد تخطى الى الخلف وكأنه أحس بأنه ینبغي علیه الخوف من الانتقاد بسبب هذا المنظر. كان المرسم مبعثراً تماماً. في جانب ما من المرسم طست فیها ماء مُصَّبن قذر، وفي الزاوية وضع فوق منضدة المكتب حذاء ملمع ومشط مع فرشاة شعر، وكُمّ مع یاقة قمیص، وقد وضعت الفتاة قبعتها الى جانب هذه الأشیاء. وعلى المقعد حیث كانت الفتاة الممشوقة القامة ذات المنكبين العریضین انطرحت كومة من الملابس البيضاء النظيفة.

اندفع الرسام لِنفض التراب عن أحد الكراسي، وبِتكرم متكلِّف دعا ضيفه للجلوس، وحاول التعبير عن سروره، فأشاح بیده، لكنه لم یفلح بذلك، فقد بدت حركته خرقاء مصطنعة، وقال بابتهاج:

• مائة عام مضت، لم ألتقِ بكَ خلالها یاعمي اشتفان! ما الذي جاء بك إلى هنا؟ إنها لفرصة سعیدة حقا- وأضاف بتأوه – ما كنت سأصدق لو قالوا لي ان العم اشتفان سیصل الیوم. تفضل بالجلوس یا عمي …

لكن الضيف ظلَّ واقفاً یُحدقُ بالستارة بشكل كئيب فیه شيء من الحزن یدل على الشؤوم والإذلال جعل الرسام یتكور، وكأنه أصابته القشعريرة، وبادر قائلا:

• ألا تطرد هذه من هنا، حتى عندما یزورك شخصٌ وقُورٌ محترم من عائلتك؟

وعاود النظر إلى الستارة بصرامة أكثر، وهو لا یزال واقفاً، دافعاً إحدى ساقیه إلى الأمام وكأنه تمثال.

قال الرسام بحماس:

  وكیف لا… هذا الیوم سأُخصِصه لك یاعمي اشتفان.

ثم قال للفتاة:

• ارتدي ملابسك یا إیلونا، فالیوم لست بحاجة الیك.

یبدو ان الفتاة سمعت حديثهما لأنها اجابت باكية:

• حاضر، ولكن «ستياني» غیر موجود هنا

• أین هو؟

• في مكان ما في المرسم. ماذا تظن؟ انا أيضا انسانة محترمة، فما الضیر في أن أحصل على لقمة عیشي بهذه الطريقة؟ فإلى جانب ذلك أيضا یستطیع الإنسان الحفاظ على شرفه. ابحث عن «ستياني» خلف صفيحة الخشب. لیس شرفي اسوأ من غیره…

قال الرسام: اوه، یا إیلونا، لا تأخذي هذه الأقاويل مأخذ الجد، فالسَید لم یقصد بذلك أي شيء.

استمع الضیف ببرود، الى شهقات الفتاة وبكاؤها وعويلها المتقطع، وأضاف هازئاً:

• أواه، یا للمسكينة، ولم لا یا قطتي الصغيرة.

وعندما ذهبت آخر الأمر تفرسها من قمة رأسها الى أخمص قدمیها، وصفع الهواء بیده بعدما غلقت الباب خلفها. عندئذٍ جلس، وبادر بالكلام بعد صمت طويل هازاً رأسه، متأوهاً، ناظراً في عیني الرسام الذي جلس أمامه متكوراً على السجادة.

• أسمع یا أخ، حقاً أن والدك مات في الوقت المناسب. فلو كان ینبغي علیه مشاهدة مثل هذه المناظر. لكان الأجل قد وافاه بسبب العار. فقد رعى أبناؤه وأحسن تربيتهم، وما كان باستطاعته تحمل أن يرى أصغر اولاده یجول في مستنقع الفساد.

• أنا؟ ولكن لماذا یا عمي اشتفان؟

لم ینفد صبر الشیخ الجلیل لسذاجة الرسام، فاستطرد بهدوء وتعقل، ولم يكن في صوته شيء یدل على اللوم أكثر منه دلالة على شعور بالأسى العميق على حیاة ضائعة. وكانت عیناه تجولان في آفاق المستقبل البعید، وكأنهما تبحثان عن نهاية لهذا الفسوق، فأغمضهما وكأنه رأى صورة رهيبة، فدفع ظهره بقوة الى مسند الكرسي وكأنه یحاول انقاذ نفسه من هذا العالم الملوث.

• اسمع، نحن أيضا ساورنا الشك بوضعك. فقد بكت أمك بمرارة بسببك. كما بكت بسببك فتاة اخرى، وأنت تعرف من التي أقصدها. تلك التي حدثتها بكلام جمیل، والتي لایبدو انها قد تمكنت من التأثير علیك. الجنس اللطيف یتراكض هنا في وضح النهار یاعدیم الحیاء!

تملك الرسام النفور، لكنه استطاع ضبط نفسه.

ولكن هذا هو مجال عملي یاعمي اشتفان، فأنا بحاجة الى الجنس اللطيف، لأنه ذو صلة بفني، كصلة الفرشاة وقطعة القماش…

نهض العجوز، ونظر الى الأسفل محدقاً بالشاب الصغير.

• بحاجة الیهن نصف عاریات؟

• في بعض الأحیان یكنَّ عاریات تماماً. فهذا یتوقف على الموضوع الذي ارید رسمه.

• إذن، هكذا؟ لم أكن اتصور أن یستطیع شابٌ مثلك من عائلة محترمة الأجابه على مثل هذا السؤال.

الفن یا أخ مهنة عريقة. وإذا ترید أن تعرف أكثر، فقد مارست هذا المجال سیدات محترمات. فخذ على سبیل المثال ابنة البارون الذي كان یسكن في جوار الضیعة التي كان یملكها والدي. كانت ابنته رسامة ایضا، ولكن بشكل یلیق بمنزلة عائلتها. أما ما تفعله انت، والذي وصلت اخباره الینا، فأستطيع ان اقول إنه عمل خالٍ من العفة، ولا یلیق بشاب من عائلة معتبرة. ولو فعل ابن فلاح أو ابن یهودي ما تفعله انت لنال جزاؤه. أما أنت فمن عائلة محترمة.. مهنتك… هذا هو التهور الذي كنت خائفاً منه علیك عندما اخترت لك مهنة الطب البيطري، لكنت قد أكملت دراستك وحصلت على شهادة، وشعرت بالاستقرار… أما هنا فحتى لو ارتقیت إلى مستوى المبدعين ستظل حیاتك مثل حیاة الخنزير. ((ارتدي ملابسك یا إیلونا) – (ولكن أین ستياني؟)). اسمح لي أن أقول لك إنه لا توجد وظيفة تُتداول فیها مثل هذه العبارات، أهذه هي وظيفتك؟، لا یخطر ببالي اسم أطلقه على هذا المكان… أنظر أقرانك كیف وصلوا إلى مناصب عالیة. فمنهم القاضي ومنهم من وصل إلى منصب آخر… في هذه اللحظة فقد الرسام أناته فصاح:

• أنا ایضاً لي منصب.

رفع الضيف سبابة یده الیمني وأشار فجأة إلى السماء، بحیث جعل الشاب یجفل لهذه الإيماءة غیر المتوقعة، فصمت.

• ولكن أین یا أخ، أین؟ في المزبلة، فينبغي علیك في نهاية المطاف ألا تعتبر نفسك بأنك تؤدي عملاً محترماً بمنح نفسك للفتیات، بل وحتى لهذه التصرفات نمط خاص، ولكن لیس بهذه الوقاحة… (إیلونا ارتدي فستانك، إیلونا اخلعي فستانك..). في أيامنا كانت نماذج الفنانين من الجبس، والزهور، وغیرها من المناظر، ولم يسببوا لعوائلهم الفضائح، بسبب فتیات عاریات.

• تفو.. هذا هو رأيي، بالرغم من أنني إنسان متعلم. تفو.. أقول وقلبي يؤلمني لأنني وجدتك غارقاً إلى هذا الحد، ولیس بودي، ولكن ینبغي أخبار المسكينة والدتك، حتى وأن كانت ستتألم، كما یجب إخبار إنسانة أخرى، لأنني لست من أولئك الذين ینكرون الحق.

• تفو.. عندما یفتح الإنسان الباب تتراكض الإناث یمینا وشمالا…

بعد نمط الحیاة هذه، كیف تستطيع احترام قدسیة الحیاة الزوجية.. أیها البائس…

• ولكن یا عمي استیفان…

• شاب بائس !

كان قد أمسك بمقبض الباب عندما التفت مرة أخرى ناظراً بحزن وبشيء من الكراهية لا

تخلو من الفضول، وفي زاوية عینیه بدت لهفة للبحث في كل زاوية من زوايا المرسم وكشف الأسرار واستنشاق العطور التي تنبعث من مختلف أشكال التنورات التي مرت بهذا المكان. لكنه مضى بوقار وكبرياء.

رفع الرسام منكبيه حتى لامسا أذنيه، وهو یسمع باضطرار كیف یطقطق خشب السلم تحت قدمیه.

نبذة عن الكاتب

ولد الكاتب في السابع من مارس عام 1870 في مدينة كولوشڤار وتوفي في 27 من أغسطس عام 1906 في العاصمة بودابست.

بعد تخرجه من الثانوية، عمل ممثلاً مسرحياً متجولاً لفترة قصيرة من الزمن. بعدها درس الأدب وسرعان ما أصبح صحفياً، وبدأ الكتابة في الصحف المحلية. كتب مسرحية «سوزانا» وهو في سن السابعة عشرة، والتي لاقت نجاحاً في جميع انحاء المعمورة والتي حولت إلى مسرحية موسيقية وقدمت في دار الأوبرا.  بعد انتقاله إلى العاصمة بودابست عمل صحفياً في جريدة «مذكرة پَشت» التي أرسلته إلى ألمانيا كمراسل لها وعاش في ميونيخ لمدة عامين.

التقى هناك بالعديد من البولنديين واللاجئين الروس. تم استدعاؤه مرة أخرى من ميونيخ إلى بودابست، حيث كان عضوا في العديد من مكاتب التحرير. كتب مسرحية «جنود»، والتي حققت نجاحاً كبيراً في المسرح الكوميدي (ترجمت هذه المسرحية إلى الألمانية والإيطالية، ولكن بسبب توجهها الاشتراكي، تم منعها في كل من إيطاليا وألمانيا). كتب عدة أعمال مسرحية بالإضافة إلى ثلاث مجاميع لقصص قصيرة وحكايات روائية..

نبذة عن المترجم:

عراقي الأصل مجري الجنسية، أعيش في مدينة دوسيلدورف منذ ستة سنوات.. انهيت دراستي في دولة المجر. ترجمت الكثير من الأعمال الأدبية لأدباء من المجر، وكذلك أدباء من دول مختلفة، أترجم عن اللغة المجرية والإنكليزية. صدرت لي مجموعة شعرية مترجمة للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، وستصدر لي قريباً مجموعتين شعرية وقصصية لأدباء من المجر..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق