سياسة

لبنان وترمب وكسر توازنات المنطقة

علي شندب

لم يتوقع أحد أن يكون “الاحتفال المدني” بعيد الاستقلال الذي نظمته “17 تشرين” العام الماضي بمشاركة نقابات الأطباء والمعلمين والعمال والطلاب وغالبية الشرائح والقطاعات المهنية والأفواج المدنية المختلفة، آخر احتفال غير افتراضي بعيد الاستقلال، خصوصا وأن الاحتفال الرسمي الذي أقامته يومها منظومة المال والسلطة والسلاح، كان باهتا معزولا ومنعزلا أقله عن احتضان اللبنانيين الذين كانت أفئدتهم وأيديهم تصفق لفوج “الهيلا هيلا هو” وهو يخترق ساحة الشهداء في وسط بيروت.

فقد كان لافتا ومعبرا للغاية إعلان الرئيس ميشال عون الغاء كل مراسم الاحتفالات بعيد الاستقلال لهذا العام. وقد بدا تفشّي كورونا خشبة الخلاص التي علّق عليها الحكم ذريعة الغاء الاحتفالات، التي لم تشمل كلمة الرئيس عون المتلفزة للبنانيين، والتي تبدّى فيها ومن خلالها استفحال اليأس وتمكنه من الرئيس القوي أولا.

فعدا عن الأزمة الاقتصادية والمالية العميقة المهدّدة للأمن الاجتماعي المهدّد بدوره للسلم الأهلي في لبنان، فقد شكّل انسحاب شركة التدقيق المالي “ألفاريز ومارسيل” من مهمتها الجنائية لعدم تزويدها بالمعلومات والوثائق المطلوبة في مصرف لبنان، ضربا إضافية لمصداقية مفقودة أصلا في كامل المنظومة، ونعيا جوهريا للمبادرة الفرنسية المرتكزة على الإصلاحات المالية وأيضا لحكومة سعد الحريري المنتظرة وفق المعايير الماكرونية.

ورغم أن فرار شركة التدقيق الجنائي وجه رسالة سلبية جدا لصندوق النقد الدولي وللمجتمع الدولي، فإن فرار سجناء نظارة قصر عدل بعبدا وجه بدوره رسالة سلبية قاسية تدحض مزاعم وزير الداخلية المشدّدة حول “الأمن الممسوك”، ما فوّت على ميشال عون في إطلالته الأخيرة، مصارحة اللبنانيين بالقول “نحن في جهنم”، بدل تذكيرهم بمواقفه السابقة في مكافحة الفساد، وتأكيده السير في معركة التدقيق الجنائي الى النهاية.

“نحن في جهنم” لميشال عون، ليست مقتبسة من رواية “الفرار الى جهنم” لصاحبها الراحل معمر القذافي. فالفرق كبير بين من يقود الناس الى جهنم، وبين من يهرب من الناس الى جهنم التي فرّ اليها القذافي بقوله “أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة.. وما أقصى البشر عندما يطغون جماعيا”.

إنها جهنم التي أجّج سعيرها إنفجار مرفأ بيروت من قبل منظومة الأمونيوم، والتي ضاعف أوارها الانهيار الإقتصادي والمالي، ونزوع منظومة المال والسلطة والسلاح لمزيد من المحاصصة في جمهورية الأشلاء اللبنانية.

بدون أدنى شك، فإن المناخات المحلية والاقليمية والدولية المخيمة على لبنان، متشابهة حد التطابق مع تلك المناخات التي شكّلت مقدمات طرد رئيس الحكومة العسكرية من قصر بعبدا. إنّها المناخات التي تشي أن عقوبات قانون ماغنيتسكي العالمي على وزير الاتصالات ووزير الطاقة ووزير الخارجية السابق ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل تتشابه حد التطابق مع مفاعيل 13 تشرين 1990.

وصحيح أن عقوبات ماغنيتسكي بحسب السفيرة الاميركية دوروثي شيا تستهدف شخص باسيل وليس التيار القوي، ولا تمنع فرض عقوبات أخرى عليه وفق قانون آخر. لكن جبران باسيل لم يسلم أن تداعيات ومفاعيل عقوبات ماغنيتسكي السياسية عليه، تمنعه من تسمية الوزراء المسيحيين، وهذا ما يسهم في تعقيد الإفراج عن تشكيلة الحكومة العتيدة، التي لم يعد تشكيلها شأنا داخليا بين الأحزاب والتيارات اللبنانية المتنفذة، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام أصلا. كما ولم تكن كما هي اليوم أيضا، فقد بات تشكيل الحكومة اللبنانية شأنا اقليميا ودوليا بامتياز.

فلإيران بعد سوريا، كلمتها وتدخلها الفاصل في الواقع اللبناني، بدليل رضوخ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وتسليمه بشيعية وزارة المال، بل وتسمية الثنائي الشيعي لوزرائهم في الحكومة، انه الرضوخ الذي تمترس خلفه جبران باسيل من خلال إشهاره سيف التعطيل عبر تمسكه بما يسميه وحدة المعايير.

ثم إن لباريس كلمتها ايضا من خلال معايير المبادرة الفرنسية الخاصة بحكومة المهمة التي يقال أنها اقترحت بعض أسماء الوزراء وخصوصا لوزرات المال والطاقة والاتصالات والاشغال وأيضا في حاكمية مصرف لبنان. لكن المبادرة الماكرونية لفظت كل أنفاسها في لبنان عبر “حفلة الخيانة الجماعية” التي تعرضت لها بحسب ماكرون، ولم تجد من يحفظ لها ماء وجهها في لبنان، وحفظها الاتحاد الاوروبي بعدما يمّم ماكرون وجهه شطره، واعتبرها مبادرة اوروبية ستسند مهمة متابعتها لموفد من الاتحاد الاوروبي.

لكن المعايير ما فوق العليا هي لواشنطن التي نصّت بلسان وزير خارجيتها مايك بومبييو على “الابتعاد عن حزب الله في تشكيل الحكومة”، تحت طائلة حجب ومنع المساعدات الدولية بالحد الأدنى. “وبالابتعاد عن لبنان، كما فعلت دول الخليج” الذي لا نعرف أين ينتهي كما هدّدت السفيرة الاميركية دوروثي شيا بالحد الأقصى. فالمعادلة الأميركية باختصار شديد كالتالي: “إمّا الابتعاد عن حزب الله، وإمّا ابتعاد واشنطن عن لبنان”. إنه الابتعاد الذي إذا ما حصل، سيصنّف لبنان وبسرعة دراماتيكية أين منها سرعة كورونا المتفشي في البلاد، دولة مارقة، راعية للفساد وحاضنة للإرهاب.

ألم يقل وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز في عهد رونالد ريغان عام 1985 “لبنان طاعون ينبغي الحجر عليه”، إنها المقولة الشهيرة التي برّرت خروج الولايات المتحدة من لبنان بعد نشوء توازن سياسي وعسكري جديد برعاية مباشرة من سوريا. فهل سيدفع التوازن العسكري السياسي إياه (لكن برعاية إيرانية هذه المرة) واشنطن للابتعاد مجددا عن لبنان؟

بدون شك، يقف خلف التعقيدات المتحكمة بالواقع السياسي والاقتصادي والمالي اللبناني، نسق توازنات القوة المختلة لمصلحة إيران وذراعها حزب الله. وهو النسق الذي عمل طوال سنوات مضت على قضم وإخضاع مواقع السلطة التشريعية والتنفيذية في هياكل الدولة اللبنانية حتى ابتلعها بالكامل، وتغوّل حزب الله فيها وعليها مستبدلا المقولة الببغائية التي يرددها بعض بقايا 14 اذار “حزب الله دويلة داخل الدولة”، بمعادلة جديدة فحواها “الدولة ضمن الدويلة” بشهادة قطاعات حزب الله الموازية للدولة والتي أنشأها اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وتربويا وماليا وكهربائيا وهاتفيا وانترناتيا فضلا عن أجهزته الامنية والعسكرية التي مكنته أن يكون حيث يجب أن يكون.

ممّا تقدم يتضح أنه وبدون تغيير وكسر توازنات القوة الحاكمة والمسيطرة على لبنان، من الصعوبة بمكان تشكيل حكومة وفق المعايير الماكرونية من جهة، والشروط والعقوبات الاميركية التي كثرت التسريبات القائلة بأن سعد الحريري سيكون وبعض فريقه هدفا لهذه العقوبات في حال تضمنت تشكيلته الحكومية أيّا من المقربين من حزب الله. ما هو ممكن فقط بعض الماكياج الشكلي لحكومة حسان دياب المستقيلة لصاحبها حزب الله.

انها اللحظة الملتهبة المرتكزة على لحظة انتقالية كاشفة لاسم ساكن البيت الأبيض الجديد. فدونالد ترمب غير المعترف بفوز منافسه جون بايدن، يبدو أن لديه حساب لا يريد لغيره أن يصفيه مع ايران وأذرعتها وخاصة حزب الله.

وتزامنا مع ما قيل عن إنسحاب للقوات الاميركية من الشرق الاوسط، فوجئت المنطقة بحشد غير مسبوق منذ غزو العراق عام 2003 للأساطيل الأميركية، وخصوصا قاذفات بي 52 العملاقة التي جعلت الانسحاب المذكور أشبه بإعادة انتشار.

وتزامنا ايضا مع قصف طيران غامض يرجح أنه اسرائيلي لمواقع ميليشيات الحشد الشعبي التابع لايران في منطقة البوكمال، وسبقه قصف اسرائيلي صريح لمواقع سورية ايرانية بمحاذاة الجولان وريف دمشق الغربي، مؤشرات كلها تقول أن بركان المنطقة سينفجر. فيما بعض المؤشرات والقراءات تركز أن ضرب حزب الله في لبنان بهدف تفكيكه والقضاء عليه سيكون فوّهة البركان، وعبره سيتم كسر توازن القوة في كامل المنطقة، وهي المؤشرات الحربية التي توقعها حسن نصرالله مؤخرا وأعلن جاهزية حزبه ومحور الممانعة لمواجهتها.

وفي ظل الكلام عن الحرب ومآلاتها، كيف السبيل لانقاذ لبنان، وما هي الخطوة التاريخية الجريئة التي طلب راعي أبرشية بيروت للروم الارثوذوكس المطران الياس عودة من الرئيس ميشال عون القيام بها؟

بالعودة الى مناخات إبعاد الجنرال ميشال عون عن قصر بعبدا في 13 تشرين 1990 وعقوبات ماغنيتسكي على جبران باسيل المشابهة لتلك المناخات، وبالنظر الى العقد المستعصية في الواقع اللبناني المأزوم، فإن ما أقدم عليه العماد عون من تسليم دفة القيادة قسرا للعماد آميل لحود، يمكن أن يفعله الرئيس عون طوعا من خلال مبادرته الى الاستقالة وتسليمه مقاليد السلطة الى المجلس العسكري برئاسة قائد الجيش جوزاف عون لفترة انتقالية تمهّد لاعادة انتاج هياكل السلطة المختلفة، وتخرج البلد من المختنقات والمخاطر المحدقة به، سيما وأن الجيش لم يزل يحظى بثقة لبنانية وخارجية واسعة تخوله تحمل المسؤولية التاريخية في استنقاذ ما تبقى من لبنان أثناء مفاوضات الترسيم وبعدها.

لكن، أن تكون الفكرة إنقاذية وتاريخية شيء، وأن يقدم عليها ميشال عون شيء آخر، سيما وأنه لم يزل يقسم في المحافظة على الدستور (قبل تضمنه المثالثة) حتى آخر ولايته التي يرجح أن تسبقها آخرة لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق