ثقافة وفن

أسئلة من بريد القراء إلى الكاتب فراس حج محمد … لماذا لم تكن شاعر مقاومة؟

منذ أن وعيت على الشعر وأنا أحسه مختلفا عن بقية الكلام، في المدرسة، في الصفوف الابتدائية كنت شغوفا بالشعر اللذيذ ذي الإيقاع الجميل، كنت أشعر بالإيقاع يستدرجني إلى النص وإن لم أكن أفهم المعنى تماماً. نشأت أحب الشعر وأتأمله تأملا طفوليا، أخذت أقارن بينه وبين المقطوعات النثرية في الكتب، أقول لنفسي دائما أن هناك اختلافاً. لِمَ هذا الاختلاف؟ وكيف يحدث؟ أقارن بين تلك النصوص، أشعر بالملل من الفقرات النثرية وأستمتع بالشعر وأبياته.

انتبهت أيضا في سن مبكرة إلى الفرق بين الشعر والقرآن الكريم، إلا أنني لم أكن أجد فرقا كبيرا بين الشعر والقرآن؛ ثمة موسيقى واضحة في القرآن عندما كنت أسمعه مرتلا من المقرئين مصطفى إسماعيل وعلي جابر وعبد الباسط. كان يشدني القرآن جدا، وإن لم أكن أفهم المعنى في ذلك الوقت. ويلفت انتباهي أيضا تلك الترانيم الكنسية التي كنت أصادفها أحيانا على التلفاز أو في الإذاعة.

كأنني نشأت أحب ذلك الغموض في الشعر وفي القرآن الكريم، لا بد من أن يكون هناك مساحة غامضة نوعا ما لتظل أسيرا دون أن تدري إلى النص الشعري وآيات القرآن الكريم والترانيم الدينية. لم أكن أستطيع أن أفهم قول القرآن «كأنها رؤوس الشياطين» أو «تأزهم أزا» وكثيرا ما كنت أتخيل قوله تعالى: «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه» و»لنسفعن بالناصية»، وغيرها الكثير. مشاهد ذهنية كانت تربك عقلي كثيرا، وعلى الرغم من ذلك كنت أحبها وما زلت أحب سماعها.

وعندما كبرت وصارت قراءاتي منوعة شغفت بعوالم الجن والأساطير والسحر والعالم الآخر وعذاب القبر والمغيبات والقصص المدهشة عن الجنة والنار والحوريات وملائكة العذاب، ولم يستهوني بعد أن أصبحت دراسا للأدب العربي الشعر السياسي أو شعر الهجاء أو الشعر الواضح المباشر. لم أكن أشعر أنه شعر كذاك الشعر الغامض المحبب الذي يسكن ذاكرة طفولتي البعيدة.

قرأت شعر المقاومة دون أن أتأثر به، فأغلبه واضح ومباشر، درسته لأنه مقرر في الجامعة، ولأنني تابعت دراسة الماجستير ببحث ظاهرة السخرية في الشعر المقاوم. إلى الآن لا تحتفظ ذاكرتي بأبيات شعر مقاومة إلا أقل القليل.

ثمة أحداث حدثت معي عندما أخذت في الكتابة، فأول قصيدة كتبتها وتم إشاعتها بين الأصدقاء والزملاء في الجامعة وأهل قريتي كانت قصيدة في شاب استشهد في عملية تفجير، كان صديقي وكنت وإياه على مقاعد الدراسة منذ الصف الأول، استشهاده جعلني أكتب قصيدة فيه، لم أعد أذكر منها شيئا الآن، مع أنها محفوظة بين أوراقي الخاصة، وعندما أفرج عن جثته رحمه الله بعد سنوات كتبت قصيدة أخرى.

تتالت بعد ذلك قصائد شعر المقاومة- إن صحت التسمية- فيما كتبته من قصائد، فكتبت راثيا الشهيد خليل الوزير، والشهيد أحمد ياسين والشهيد يحيى عياش والشهيد عبد العزيز الرنتيسي. الآن أجد نفسي أنني كتبت مراثي كثيرة في الشهداء، فكتبت عن دانية ورائد وعن محمد الدرة وعن فتحي الشقاقي. كما كتبت عن القدس كثيرا من القصائد، وكتبت في أحداث العراق وفي الثورات العربية وفي سوريا وقافلة الحرية وشهدائها التسعة، وكتبت شعرا دينيا سياسيا وتكاثرت لدي القصائد حتى شكلت ديوانا كاملا أطلقت عليه «في أعالي المعركة»، عدا أنني كتبت ديوانا كاملا في حرب غزة وأسميته «مزاج غزة العاصف»، وكتبت أشعارا سياسية ضد الفساد في فلسطين، وفي حادثة الصحفي العراقي منتظر الزيدي وفي مقتل ابن لادن، وفي ظاهرة ترامب العقيمة، ووثقت تجربتي الشعرية السياسية الحزبية بمجموعة من القصائد لم ينشر منها إلا القليل. لكنني لم أُعْرف أنني شاعر سياسي أو شاعر مقاومة. أشعر أحيانا أن بعض تلك الأبيات كانت نظماً لا شعر فيها كما يجب أن يكون الشعر.

على الأغلب أنني وقعت في تلك القصائد في فخ المباشرة، وخالفت مبدأ الغموض الذي شكل ذائقتي الشعرية وإحساسي بجمال الشعر منذ الطفولة. ولذا فما زلت مقتنعا بعد كل ما اقترفته من شعر سياسي مباشر أن الشعر لا يعيش إلا في الغموض المحبب المتحرش بالمخيلة أما أن يكون واضحا كسطور المقالة العلمية أو الاجتماعية، فلا يعدو أن يكون نظما خاويا من حرارة الشعر وروحه.

لا يستطيع الشاعر المقاوم أن يكون مراوغا وغامضا، لا بد من أن يكون واضحا ليفهمه الناس بسرعة، هنا يقع المحظور الشعري بالنسبة لي، كيف ستكون غامضا في قضية سياسية وبطولية. الأمر لا يستقيم إلا أن تضحي بواحد من أمرين؛ إما أن تضحي بالشعر وغموضه وإما أن تضحي بالجماهير، ولا يستطيع الشاعر المقاوم أن يقف في المنتصف، فهذه المنطقة البينية تكاد تكون ضيقة جدا إن لم تكن معدومة ولا تتسع إلا للقليل القليل من التعبير وأساليبه، وهنا يقع الشعر في ضيق هو يأباه ويحاربه ولا يرضاه لنفسه.

أعتقد أنني لم أُصنع لأصبح شاعرا سياسياً أو شاعر مقاومة، فقد ولدت كاتبا وشاعرا والمقاومة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتم تصفية القادة العظام والقضية الفلسطينية برمتها التي انتهت عمليا بعد مؤتمر مدريد للسلام عام (1991)، وتم تكفينها نهائيا بعد اتفاق أوسلو عام (1993)، فلسنا بحاجة لشعر المقاومة لأن المقاومة لا أهل لها ولا شعراء ولا قراء، فأنا كاتب من جملة كتاب وشعراء لم يعيشوا تلك المرحلة الزاهية، وعليه لا أستطيع، كما غيري من أبناء هذا الجيل أن نكون شعراء مقاومة، جيل عاش القهر السياسي والتضييق في الأرزاق، وترعرع في الفساد الإداري، والمحسوبيات، فعلا شأن التافهين، وتم محاصرة كل من يقول لا للمسؤول، ولم يبقَ من فلسطين شيئاً، وقد غطاها «النظام السلطوي» بكل المساوئ في السياسة والإدارة والحياة العامة.

على العموم شكل شعر المقاومة ظاهرة شعرية وكتابية انتهت من العالم أو كادت، ليس فقط من فلسطين وحدها، ولم تعد سوى تراث محنّط في بطون الكتب والصحف والمجلات التي كانت تحضنه وتهلل له، وحتى الدارسون لم يعودوا إلى بحث هذه الظاهرة الميتة، ثمة ظواهر أدبية حديثة ولدت في أدب الجيل الجديد، لا مناص من أن يهتم بها الدرس النقدي، ويتوجه إليها بالبحث والتقصي والدراسة.

—–

تقرير: فراس حج محمد| فلسطين

 عقد التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين ندوة عبر تطبيق زوم، خصصها لمناقشة أدب الأسرى الفلسطينيين ودوره في التعريف بقضايا الأسرى ومعاناتهم، وذلك يوم الجمعة الموافق: 11/2/2022. وشارك فيها وحضرها نخبة من المثقفين والمهتمين من فلسطين والوطن العربي والدول الأوروبية. وقد تولى إدارتها الشاعر والكاتب د. سليم نزال المقيم في السويد  متحدثا عن أدب الأسرى، متمنيًا الحريّة القريبة للأسرى جميعاً. ثم تحدث رئيس التحالف د. خالد حمد بكلمة ترحيبيّة وتعريفيّة عن التحالف ونشاطاته.

بدأت الندوة أعمالها بقراءة رسالة الأسير أحمد عارضة، صاحب ديوان «أنانهم» الصادر في عام 2021، والمحكوم بالسجن مدى الحياة ويقبع في معتقل ريمون الصحراوي. وجاءت رسالته تحت عنوان «أنا أكتب إذًا أنا حرّ»، وألقتها نيابة عنه الأكاديمية والتربوية عزّة عز الدين. وأشار العارضة إلى أن الكتابة في السجن «تغدو فعلًا ثوريًا، لاسيما مع اعتبار ذلك محاربةً واعية لمرامي التجهيل والتفريغ الممنهجة المتّبعة من قبل أدوات منظومة السيطرة الاستعمارية التي لا تفتأ تطارد الأفكار والأقلام والكتب والرواية والتاريخ والذاكرة».

ومن قطاع غزة تحدث السيد خليل الحلبي والد الأسير محمد الحلبي، وتناول معاناة ابنه، والمحاكمة التي يمر بها، فالحلبي صاحب أطول محكمة في التاريخ (168 جلسة حتى اليوم) موجّهًا نداءً للمجتمع الدولي لوضع حد لهذه المعاناة.

أما وزير الأسرى السابق ورئيس المكتبة الوطنية الفلسطينيّة الأستاذ عيسى قراقع فتحدث (من مدينة رام الله) عن تنوع كتابات الأسرى التي كان منها الرواية والشعر والخواطر والقصص القصيرة والحكايات والمذكّرات والسرديات والمسرحيات والأبحاث والدراسات الأكاديميّة، مضيفا أننا «نشهد في الآونة الأخيرة ثورة ثقافيّة حقيقيّة فيما يخص أدب الأسرى».

ومن المشاركات العربية كانت مداخلة الروائية والشاعرة المغربيّة أمينة الجباري، وتحدّثت بدورها عن تضامنها مع فلسطين وقضيّتها وأسراها، فقد صدر لها ديوانان، هما: «فلسطين تستحق الحياة» و»عائدون»، وقرأت بعض القصائد من هذين الديوانين.

 تلاها من الأردن عضو رابطة الكتّاب الأردنيين الروائي عبد السلام صالح، وتحدّث عن أدب السجون وموضوعاته المتنوّعة وقيمته الأدبيّة، معرّفاً بمبادرة «أسرى يكتبون» التي تعقد كلّ أسبوعين، لتناقش عملا أدبيا من أعمال الأسرى الكتاب، ويدير الندوة في كل مرة أحد الكتاب الأردنيين، ويشارك فيها نقّاد من الوطن العربي بقراءات نقدية حول ذلك العمل، وبمشاركة الأسير بكلمة يلقيها نيابة عنه أحد أفراد العائلة، ويتبع الندوة تقرير صحفي يوزع على المواقع والصحف المحلية والعربية والعالمية. منوّها أن المبادرة تحققت بفضل جهود من التعاون المشترك بين المحامي الحيفاوي حسن عبادي ورابطة الكتاب الأردنيين. وقد ناقشت حتى تاريخ انعقاد هذه الندوة عشرين عملا أدبيا متنوعا.

ومن نابلس تحدثت الدكتورة لينا الشخشير، رئيسة منتدى المنارة للثقافة والإبداع، عن الأبعاد الإنسانية والفكرية والنضالية في أدب الأسرى، وتطرقت إلى جهود منتدى المنارة في التعريف بأدب الأسرى وتكريم الكتاب الأسرى ضمن نشاطاته المتعددة التي عقدها العام الماضي (2021)، وتطرّقت للمسابقة الرمضانية حول أدب السجون، وتناولت كل يوم إصداراً لأسير ممن يقبعون في سجون الاحتلال، ومحكوم عليهم بأحكام عالية، تراوحت بين عدة مؤبدات إلى خمسة عشر عاماً حيث كان هذا الحكم أقل هذه الأحكام.

ومن حيفا تحدث المحامي الحيفاوي حسن عبادي عن تجربته مع أدب الأسرى، وزيارته للأسرى الكتاب، وتأسيسه لعدة مبادرات للتعريف بأدب الأسرى، ومما جاء في مداخلته: «تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ من عتمة الزنازين يرسم الوطن قوس قزح»، وتناول كذلك في الحديث الصعوبات التي تواجه الأسير الكاتب، وإخراج المخطوطة من السجن، ورحلتها حتى ترى النور كتابا مطبوعاً.

وفي نهاية الندوة فُتح المجال لمداخلات الحضور، فكان هناك مداخلات قصيرة لكل من: هاني مصبّح، ويوسف الطويل، وعماد محاسنة، وحسام الدلقي، وصالح شعبان، وسميرة حاجي، ود. علي هدروس، وجميل قاسم، وعصام فرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق