سياسة

فعلٌ إبداعي يزدهر وآخر يحتضر

د. النور حمد

بحكم غرقنا، نحن السودانيين، في الصراع السياسي والانشغال به عما سواه، واختزالنا مجمل أبعاد هذه الثورة العظيمة الشاملة في الفعل السياسي، فقد فات على أكثريتنا أن ترى أبعادها ومضامينها الأخرى، التي تتعدى في أهميتها مجرد الفعل السياسي ونتائجه. لكل ثورة أبعادٌ ثقافية واجتماعية تتمثل في محاولة الخروج من أوضاعٍ عامةٍ متكلسة، إلى أوضاعٍ جديدةٍ أكثر مرونةً وحيوية. لقد ظهرت بعض الاشراقات الثقافية والاجتماعية لثورة ديسمبر، في فترة الاعتصام. غير أن الفعل السياسي التقليدي المنبثق من العقل السياسي التقليدي، الذي يتقاسمه كارهو الثورة من أنصار النظام المدحور، مع أدعياء الثورة ممن اختطفوا مقود مركبتها، ما لبث أن تسيد المشهد. وغطى، من ثم، على الملمحين؛ السوسيولوجي والثقافي، اللذين أبرزتهما الثورة وهي في أوج عنفوانها.

لم يكن امتلاء الشوارع بالثوار وعراكهم اليومي، كرًّا وفرًّا مع آلة الأمن العسكرية الباطشة، على مدى سنوات هو أهم ملامح ثورة ديسمبر العظيمة. فهناك حراكٌ سوسيولوجي وثقافي بقي يعتمل تحت السطح على مدى عقودٍ طويلةٍ سابقة لمجيء الإنقاذ إلى الحكم. وقد كان الحقل الإبداعي مرآة عاكسة لذلك العراك. ويمكننا أن نقول إن فترة الاعتصام والصدمة التي أصابت المؤسسة القديمة وتسببت في شللها مؤقتًا، أتاحت فرصةً لخروج الطاقات الإبداعية المقموعة سلطويا لعقود طويلة إلى السطح ليشهدها العالم أجمع. ولذلك كانت الكراهية لفترة الاعتصام نابيةً والعمل على شيطنتها نذلاً وخسيسًا، وعلى إنهائها عنيفًا وإجراميا. لقد كان مجمل ما عكسته شهور الاعتصام فضحًا ثقافيًا واجتماعيًا لبنية السائد المعتل قيميًا، الذي خنق الحياة السودانية منذ مؤتمر الخريجين في ثلاثينات القرن الماضي، وحتى يومنا هذا.

لا يتحقق سبر أبعاد أي ثورة، بالتركيز حصريًا على تجليات الفعل السياسي المصاحب لمختلف أطوارها، وإنما بالتركيز أيضًا على تجليات الفعل الثقافي والسيسيولوجي المعتمل في داخلها. لقد أتاحت لنا وسائط التواصل الاجتماعي نافذةً نطل منها على عالمٍ تعتمل قواه تحت السطح، ما كان بوسعنا الاطلاع عليها لولا هذه الثورة التكنولوجيا الشاملة التي انتظمت العالم بأسره. قوام هذا العالم فئة الشباب، التي تحملت العبء الأكبر في الثورة. ومَثَلُه مَثَلُ أي بنيةٍ سوسيولوجية أو ثقافيةٍ، فإن لهذا العالم المقموع قطبان: قطبٌ إيجابي متسامٍ، وآخر سلبيٌّ متسفِّل. يتضح لنا ذلك حين نتفحص موسيقى هذا العالم المُتَجَاهَل من قبل الإعلام الرسمي، ومن قبل القطاع الأكبر من المجتمع، بعد أن قلبت وسائل التواصل الاجتماعي الطاولة على الإعلام الرسمي المتكلس البائس. لهذا العالم القادم نصوصٌ شعريةٌ غنائيةٌ جديدة. وله أيضًا تأليفٌ موسيقيٌّ جديد، وامتلاك لتقنيات الصورة والصوت عجزت عنه الأجهزة الرسمية. غير أن له أيضًا موسيقى هابطة خفيفة الوزن مما تذروه الرياح. ولو نظرنا أيضا إلى ما ينتجه الشباب حاليًا، وبغزارة، من كوميديا على تطبيق “تِك توك”، نلاحظ الفارق الشاسع بين ما ينتجونه وكوميديا أجهزة الإعلام الرسمية الاسترازقية الغارقة في “الهبالة” و”العباطة” ورداءة الصنعة، وبين كوميديا هؤلاء الشباب الذكيِّةٍ الشيِّقة، خفيفة الظل، جيدة الصنعة، رغم أنها إنتاج منزلي.

مقاومة الثورة لا تأتي من جانب النظام القديم وحده، وإنما تأتي أيضًا من قطاعٍ يحسب نفسه ضمن الثوار. من بين هؤلاء سياسيون وتنفيذيون وعاملون في مجالات الإبداع الثقافي بمختلف صورها. والآن، يحرس المسيطرون على أجهزة الإعلام الرسمية خرابةً آيلةً للسقوط، ويقفون بتشبثهم بنهجها المتوارث وعجزها البنيوي عن المواكبة، ضد التحول الجاري على المستوى السوسيولوجي والثقافي. هؤلاء، دروا أو لم يدروا، جزءٌ من الثورة المضادة. باختصار، هذه دعوة للالتفات الجدي لتجليات الثورة خارج دوامة الفعل السياسي النمطي المتكرر، الذي خبرنا كثيرا قلة عائده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق