سياسة

بيل جيتس … أسطورة حقيقية

الفصل الأول من الكتاب (4)

عماد البليك

التجارب الأولى

بالعودة إلى الوراء في الزمن سنجد أن جيتس استمر في عمل البرمجيات بعد تجاربه في كتابة البرامج، وكانت البداية مع صديقه بول ألن حيث أسسا سويا وهما طالبان بالمرحلة الثانوية شركة تعمل في البرمجيات باسم “تراف أوف داتا”، وكانت تبيع نظام حاسوب دفتري صغير يحوي برنامجا مبسطا قاما بتصميمه معا، يتاح من خلاله الاطلاع على بيانات سير المرور بالولايات الأمريكية.

بالطبع، كانت هذه المبادرة المبكرة بمثابة التفكير الأولي لجيتس مع صديقه، في إمكانية تحويل الأفكار النظرية إلى خدمات مفيدة لعامة الناس، وأيضا مصدرا للربح، ويؤمن جيتس بأن أي مشروع أو عمل إذا لم يقم على خدمة الناس في المقام الأول لن يكون بإمكانه النجاح وأن يدر عائدا ماليا ويكون بالتالي مربحا لصاحبه بطريقة مرضية.

ورغم أن تجربة “تراف أوف داتا” كانت في سن مبكرة نسبيا، ولم تحقق نجاحا بمستوى يذكر، إلا انها كانت بمثابة الحافز الأول الذي دفع جيتس مع صديقه للاستمرار في تأسيس الشركات مستقبلا، إلى أن ولدت فكرة ميكروسوفت العبقرية. فما استفاداه من خلال التجربة الأولى أنها حققت لهما ربحا ماليا معقولا وخبرة مفيدة، رغم أنها لم تجن نجاحا كبيرا على مستوى الانتشار والشهرة.

بالوصول إلى العام 1969 سنجد أن جيتس مع صديقه بول ألن أعادا الكرة مرة أخرى بتأسيس شركة جديدة باسم “مجموعة مبرمجي ليك سايد للحاسوب”، في إشارة إلى عدم الاستسلام من قبلهما والرغبة في الوصول إلى الهدف، وهو شأن الذي يؤمن بهدفه وغايته في الحياة من خلال الحلم الذي يكون قد صاغه، ولا ييأس أبدا إذا ما فشل مرة أو مرتين أو أكثر، فهو من يتعلم من تجربة الفشل ويحولها إلى داعم إليه بدلا من أن تصبح خصما من رصيد أحلامه.

وكانت تلك التجربة الثانية هي بداية التحول الحقيقي في حياة الصديقين الطالبين، وعبرها تعرفا بجدية أكبر على الكثير من الأمور التي فتحت أمامها أفق المستقبل بشكل أفضل. ولولا تجربتهما الأولى لما كانت التجربة الثانية قد أفادتهما ونجحت بشكل أعمق، فقد استفادا من عثرات البدايات.

حاسوب “ليك سايد”

“ليك سايد” الذي كان اسم الشركة، هو بالطبع اسم المدرسة الإعدادية التي درس بها جيتس والتي تفتح فيها على عالم الرياضيات والمنطق والحاسوب، وقد اختار جيتس وألن اسم مدرستهما لإطلاقه على الشركة كنوع من الاحتفاء بالمدرسة التي كانت قد رسمت لهما علاقة “رسمية” مع الحواسيب. ففي إطار عالم الحاسوب الذي كان لا يزال بدائيا، كانت المدرسة قد قامت بشراء جهاز حاسوب إليها سنة 1968، أثناء دراسة جيتس وألن بها. 

هذا الجهاز ساعد على شغل فراغ عدد من التلاميذ لاسيما أنه كان مغريا، رغم أنه بحجم كبير يثير سخرية تلاميذ لا يرضون بالأشياء في العالم على ما هي عليه، والمعنى تلاميذ مثل: جيتس وصديقه بول ألن، أما الشخص الثالث فهو صديقهما كانت ايفانس.

ويرى عدد ممن كتبوا سيرة جيتس أن ذلك الجهاز الذي جاء وجيتس في سن الثالثة عشرة، كان أحد الأسباب الرئيسية التي غيرت مجرى حياته في هذه السن المبكرة، بإضافته إلى العوامل التي سبق مناقشتها مثل عقلية جيتس المفارقة للمألوف واهتمامه وحبه للعلوم النظرية والرياضيات والمنطق بشكل خاص.

وقد شكّل جيتس وبول ألن منذ تلك الفترة رابطة قوية في بناء همومها المستقبلية، وكانا يقضيان وقتا طويلا من اليوم في الجلوس إلى الحاسوب الذي اشترته المدرسة، وفي هذه الجلسات وهما يعملان على الجهاز كانا قد بدآ توثيق علاقة سترسم درب المستقبل بشأن التعاون فيما بينهما، لكن الأهم من ذلك أن جيتس مع صديقه الذي يكبره بسنتين، كانا قد أسسا في تلك الفترة لحوار سيصوغ تفكيرهما بشكل جذري، ويحكم مستقبل ثورة الحواسيب بشكل عام.

كان جيتس وألن وايفانس، يجلسون ثلاثتهم مسمرين لساعات طويلة أمام حاسوب مدرسة “ليك سايد”، لدرجة القول بأنهم باتوا يفهمون في الحاسوب أكثر من أساتذتهم في المدرسة، وهو الأمر الذي سبب لهم مشكلات عدة، فالثلاثي كانوا في كثير من الأحيان يهملون دروسهم متفرغين لهذه الآلة العجيبة والتي لا تتاح لأي فرد باعتبار أن ثمنها مكلف، كما أنها كبيرة الحجم.

تفيد هذه التجارب الأولى لجيتس من تجربة العمل الجماعي ابتداء من المدرسة إلى تجربة محاولة تأسيس أول شركة، فالتجربة الثانية، أن خميرة تطور عقل جيتس كانت تشتغل في تلك السنوات بدرجة عجيبة وهو الأمر الذي سيبدو جليا في المستقبل، ساعة يكون كل شيء قد تشكل بالقدر الكافي.

وبتأمل علاقة جيتس مع صديقه ألن سنجد أن الرابط الأساسي في تلك العلاقة كان قد تمثل في رغبة الاكتشاف والمعرفة، وما دام هذا الرابط متوفرا وعلى الدوام فسوف يمضي الصديقان في دفع صداقتهما إلى أن يحققا حلما مشتركا في مقتبل حياتهما.

وتفيدنا هذه الجزئية الأخيرة بخصوص فن العلاقات أن الإنسان الناجح، أو الذي يرغب في النجاح، يجب أن يهتم جدا بالعلاقات التي يؤسسها مع الآخرين وأن تكون هذه العلاقات بما يخدم فكره ومشروعه في الحياة، وليست مجرد مضيعة للوقت وتمضية الفراغ كما يحدث في مجتمعاتنا حيث أن كثير من علاقات الناس تترك للظروف لتصنعها كيفما شاءت، دون أن يكون للإنسان دورا في الخيار الأول، أو الثاني بالاستمرار في علاقة ما أو بترها إلى الأبد.

الحلم يتحرك

رغم أن جيتس دخل في عوالم الحاسوب بشغف، بل مضى إلى محاولة الاستثمار في هذا المجال من زمن مبكر مع صديقة ألن، إلا أن ذلك لا يعني أنه حدد حلمه في الحياة بشكل نهائي. وهي طريقة تجدها دائما عند العباقرة والمبدعين الذين لا تستقر أحلامهم في الحياة على حال، فسرعان ما ينتقلون من حلم إلى آخر، ومن هدف إلى آخر، الأمر الذي يؤدي بالبعض إلى التوقف في النهاية. وقلة فقط هي التي تقدر على ضبط أنفسها لتكون قادرة على صنع تفردها في العالم.

سنجد أن جيتس وإلى أن تعرف على ألن، ودخل العوالم الحاسوبية، كان يتحرك ذهنيا تجاه حلم المستقبل، من محامي كوالده إلى عالِم. لم يكن ثمة شيئا قد تبلور بعد. ولكن التجارب الأولى مع الحاسوب كانت هي التي رفدته بأن يتمسك بهذا العالم الجديد، الذي رأى أن المستقبل سيكون له، وبالتالي عليه الالتزام نحوه.

يقول جيتس: “لم أستطع أن استقر على أيهما – يقصد المحاماة ومهنة العالِم – فقد كان والدي محاميا إلا أن مهنة العلماء كانت تروق لي”.

فضّل مهنة العالِم، لأنها كانت تتقاطع مع ذهنيته في رؤية الأشياء والرغبة في السيطرة عليها، فالمحاماة قد تتيح له تحقيق جزءا من ذاته، لكنها ليست إلى حد بعيد سوف تمنحه التفرد الذي يبحث عنه، أو إثارة الدهشة بشكل مطلق. وجيتس كان يرغب في البحث عن شيء يجعله غير متطفل، بحيث يحس بكينونته فحسب وأخيرا فهم أن عالم الحواسيب هو الذي سوف يمنحه هذه الذاتية التي يبحث عنها، ليتحرك نوعا ما من دور العالِم الطبيعي أو الفيزيائي أو الكيميائي البحت إلى عالم في مجال كانت محاولة اختراقه تبدو شبه مستحيلة. ويمكن أن نفهم ذلك من شهادة جيتس نفسه الذي يقول عن تلك الفترة: “لم يكن ذلك بالشيء المنتشر حينئذ – يقصد الحاسوب -، ولم أكن أتصور أن أظل متطفلا إلى الأبد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق