ثقافة وفن

الكتابة النسائية والإخصاء الذكوري.. والحمض النووي المستلهم

عبد العزيز كوكاس

تعكس تجربة المرأة العربية في مجال الإبداع طابعا تراجيديا، إذ لم يقبل حراس المعبد الإبداعي للمبدعات العربيات بالتفوق والخروج عن الحقل المسيج بالرموز والقوانين والأعراف والذي قيد المرأة وحصرها في مجال الأدوار التقليدية كضامن لاستمرار النسل والتربية وأشغال المنزل، تبدو النساء المتألقات في مجال إنتاج الرأسمال الرمزي في وضع بروميثيوس سارق الشعلة المضيئة التي تحيل على الوعي، المعرفة، الفن والإبداع عامة، إنهن أكثر من تعرضن للظلم والألم والإقصاء، كان لا بد لهن من ضرائب باهظة لإثبات تفوقهن في مجال الكتابة والإبداع، المجال الذي سيّجته السلطة الذكورية بقوانينها ورسمت المباح والممنوع والمتاح للمرأة في حدوده، تكلفة من جنون ومرض وموت وقتل رمزي وإسناد مواليدهن الإبداعية لمبدعين ذكور فيما يشبه الطرد الممنهج للمرأة من حقل الكتابة، أي من حقل إثبات الذات وتحقيق الاستقلالية والتفرد والثورة على الإقصاء والتهميش وتكسير الطابوهات المنتصبة في طريقهن مثل ألغام دائمة الاشتغال حتى بعد انتهاء أزمنة الحرب..

لقد وصلت مي زيادة إلى الجنون، ودخلت المصحة العقلية وتخلى عنها كبار الأدباء والمفكرين العرب الذين فتحت لهم صالونها الأدبي، وتنكر لها الأهل لأنها مارست ثورة رمزية على التقاليد الشرقية، وماتت معزولة ولم يمش في جنازتها من آوتهم في بيتها ومن صادقوها خنوعا بعد أن أثبتت تميزها وتألقها الأدبي وهي التي كانت تتقن تسع لغات وعلى اطلاع واسع على التراث العربي والعالمي.. وفضلت الكاتبة المِصريّة مَلَك حنفي ناصف أو “باحثة البادية” الانتحار، لتحتج  بالموت على السلطة الذكورية التي تحاول إقصاء المرأة من حقل الإنتاج الرمزي والصراع على أحقية المساهمة في متروبول الإنتاج الإبداعي والثقافي إلى جانب الرجل، إذ كانت المرأة الوحيدة في صالون مي زيادة الأدبي إلى جانب الكبار: طه حسين، أحمد شوقي، لطفي السيد، محمود العقاد، مصطفى الرافعي، خليل مطران، أنطوان الجميل، مصطفى عبد الرزاق وغيرهم.. منذ عام 1912، كانت ابنة اللغوي المشهور حنفي ناصف، ذات جرأة عالية، تطاوعها اللغة وتنثال على لسانها وقلمها، وهو ما لم يقبله حراس الكتابة الإبداعية الذين سعوا إلى طرد مَلَك حنفي ناصف من المجال الإبداعي الموسوم بالفحولة، فعانقت الموت لتكتب سخطها واحتجاجها بجسدها بطريقة تراجيدية..

فيما وجدت العديد من الكاتبات العربيات في الهجرة ما يمنحهن هواء أكثر نقاء لمواصلة الكتابة والإبداع، وكن أكثر تحررا من زميلات لهن ظللن على امتداد هذه الرقعة العربية يقاومن التقاليد والأعراف والإقصاء في مجال الكتابة الإبداعية خاصة، وبعضهن صمت إلى الأبد.

“زينب” حسين هيكل ليست أول نص روائي عربي

تتفق جل الكتابات العربية المختصة بتأريخ بداية الرواية العربية في شكلها الحديث، على أن الكاتب حسين هيكل هو من دشن بداية الرواية العربية، ومن ثمة تواتر بيننا أن رواية “زينب” التي صدرت عام 1914 باسم فلاح مصري، هي أول تجربة روائية عربية مكتملة البناء، وتستجيب لمعايير فن الرواية كما وضعه النقاد الغربيون أساسا، ويسود الاعتقاد بأن المرأة العربية لم تقتحم مجال الكتابة الروائية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين برواية “أروى بنت الخطوب” للأديبة وداد سكاكيني التي صدرت عام 1952 والتي ستصدر بعد سنتين روايتها الثانية “الحب المحرم”..

محمد حسنين هيكل وروايته زينب

لكن العديد من الدراسات الحديثة تشير إلى أن باكورة الرواية العربية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، بنصوص عديدة موقعة من طرف نساء عربيات، وفي مقدمتهن رواية “نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال” التي نشرت عام 1885 للكاتبة المصرية عائشة التيمورية (1840 ـ 1902) أخت الأديب أحمد تيمور، والتي تعتبر اليوم أول إنتاج روائي عربي موقع بقلم نسائي، ثم رواية “صائبة” للكاتبة اللبنانية أليس بطرس البستاني التي نشرت عام 1891، ورواية “فابيولا” للكاتبة عفيفة آظن الدمشقية التي طبعت عام 1895، وسبق للكاتبة السورية أن ترجمت العديد من الروايات الفرنسية إلى اللغة العربية، ثم تلتها رواية “غادة الزاهرة أو حسن العواقب” للشاعرة والمؤرخة اللبنانية زينب فواز التي صدرت سنة 1898، وكانت “صاحبة الدر المنثور في طبقات ربات الخدور” قد سبقت قاسم أمين في الدفاع عن تحرير المرأة، ثم رواية “حسناء الجسد” للكاتبة اللبنانية لبيبة هاشم الصادرة سنة 1898، كما صدرت لها روايتان هما “قلب رجل” سنة 1904 والتي جاءت أكثر اكتمالا على مستوى البناء الروائي وبها اشتهرا لبيبة هاشم و”شيرين” سنة 1907، وستصدر اللبنانية لبيبة ميخائيل صوايا (1876 ـ 1916) رواية “حسناء سالونيك” عام 1909 التي طبعت بدمشق.

إن تغييب الروايات السابقة على رواية “زينب” لحسين هيكل لا يتعلق بكون هذه الرواية هي التي اجتمع فيها ما تفرق في سابقها، أي أن معيار تحديد السبق في الإبداع السردي الروائي، لم ينبن لدى جل النقاد على معايير جمالية تبرر إقصاء النصوص السابقة عليها سواء تلك التي ألفها ذكور أو إناث، ولكن كان نابعا أساسا من لاوعي ذكوري يتحكم في توزيع الوظائف والأدوار، ويمنح أوسمة الشرف لمن يحق له اقتحام خطوط البداية والسبق في مجال الكتابة الإبداعية، إنها السلطة الذكورية التي تغيب المرأة قسرا من حقل الإنتاج الرمزي الذي تسيجه لتبقيه مجالا حيويا للرجل.. إنه المتخيل الرمزي العربي الذي يسعى إلى جعل الإبداع والسبق فيه خاصية ذكورية، فحولة عربية، حيث يجب أن يظل جسد المرأة صامتا، محجوبا، خصيصته الحيوية الغواية وأن يكون مجالا للإبداع لا طرفا فعالا في إنتاج رموزه، للمرأة جسدها الطبيعي لتكتب فيه أو به، وللرجل فحولة القلم الإبداعي لفتح مجالات وحقول إبداعية جديدة، فليس حجب الروايات النسائية الأولى السابقة على رواية حسين هيكل، محض سهو أو قصور في البحث والتدقيق، وإنما هو طمس متعمد لحق المرأة العربية في امتلاك أحقية الكلام والكتابة الإبداعية وحتى تحقيق السبق فيها على الرجل..

صراع بين نازك والسياب حول أحقية ريادة الشعر الحر

ثمة عطب ما يرافق دوما الإبداعات النسائية ذات الصدى الواسع والأثر المتميز في الحقل الأدبي العربي، يتعلق بترسيخ التفوق الذكوري في حقل الكتابة وقصره التميز الإبداعي على الرجل، تكرر الأمر في أكثر من لحظة تاريخية في محاولة سحب الريادة عن الأنثى في حقل هيمن عليه الذكور بامتياز لقرون طويلة، فقد انفجر منذ نهاية الأربعينيات جدل كبير بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة حول ريادة الكتابة الشعرية الجديدة، وأيهما أسبق في تجربة الشعر الحر، حيث ظهرت أول قصيدة لنازك سنة 1947 بعنوان “الكوليرا”، فيما يقول السياب في مقدمة ديوانه “أساطير”، إن أول تجربة له من هذا القبيل كانت في قصيدة “هل كان حباً؟” من ديوان “أزهار ذابلة” الصادر عام 1948..

نازك الملائكة

دخل على الخط نقاد عرب ناصروا السياب في ريادته لتجربة الشعر الحر وأنه أسبق من نازك، وقد تشبثت نازك الملائكة بحقها في الريادة في هذا اللون الشعري، حين كتبت في مؤلفها “قضايا الشعر المعاصر”: “إن بداية حركة الشعر الحر 1947 في العراق، بل من بغداد، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر، هي قصيدتي “الكوليرا” وقد نشرت في بيروت، ووصلت نسخها إلى بغداد في أول ديسمبر 1947، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة” وفيه قصيدة حرة الوزن”.

بدر شاكر السياب

لكن انتصار النقاد لأسبقية السياب وإقصاء المرأة من التنافس حول هذا الحق الإبيسي، جعل نازل الملائكة تنحني أمام العاصمة وتجد مخرجا ذكيا لمسألة الريادة، لترمي بها في حقل شعراء ذكور سابقين عليها وعلى السياب نفسه، تقول: “عام 1962 صدر كتابي هذا “قضايا الشعر المعاصر”، وفيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرا حرا قد نظم في العالم العربي قبل 1947 سنة نظمي لقصيدة الكوليرا، ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها، وإذا أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي أحمد باكثير ومحمد فريد أبي حديد ومحمود حسن إسماعيل وعرار شاعر الأردن و لويس عوض وسواهم.. ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر شاكر السياب للشاعر بديع حقي”.

وراء كل إبداع أنثوي عظيم يوجد رجل

قباني أب الإبداع الرمزي لكولين خوري وسعاد الصباح والبقية تأتي!

عام 1959 صدرت رواية “أيام معه” للشاعرة والروائية السورية كوليت خوري، ذهب كثير من النقاد إلى أنها تحكي عن علاقتها بنزار قباني، أي وراء كل عمل نسائي عظيم يوجد رجل يلاقي إجماع النقاد في مجال الفحولة الإبداعية، وفي محاولة لإقصاء المرأة من الإنتاج الرمزي الذكوري، وحصر مجال الكتابة والإبداع المتميز على الرجل، ذهبوا إلى أن نزار قباني هو الذي أعاد كتابتها، مستدلين على أن هناك أكثر من صلة بين الرواية وديوان “حبيبتي” للشاعر قباني!ونمت أقاويل عن كون الشاعر السوري جزء من تلك الرواية، مستشهدين بتزامن قصيدة نزار “أيظن” بعد أن أبدعت في غنائها نجاة الصغيرة على إيقاع ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، مع صدور رواية كوليت خوري التي لم يقبل المجتمع الذكوري ثورتها على التقاليد الشرقية.

كوليت خوري

نجحت رواية “أيام معه” لكوليت خوري في أن تحدث هزة اجتماعية وثقافية بأسلوبها وبحبكتها وبرومانسيتها الكلاسيكية التي تجعلها في مصاف الروايات العالمية، وتحولت الرواية إلى حلبة صراع لطرد المرأة من حقل الإبداع، على اعتبار أن الكتابة الإبداعية حقل رمزي محروس خاص بالفحولة والذكورة، وعلى المرأة ألا تطأه فبالأحرى أن تحوز قصب السبق فيه وتتفوق على الرجل، يقول نور الدين أفاية في كتابه “الهوية والاختلاف: في المرأة، الكتابة والهامش”: “هناك شيء لا واع في الرجل يقاوم الاعتراف بقدرة ما يمكن أن تحوزه المرأة، اللهم إلا القدرة على الخيانة والكذب، هي إذن لا تقدر على الكتابة والإبداع، هي تضع وتلد فقط، أما فعل الإبداع والكتابة فهو مجال مخصوص للرجل، لأن التاريخ يعلمه أن المرأة برهنت على عدم إمكانية الإبداع والتجديد والاكتشاف، وهذا واقع حضاري قائم في عرفه” ص32.

إن الهجمة التي ووجهت بها كولينتالخوري، والتي ادعت أن كاتب روايتها هو نزار قباني، تحمل بعدا لا واعيا لدى حراس المجال الرمزي الذكوري العربي من التعرض لاختراق المرأة، ورغم أن نزار قباني رد على دعاة إسناد روية “أيام معه” إلى أبوته حين قال: (لا فرق إذا كان الكاتب رجلًا أم امرأة، كما أنه لا دخل إطلاقًا للخصوصيات في نجاحها الأدبي أو إخفاقها فيه، فهي إمّا أن تكون كاتبة أم لا، تحسن التعبير عن أفكارها أو لا)، استمرت عملية التشكيك، ولحسن الحظ أن رواية “أيام معه” أضحت جزءًا من الرأي العام الذي شغف بها واعتبرها عملًا أدبيًا رفيع المستوى ولم يسقط اسم كاتبتها من سماء غلافها، وأن المبدعة كوليت خوري استمرت في إنتاجها الإبداعي ولم تركن إلى الصمت لتسييد فكرة أن المرأة لا تقوى على الابتكار والإبداع في الحقل العربي، وظلت إنتاجاتها في الشعر والرواية كما في السياسة أيضا.. قوية ومزلزلة للإستراتيجية الذكورية التي كانت تسعى إلى أن تسحب منها إبداعيتها وحق حيازتها مكانا لائقا في الإبداع العربي.. على خلاف ما حصل مع الشاعرة الكويتية سعاد الصباح التي قيل مرة أخرى إن نزار قباني هو من كان وراء قصائدها، كتابة لا إلهاما، ومع توالي الهجمات عليها ومحاولة سحب الاستحقاق الإبداعي عنها كامرأة.. اختارت الدكتورة سعاد الصباح الانزواء إلى الظل والصمت الشعري إلى الأبد.

أطباء النص يبحثون عن الحمض النووي لمولود أحلام مستغانمي البكر

الأب الطبيعي لرواية “ذاكرة الجسد” نزار قباني أم سعدي يوسف؟

إن انتشار التعليم ودخول المرأة حقل الكتابة الإبداعية، صعّب مهمة حراس المجال الحيوي للفحولة العربية: حقل الإنتاج الرمزي، إذ فرضت المرأة اسمها وصوتها، وهو ما جعل الرجل يطور من إستراتيجيته السلطة الذكورية لحماية تفوقه الرمزي، بقبول الكتابة النسائية على مضض بشرط ألا تزاحمه على الريادة والجودة الأدبية، يقول نور الدين أفاية: “لكن النظام الرمزي الذكوري السائد والذي يسمح للمرأة بإعلان كتابتها لا ينطلق في ذلك من تقدير معين لقيمة ما تكتب وما تنتج بقدر ما يسعى إلى توريطها وإبرازها ككاتبة ضعيفة لا تستطيع الرقي إلى مستوى كتابة الرجل وأن يعمل على إشعارها بأنها ناقصة لا تبدع إذا كتبت، وبالتالي يغدو النظام الذكوري فخّا لا حدود له في إمكانية تسهيل الانتقاص من إبداع المرأة”. م- س. ص33

احلام مستغانمي

في سنة 1993 صدرت الطبعة الأولى لرواية أحلام مستغانمي “ذاكرة الجسد” التي قدم لها نزار قباني، لاقت الرواية نجاحا منقطع النظير وصدرت لها طبعات متوالية عديدة ونقلت إلى السينما وحازت جوائز عديدة، وقفز بها اسم الروائية الجزائرية الصاعدة إلى سماء نجوم الرواية العربية، وهو ما لم يكن مستساغا لدى بعض النقاد والإعلاميين من حراس المعبد الذكوري للريادة الإبداعية العربية، فانبرت سهام التشكيك في نسبة رواية “ذاكرة الجسد” للأنثى أحلام مستغانمي، وبدأ البحث عن المبدع الذكر الذي خط هذه الرواية الجميلة، كما لو أن وراء كل إبداع أنثوي متميز رجل ما، يجب الكشف عن هويته، وسارع بعض “ضباط الحالة المدنية” من النقاد والصحافيين إلى البحث عن الحمض النووي الذكري الذي أنجب رواية متميزة على غلافها اسم امرأة، لم ينظر إليها سوى كمنتوج للفحولة، هكذا قام البعض بقراءة “بوليسية/مختبرية” للتقديم الذي وقعه الشاعر نزار قباني على ظهر غلاف الرواية، وهو يقول: “هل كانت تكتبنى دون أن تدرى.. لقد كانت مثلى تهجم على الورقة البيضاء بجمالية لا حد لها وشراسة لا حد لها.. وجنون لا حد له.. الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور بحر الحب وبحر الجنس وبحر الإيديولوجيا”، لترويج أن نزار قباني هو الأب الطبيعي لرواية “ذاكرة الجسد”.. فبماذا ستدافع امرأة تخطو أولى خطواتها على درب الكتابة بمنتوج مبهر، خارق، حصد إجماع الكل حول تفرده وعلو كعب من خطه، وهي ترى عملها الأول يسند إلى قامة ذكورية كبيرة في سماء الإبداع العربي؟

بضع سنوات على ذلك، احتدت أزمة في الوسط الثقافي حول من يكون مؤلف “ذاكرة الجسد”، حيث نسبت تصريحات نقلاً عن بعض أصدقاء سعدي يوسف في تونس، حسب ما أوردته جريدة “الحياة اللندنية”، تذهب إلى أن الشاعر العراقي هو الذي كتبها وأورد كاتب تونسي على لسان سعدي يوسف: “عشت مع أحلام كل مراحل كتابتها وكانت تمدني بكل ما تكتبه، وكنت أقرأ وأعيد الكتابة، ولما انتهت أعدت قراءة المخطوط ثم أعدت كتابته ليصير كما هو عليه الآن”، بل استنتج بعض “أطباء النص” أن الشاعر العراقي لمّح إلى كونه صاحب الرواية في قصيدته “عن اللائي يكتبن رواية مشهورة”، التي نشرت في ديوان “حانة القرد المفكر” الصادر في عام 1997، جاء فيها:

سعدي يوسف

“إن أنت كتبت روايتك الأولى

متناسية سيرتك الأولى..

وكأن حياتك ليست بحياة

قد تكتب أوراق عن “أسرار” روايتك الأولى..

قد يذكر (س) أنك فرجينيا وولف

حسنا..

لكنك أدرى منه

ومن تلك الأوراق

أدرى بتراب روايتك الأولي”.

وذهب الناقد التونسي كارم الشريف بعيدا في تشكيكه في نسبة “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، وميله لنسبتها إلى سعدي يوسف، حين استدل بما قيل عن اعتراف سعدي وقصيدته، بتصريح لأحلام نفسها قالت فيه: “من أجمل الأشياء التي قيلت عن هذه الرواية أنه لو حذف منها الغلاف، لن تعرف إن كان كاتبها رجلا أو امرأة”. 

وكتب إعلامي آخر: “رواية (ذاكرة الجسد) التي صنعت شهرة أحلام مستغانمي هي كوكتيل من رواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر ورواية مخطوطة للكاتب الجزائري مالك حداد أما سعدي يوسف فهو الذي قام بصياغة الرواية في شكلها النهائي وبخط يده وأحلام لا تستطيع نكران ذلك، وهي لم تدفع له أجرا عن عمله لأن سعدي يوسف كان يتقاضى أجره كل ليلة على موائد زوجها جورج الراسي”..

ثمة ملاحظة أساسية جديرة بالانتباه تتمثل في أن جل هذه الكتابات النسائية الشعرية والسردية التي لاقت نجاحا مبهرا تم إسنادها لشاعر قيل إنه مجّد المرأة حتى سمي بشاعر المرأة في الحقل الإبداعي العربي، مبدع كبير يملك حجية التفوق والتميز.. فهو من نسبت له رواية “كولين خوري”، وأشعار “سعاد الصباح” ثم رواية أحلام مستغانمي قبل أن تبرز محاولة نسبتها لفحل آخر هو الشاعر العراقي سعدي يوسف، الذي أعطى الانطباع بطريقة أو بأخرى، على وجود آثار لحمضه النووي في رحم “ذاكرة جسد”، ثم عاد ليصرح لـ”الحياة اللندنية”: “الخبر غير صـحيح وهو إساءة إلى أحلام وإلي، لا يمكن أن أقوم بذلك حتى مزاحاً، ووراء الخبر “احتدامات” جزائرية – جزائرية في الوسـط الأدبي، ما حدث حقاً أننى زرت باريس وكانت تعد المخطوط للنشر فأطلعتني عليه لتعرف رأيي”.

لم لم تثر إشكالية نسبة روايات عربية ذكورية إلى نساء مثلا؟ أو احتدام الجدل حول نسبة مؤلف عربي ذكوري لمبدع آخر من نفس الجنس؟ ولماذا لم يتم التشكيك في نسب إبداعات كثيرة لنساء مبدعات متواضعات؟ لو لم تحقق هذه الإبداعات النسائية المتنازع على نسبها تلك الشهرة الكبرى وذلك الانتشار الواسع، أكانت السلطة الذكورية ستلقي بالا لها؟

الكتابات والتعبيرات الأدبية فعل والمرأة كائن منفعل

الكتابة أضحت مجالا عموميا، لكن للرجل وحده حق التفوق فيها.. هذا ما يوحي به وضع الإبداع في العالم العربي الذي يقيم علاقات اجتماعية مبنية على إخضاع المرأة واعتبارها عنصرا منفعلا، ولأن الكتابة فعل يهاجم به المبدع عذرية بياض الورقة، فهي تحتاج دوما إلى قلم كتكثيف رمزي للقضيب، والمرأة بدون قضيب، أي بدون تفوق رمزي، فلا يمكن لما تنتجه أن يزحزح الإبداع الذكوري عن عرشه الرمزي، يقول جاك دريدا: “إن سؤال الأسلوب هو دائما سؤال موضوع ثاقب، يكون أحيانا ريشة فقط، ولكنه أيضا قلم أو خنجر، بواسطته يمكن بالفعل القيام بهجوم عنيف على ما تنعته الفلسفة باسم المادة أو المأصل لكي يزرع فيها علامة أو يترك أثرا أو شكلا، ولكن في نفس الآن، من أجل إقصاء قوة مهددة وإبعادها وكبتها والاحتراس منها”.jacques Derrida:  la question du style in

اليوم نحن أمام الكومبيوتر والفأرة ولوحة المفاتيح الأنثى، هل انهار القلم الذكوري؟

لا زالت النساء تبحثن فقط عن حقهن في الوجود الرمزي، ويجدن في الخنساء الجدة الأولى  التي قيل لها: “اذهبي أنت أشعر النساء، فردت بنخوة الكبار: بل أشعر الرجال والنساء”! لم يكن التدافع النسائي بهدف إقصاء الرجل من حقل الإنتاج الرمزي، بل فقط لامتلاك أحقية المشاركة في إنتاج التعبيرات الأدبية التي تتناول قضايا إنسانية كبرى تهم الرجل والمرأة معا، في هذا السياق يجب فهم ما صرحت به يوما الشاعرة سعاد الصباح بما يشبه الانتقام من التعاليم الذكورية القاسية التي استسلمت لسلطتها حين ركنت إلى الصمت: “القصيدة أنثى وإن كتبها شاعر”، وصرخة أحلام مستغانمي التي داومت تألقها الروائي بعد أن استهدفت في محاولة سرقة مولودها البكر، كما لو أن أحلام الأنثى كانت فقط حاملا بلقيط، مع ولادته صار لزاما البحث عن الأب الطبيعي، الذكر الذي ألقى بنطفته في رحم الأنثى، حيث قالت: “فجيعتي أخلاقية وليست أدبية.. أنا أبحث عن أعداء شرفاء، عن معارك فيها نبل، عن أناس يهدوني أخطائي لا أخطاءهم، فأنا لست مسؤولة عن فشل الآخرين (…) لا أنتظر من هذه الأمة العربية أن تنصفني، الكاتب لا ينصفه إلا الموت” (من تصريح لها لوكالة فرانس بريس في 31 يونيو2000).

في المغرب شرق قائم.. نساء عانين من التشكيك

بين التحرر والهيمنة، تعتبر اللغة والمنتوج الرمزي مجالا للصراع حول من يمتلك سلطة الخطاب الذي عبره تمارس كل أشكال التشكيك والتهميش والإقصاء من حقل الإبداع بل والتدمير والقتل الرمزي لكل المبدعات اللواتي استطعن أدبيا أن يبرزن أن لهن نصيبا في صنع الحقيقة بدل الهيمنة الذكورية الساعية إلى تأبيد حقيقة التفوق الإبداعي للذكر العربي، والحق في صياغة خطاب مستقل للمبدعة العربية أو قدرتها على المشاركة في صنع تاريخها المنفصل عن السلطة الذكورية التي ترسم حقيقة الرجل لا حقيقة الإنسان بصفته المشترك بين النوعين.

في المغرب رغم سيادة النزوع الشفوي للمبدعين الذكور للدفاع عن حرية المرأة، وحقها في التأليف والتعبير عن ذاتها، فإن الحقيقة الدفينة في لاوعي العديد من المبدعين المغاربة لا تشكل استثناء عما يحدث في هذا الامتداد العربي، صحيح أن النقاش لم يكن علنا كما حدث في التجارب النسائية المعروضة آنفا، غير أن النميمات المستشرية هنا وهناك تسعى لتسييد حقيقة التفوق الذكوري، من هنا التشكيك ومحاربة النوايا التي قوبلت بها فكرة إنشاء رابطة كاتبات المغرب، تحت دعاوى أن الأدب أدب، ولا يوجد أدب نسائي وأدب رجولي!

ويمكن الالتفات إلى نماذج لها حضور وازن في الحقل الشعري والروائي، نجحت في ترسيخ أسمائها بامتداد عربي وأفق كوني، طاردتهن الألسن السرية التي تتغيى تجريدهن من القدرة على التفوق في حقل الكتابة والإبداع، وأثارت ترجمة دواوين بعض الشاعرات أو حصول رواياتهن على جوائز محترمة حساسية بعض مثقفي آخر الليل، كما لم يخف بعض حراس الحقل الإبداعي المغربي سخطهم على وجود أسماء بعض المبدعات ضمن شعراء كبار في موسوعات أو كتب عالمية، وتم إرجاع الأمر كله إلى تدخل الذكر زوجا أو صديقا.. هل هو إنكار لقدرة الأنثى على الإبداع؟ كما لو أن الكتابة التي هي أنثى مبنى تحتاج إلى قضيب في المعنى.. كأن المرأة لا يحق لها ولوج حقل الكتابة الإبداعية المحتفى بها خارج الحدود خاصة، حتى وإن لم يعد القلم الذي هو خصيصة ذكورية في رمزيتها، هو الأداة الوحيدة للكتابة، هناك حراس لقيم الذكورة، عبر زجر المرأة من الدخول إلى حقل الإبداع أو حيازة التفوق، وتحتاج المرأة المبدعة المغربية إلى مجهود خرافي لتعترف بها المؤسسة الأدبية كمبدعة.. وهناك مبدعات مغربيات عديدات، تم التشويش على ذكائهن وتفوقهن الإبداعي بإسناده إلى رجل، خاصة في حالة كاتبات أزواجهن لهم اسم وازن في الحقل الثقافي والرمزي. رغم أن الكتابة الإبداعية ذات ملمح ذاتي وأناني لا يمكن أن يتنازل عنها المرء لغيره مهما كانت منزلة هذا الغير، فإبداعاتنا مثل أطفالنا لا نعرضهم للتبني من طرف الغير، خاصة إذا كانت هذه الإبداعات من النوع الذي خلق له طريقا نحو الشهرة والتميز..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق