آراء

كوكاسيات

أريد أن أحمي نفسي من الأماني، لكن القلب عليل

عبد العزيز كوكاس

أحلم بأن ألمس جريدة عربية فلا تتسخ يداي، وألا ينتقل سواد مدادها إلى قلبي.. لكيلا أحزن.

جريدة تبدو مثل امرأة جميلة استحمت من كل ذنوبها السابقة واللاحقة. صففت شعرها بعناية فائقة وراقبت نفسها بعناية في المرآة، قبل أن تخرج إلى الشارع على مرآى من الناس، وهي في حلة بهية.. من أراد أن يمتع نفسه بمساحيق وجهها فله ذلك، ومن سلبه شعرها المنسدل كجريد النخل، فسيجد بغيته فيها، ومن لفت انتباهه شكل مشيتها أو استدارتها البهية في منعطف الطريق، فله ذلك، جريدة يجد فيها الكل ضالته، باعتبار أنها تقدم خدمات متنوعة لقرائها.

أحلم بيوم سعيد أفتح فيه جهاز التلفاز، الذي لا هو ملك امرأة حديدية ولا رجل حديدي، على مذيعة لا تبتسم حين تقرأ أخبار الزلازل والحرائق وضحايا حوادث السير، ولا يجد العبوس إلى وجهها سبيلا وهي تتلو على مشاهديها أنباء الفرح، تلفزيون بلون المتوسط ووهج الصحراء ونبوءة الشرق وشموخ الأطلس، ليس صندوقا لذوي النفوذ والحاشية المتحكمة في زر الكهرباء، التي وحدها تملك سلطة الإفتاء فيما يصلح لنا وما لا يصلح.

تلفزيون لنا لا لغيرنا، يمنحنا مساحة من هواء، ويحفظ أحلامنا الدافئة من زكام التيارات الهوائية غير النافعة، يشدنا إليه في الأماسي كما في الصباحات الباكرة، مسؤولوه لا يفاجئوننا بتصريحات خشبية توحي بأن هذه تلفزة الدولة، والآخرين لهم الهباء، بل تضع في حسبانها اتساع صدر قنوات أخرى، كملاذ لهمومنا وأمانينا.

تلفزيون لا يتنافس مع ذاته حول الرداءة، إنما يعتبر أن المواطنين هم سنده بالتمويل الذي يقتطع من حساب استهلاك الماء والكهرباء شهريا، ومن خلال وقتهم، وببساطة.. تلفزيون نجد فيه ذاتنا كهوية متنوعة كروافد لثقافة باذخة، وحضارة ممتدة بالطول والعرض في التاريخ والجغرافيا، كحلم جماعي لأمة تحمل طموح التحرر من ثيابها الرثة لتعانق زخم الحياة.

أحلم بصحافي (ة) لا يجد وقتا للفراغ لملء الكلمات المتقاطعة، ولا لتبادل الشتائم وفنون الحسد القاتلة بدعوى: “خوك في الحرفة عدوك”، صحافي (ة) لا يضع أسئلته وفق كرم المستجوب، ويؤجل الأسئلة الحارقة والملفات الملتهبة إلى حين يفهم المستجوب رأسه، وإلا يعلنها حربا شعواء باسم الأخلاق والمهنية لمس الناس في حميميتهم، وفي حقنا المشترك في حماية خصوصيتنا الإنسانية والخاصة جدا.. صحافي(ة) يسأل الآخرين ابتغاء للخبر، لا استجلابا للسخاء أو طمعا في الربح، صحافي(ة) يكون أداة للبناء لا الهدم، شمعة تضيء الطريق أمامنا مرة واحدة، كي لا نلعن الظلام ألف مرة.

صحافي(ة) يعي أن القليل من عشق المهنة النبيلة يُذيب الكثير من حقد الآخرين.. من زراع اليأس إلى حاصدي الأمل، صحافي(ة) يضع المسافة الضرورية بينه وبين صُنَّاع الحدث، ويكون أقرب صديق إليه هو الخبر على غرار ما قاله المتنبي: “خير جليس في الزمان كتاب”.

وكم أشتهي أن يكون لنا مسؤولون بحواس متقدة، ينظرون إلى الإعلام خارج المخدومية والاستتباع أو العداء الإقصائي، نظرة فيها الكثير من الصفاء الوجودي، حيث دور الإعلام هو ليكون هناك نور يقدم خدمة عمومية، وينفس من الاحتقانات الاجتماعية ويمنح الكثير من الهواء لتزاحم الطبقات الجيولوجية للمجتمع كي لا تصطدم أو تنفجر بشكل بركاني أو تنكسر بعد هزات عنيفة (تيكتونية حسب علماء الأرض).. أريد أن أحمي نفسي من الأماني، لكن القلب عليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق