ثقافة وفن

من أجل عينيكِ الحزينتين يـا إرتـيريـا!

نـور الحـــق احمد

مذ نحو بعيد أجدني مأسورًا بإريتريا شخوصها وتأريخها وحالتها الثقافية؛ ليشكل الافتتان دافعًا مؤثرًا لاكتشاف المخفي قسرًا بنهج الألغارشية ذائعة النفوذ في صياغة صورة أحادية عن ماهية إريتريا عبر الدكتاتور إيساس أفورقي منذ الاستيلاء على السلطة بعد التحرير في أيار ١٩٩١ ومن ثم التأسيس عبر الدستور في نيسان ١٩٩٣. حيث قمينًا بالذكر هنا ثورة التحرير الإريترية التي ابتدأت إرهاصاتها في نهاية خمسينيات القرن العشرين قبل أن تتفجر وتُعلن عن انطلاقها الرسمي الفاتح من سبتمبر عام ١٩٦٠ بقيادة القائد حامد إدريس عواتي؛ بالاعتماد في بناءها الاجتماعي على الطلاب والعمال وصولاً لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا.

سأُشير فيما يشبه لمحِ البرق لوجوه ٍ كانت حاضرة في بلورة ذاكرتي تجاه وعي مساهمات الشعوب في التجربة الإنسانية جاءت هذه الوجوه من “جارة البحر الجميلة” وأولها..

-المناضل و المثقف الكبير أبو الحركة الثورية الإريترية محمد سعيد ناود الذي انفتقت سريرته في عام ١٩٢٦ في الريف الغربي من إريتريا؛ قبل الانتقال لبورتسودان لتلقي التعليم و هناك تفتح وعيًا تجاه قضايا التحرير كما يروي سيرته الذاتية في روايته ذائعة الصيت – رحلة الشتاء – و يُعد ناود عراب الثقافة العربية الإسلامية و علائقها الوشائجية بالتاريخ الوطني لأريتريا؛ حيث وقف الحظ في جانبي لأتمكن من فهم تبلور الهوية القومية للإرتيريين/و يُبيّن ناود في كتاب العروبة و الإسلام في القرن الأفريقي كيف كانت الرحلات البشرية تتم ما بين سُكان شرق البحر الأحمر و غربه فيما يعرف بدول القرن الأفريقي و يذهب في اتجاه استخدام منهجاً تاريخياً في تحليل صيرورة و تزاوج و انتقال الثقافة العربية منذ حضارة سبأ في اليمن القديم و تماسها مع البحر الأحمر؛ و يؤمن سعيد ناود بأن اللغات الإرتيرية الحالية بخلاف العربية هي أيضًا تُنسب للتاريخ العربي القديم و يتناص مع المفكر العربي منيف الرزاز الذي أعاد تعريف و فهم العرب و تاريخهم في دراسة ثمينة القيمة الرمزية معنونة – الجذور التاريخية للقومية العربية – و إحقاقا للملكية الأدبية؛ نُذّكركم بأن اسم الدراسة يعود لكتاب لأستاذ التاريخ العراقي عبد العزيز الدوري؛ و لكن ما يْهُمنا  فلسفة منيف الرزاز التي تلقفها بالتناص ناود؛ تمثل حجر زاوية في معاينة إريتريا الحالية.

” للبنات الجميلات في مكاتب الأمن..

وللاجئين..

وللصبية الضائعين..

بين صوت المغني وبين الكمين..“

-الحالة الإبداعية الثانية التي تخيف أصحاب النفس المهادن هو شاعر الغضب و القصيدة المفخخة محمد الشيخ مدني الذي يوصف ذاته كما وصفه صديقه عادل القصاص في معرض حديث عن جنسية محمد مدني بأن محمد سودارتريًا و يشعر مدني بالزهو لهذا التلازم الهوياتي و يسترسل في إثبات إنتماءه بمقولة للمهندس عمر أحمد عبدالواجد عندما قال: إن أمهر جزار لا يمكنه أن يفصل اللحم السوداني عن العظم الإريتري لمحمد؛ و في لقاء تلفزيوني بقناة TRT التركية سألت المذيعة الشاعر عن إيهما أميل إلى قلبه رد عليها بأن الدولتين مثل عينيه لا يمكن أن يرضى بقفأ إحداهما؛ و يبدو مدني صاحب الحضور الثوري المؤثر في يوميات حرب التحرير الإريترية؛ يبدو حماسياً في التمسك بعروبته و الدفاع عنها ضد حرب النفي التي يُشّنها إسياس ضد الثقافة العربية الإسلامية؛ إذ يقول بعدم وجود ما يُسمى بالهوية الأفريقية و بوعيه المتقدم يصنف إفريقيا بأنها جغرافيا تتضمن العديد من الثقافات و الأديان و لكن العروبة هي هوية ثقافية و حتى اللغة التقرينية تكتب بالحرف الجعزي الذي يُرد وفقاً للمفهوم الثقافي للعروبة إلى الحضارة العربية القديمة.

” لن أنسى ففي النسيان خيانة للوجع، وحدها الأوجاع تصلح ذاكرة بديلة، أو تاريخاً موازياً، نستند إليه حين يعيينا الوقوف فرادى في طريق طويل وموحش “

-ناج ٍ آخر من الذبح؛ و بنجاته انضم إلى أنه أطياف الدياسبورا الإرتيرية هو الروائي و الإعلامي حجي جابر؛ فما أن ظن طغاة أسمرا نهاية أصوات الرفض بُعيد موت سعيد ناود في ٢٠١٠؛ لتفاجئ أفورقي بميلاد صوت إريتريا الجديد إبن مصوع الساحلية؛ أنشأ حجي مشروعاً أدبياً يستدعي التاريخ في تعريف العالم بأرتيريا الإنسان؛ الثقافة و الطبيعة والإضطهاد السياسي ؛ بأسلوب سرديًا جزل ليسجل انتشارا واسعًا في سماء السرد العربي رغماً عن حداثة التجربة من ناحية الوقت..و يحمل حجي هواجس المصير الغاتم لبلده؛ و كنت قد سألته في مرة حول تغييب الثقافة العربية في إريتريا رغماً عن أصالتها؛ أجاب باقتضاب : لأن الرئيس لا يريد ذلك.

وباعتبار ميلاده مجايلاً لاشتداد القصف الإثيوبي على إريتريا؛ تملأ مشاعر الثأر عبر الكتابة مشروعه؛ ودائماً ما يتعرض حجي لتفاصيل حياته المستعرة بأقاصيص الألم وضياع الانتماء؛ وازدواجية الهوية بين مدينة جدة السعودية ووطنه الأم.

قمين بالذكر أيضا احتواء السودانيون للثورة الإريترية ودعمها؛ ويذكرنا التاريخ بأن أول شحنة سلاح أرسلت للثوار في الميدان كانت من سوريا؛ حيث تم تمريرها ثم إرسالها من مطار الخرطوم وأبرز السودانيين الذين آمنوا وشاركوا في دعم الثورة الإريترية المفكر السوداني المعروف محمد أبو القاسم حاج حمد الذي كان مشبعاً بالشعور المشترك العابر لحيز القُطر الواحد. وساهم في الكتابة عن الثورة الإريترية والتعريف عنها وهو في سنة صغيرة ويقابل بالاحتفاء من عارفي فضله من الإرتيريين.

كما شارك الشاعر والمناضل القومي السوداني التجاني حسين دفع السيد في تشكيل الوجدان الثوري الإريتري من خلال كتابة قصيدة الثوار وهم في الخناق المعروفة باسم إريتريا يا جارة البحر وهذا مجتزأ منها..

” من أجل عينيك الحزينتين يا حبيبتي..

سيطلع النهار من أجل.. أطفالك يا مدينة الصغارْ ..

من أجل أيتام بلادي الطاهرة ..

النازلين خلف أسوار الحدود.. في خيام الذل والهوان..

ارتريا .. يا وجعاً يجولُ في صدورنا..

يا شجرّا ينبت في قلوبنا..

يا مطرا يهطل من جفوننا..

يا أجمل المعذبات..

في معسكر اللصوص القتلة..  عصفورةٌ أنتِ .. أراك بين قطاع الطرق لكنني..

ما دام لي فيك دمٌ .. وخنجرٌ .. ونارْ..

وطلقةٌ .. وبندقيةٌ .. ورأس حربةٍ .. وثار

ما دام لي فيك شعاعُ مئذنةْ

ومشتلٌ .. ومرقدٌ .. ودارْ

ما دام لي مستقبل..

فأنني أعود .. أعودُ مثل طلعة النهارْ

أعودُ يا حبيبتي وفي يدي السلاح..“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق