مجتمع

ذكريات وزير

الكمندان

د. محمد بدوي مصطفى

رغم كل الذي بلغته من نجاح وسعة في العيش، فعندما امتهنت التجارة لم تكن حياتي في المهجر بنيجيريا حياة دعة وخمول، ولكنها كانت حياة عمل وإعداد للمستقبل البعيد، وكان – دون أدنى شك – مدارها ومحور ارتكازها قلب أبي الذي لم يعرف اليأس أو الراحة قط. في مرّة من المرات بقيت في ميدوغري (نيجيريا) أكثر من ١٦ شهرا وقد بلغ رأسمالي ألف جنيه، فكثفت بيع وشراء الجلود وكنت أصدر من تلك البقعة إلى أوروبا ودول عربية وحتى الى السودان. ولم يمض وقت قصير حتى استطعت أن أربي ثروة كبيرة ربما بلغت أكثر من عشرة آلاف جنيه. اشتريت بثلاث أرباع المبلغ جلودا أخرى من تلك التي يرغبها الفرنسيون ومن ثمّ شحنتها لصديقي ليستلمها في نهاية حدود السودان الفرنسي بمدينة أدري. لكنه لم يكن متواجدا بها عندما بلغت الشحنة المدينة؛ فوصّى أحد عماله بإرسال البضاعة مع سواق شاحنة يحمل بضاعة أخرى مهربة وبدون أوراق جمارك وأعطاه مبلغ ١٥ جنيها تكلفة الترحيل. وفي الحدود استولت شرطة الجمارك على البضاعتين، بضاعتي وبضاعة السوّاق المهربة. كان رجل الجمرك يدعى الدوانيه (الجمركي بالفرنسية)، وكان عندما يقبض على بضاعة يأخذ منها حظا كبيرا جدا وفي بعض الأحيان ينفرد بنصيب الليث. كانت أدري وقتذاك تحت قبضة الاستعمار الفرنسي الذي استمسك بكل بلدان السودان الفرنسي بقبضة فولاذيّة. فبلغني خبر مصادرة بضاعتي من قبل صديق لي يسكن أبشي. وقال لي، “دعنا نذهب إلى هناك ونقابل الكمندان”، أنا أعرفه، اسمه المستر جيرو أو نقابل نائبه المستر درياش في قسم الشرطة في أبشي.” أخبرني أنهم يعقدون لجنة للفصل في هذه الأمور. وفعلا حددت مواعيد اللجنة وأتينا أنا وصديقي الأمين عبد الرحمن وأتوا بالأهالي كأعضاء في اللجنة. فرشوا لهم برشا على الأرض واقتعدوه. كانوا حفاة شبه عراة وقد غشت وجوههم الغبشة والجهل. كان منظرا مريبا حقّا: المستعمر على المكتب البهي وعلى يسراه ويمناه كراسي وأهل البلد اقتعدوا برشا قديما غشاه من أقذار الدهر ما غشاه. فقلت في نفسي: “رب أشعث أغبر!”. أحسست بالارتباك والخجل على حد سواء فهممت بالجلوس على البرش كالأهالي فسمعت فجأة المستر درياش يصيح: “لا.” فأومأ أليّ  أن أجلس على كرسي بجانبه. كان فرنسي أصيل، طويل البنية، ذو شوارب شقراء خليقة بأن ترك عليها الصقور. ابتسم إليّ ابتسامة صفراء غامضة، فجلست على قرب من صديقي الأمين على إحدى الكراسي. كنت حينها في غاية الغضب والحنق، فبادرته قائلا:

– يجب أن آخذ بضاعتي معي، لقد اشتريتها بمبلغ ضخم! والله لا يرضى الظلم يا مستر.

هزّ الأمين رأسهم موافقا على كلامي. اكتملت اللجنة بمجيئ الدوانيه. فوقف أمام الكمندان بأدب وحشمة مظهرا له التبجيل والاحترام. فبادره الكمندان سائلا في تهكم وغلظة:

– لنفرض أن قطارا أتى من باريس إلى داكار وفي الطريق وضع السائق به بضاعة مهربة وضُبطت هناك. أهل تصادر كل البضائع الموجودة في القطار أم تصادر فقط البضاعة المهربة؟

أجابه الدوانيه بنبرة سادها الاصرار والتعنت:

– تصادر كل البضائع المتواجدة في القطار دون فرز!

علقّ على إجابته بصوت شابه الغضب قائلا:

– ده كلام فاضي!

وبعد أن انفضت اللجنة شرع الكمندان بكتابة خطاب باسم اللجنة المزعومة لكي استرد بضاعتي المصادرة لأنها صحيحة ولأن أوراقها الجمركية كانت جلها مكتملة فضلا عن أنها رسمية مئة المئة. خرجنا أنا وصديقي الأمين أدراجنا وقد كان رجلا حكيما وصديقا حميما. أومأ إليّ هامسا:

– دعنا نذهب للدوانيه! احفظ هذا الخطاب معك. سوف أطلب من الكمندان أن يكتب لنا خطابا آخرا لأن الدوانيه المسؤول بمدينة أدري لا يحفل بخطاب اللجنة هنا في أبشي. فذهب إليه وقال له:

– يا مستر أنت الآن على وشك انهاء خدمتك وصرت قاب قوسين أو أدنى من الرجوع إلى فرنسا ولم تمس أحدا بأذى طيلة فترة عملك هنا فلا تأذي هذا الرجل لأن أوراقه صحيحة فأكتب له من فضلك جواب للفرنساوي في أدري لكي يعطيه جلوده.

رضي الخواجة وكتب خطابا يقضي بتسليم الجلود.

قبل أن أستودع صديقي الأمين – بعد خروجه من مكتب الكمندان وبعد استلام الخطاب الآخر -، أومأ إليّ ناصحا:

– أمسك هذا الخطاب وسلِّمه إياهم هناك في أدري فإن قبلوا أن يعطوك جلودك فاحمد الله على نعمته وإن لم يفعلوا فعلى الله السلامة. على كلّ أعطى الأمين الجواب الآخر لزميل سوداني كان معنا ساعتئذ وقال له:

– إن لم يعطوا بدوي الجلود فاظهر لهم الجواب الآخر.

فسافرنا إلى أدري وفي قلبي عبء عظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق