آراء

غوايات

عالم الاستعارات

عماد البليك

الاكتشاف الحقيقي للحياة كأنما يكمن وراء فكّ عالم الاستعارات التي تشكل فحوى الوجود الإنساني وعلاقته مع العالم؛ تلك الأسرار وذاك الغيب الذي يتم تناقله عبر الأجيال، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يلبس صورة جديدة.

من يقرأ كتاب “الطبقات” لمحمد ولد ضيف الله الذي يعالج تصورات الحياة والناس من طبقة الأولياء والصالحين وعلماء الدين في الزمن السناري ما بعد 1505م سوف يجد أن هناك صورًا عديدة لعالم سحري وغريب، يلقي بظلاله إلى اليوم، تكاد مشهديته تضاهي ما صاغه الروائي الكولومبي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز في رائعته “مائة عام من العزلة”.

في مقابلة تلفزيونية بعد وفاة ماركيز تتكلم الروائية التشيلية إيزابيل الليندي عن أن تلك الرواية هي حقيقة العالم الذي عرفته في أمريكا اللاتينية، بمعنى ليس من جديد أو ما هو خارج التصور، إنه العالم كما يمكن أن يراه أي إنسان يعيش هناك، ومن ناحية ثانية فإن هذه الصور هي عالمية نجدها في أي مكان من العالم تقريبا، حيث يتداخل الحلم مع الواقع بالأسطورة والميتافيزيقيا وسحر الحياة عموما.

منذ قديم الزمان فقد عمل الأغريق على اختراع الآلهة وبنوا تصورات واستعارات محددة لحياتهم ما تزال تشد الانتباه إلى اليوم، وفي ثقافتنا السودانية فإن عوالم ولد ضيف الله لن تكون بعيدة عن كونها تلك الأساطير السودانية التي يمكن أن نعالجها اليوم من موضع الإعجاب والقراءة والتأمل والتفكيك، بعيدًا عن جدوى التصديق بها قبولًا أو رفضًا كارهًا، كما سيكون متجذرًا لدى البعض إلى اللحظة الراهنة. هذا يعني إن فهم طبائع الإنسان والشعوب والحضارات البشرية عموما، ينطلق من فهم الأساطير والميثولوجيات، والاقتراب من تلك الاستعارات التي تتميز بها كل حضارة أو بنية ثقافية معينة، كما يمكن أن يتجلى ذلك مثلًا في سياق قبيلة معينة تعيش في منطقة نائية من العالم، يكون لها عالمها الخاص وتصورها للوجود وكيمياء الحياة وما قبلها أو بعدها.

إن عالم الاستعارات لا يتوقف على المشهد البراني للعالم من خلال دراسة الواقع المعاش أو الشكلي إنما يبتعد لأكثر من ذلك إلى الأحلام والتصورات الذهنية، التي يمكن أن تشغل الناس كأمنيات وأحلام وتصورات بواقع أفضل، بحيث تعطي في خلاصاتها رغبات وأشواق الناس في العيش والبحث عن حياة تسمو على المجرب والعادي والمعاد.

فعلى سبيل المثال فإن فكرة إحياء الموتى أو الطيران أو استدعاء الأشياء ليكون لها أن تسمع للبشر فتتحرك وتستجيب، أو التجاوب الذي يحدث بين عناصر الكون الجامدة والحية وتفاعلها معًا، كل ذلك يقود إلى مجموعة من الأفكار التي طالما اشتغل عليها المخيال البشري، عبر القرون، فهي ليست مختصة بشعب معين أو قومية أو دين محدد، فإذا كان المسيح يحيي الموت فإن “حسن ود حسونة” يفعل ذلك في بلاد السودان.

نحتاج اليوم إلى دراسات غير تقليدية للواقع والتاريخ والمجتمع لفهم هذه المجازات والاستعارات بهدف بناء عالم جديد يتطلع إلى المستقبل كما فعل الأوروبيون في عصور تنويرهم وهم يأخذون من الآلهة اليونايين قوة باتجاه تجسير الأزمنة والحضور إلى اللحظة وتقوية الصلة بكل مركبات الكون بلا حدود أو انقطاع.

بالتالي فإن ما يراه البعض مجرد “خزعبلات” أو أمور جوفاء، هو في صميم معرفة حديثة، لإعادة اكتشاف الإنسان، بفكّ تلك الاستعارات المغلقة لبيئة معينة، التي في الوقت نفسه لها الانفتاح على المحيط والمشترك الكوني، كما أن الحياة ليست بهذا الوضوح المفترض، في الوقت التي هي أسهل من كل التعقيد الذي يبسطها لتصبح بلا معنى.

سيكون رد الاعتبار للاستعارات ليس إعادة بناء لعالم سحري وغامض وغريب، لن يكون حاضرًا اليوم، بقدر ما هي رغبة في تحرير الذات من الأثقال القديمة والاتجاه إلى تصور لعالم جديد إيجابي ومختلف لأجل ما هو أفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق