ثقافة وفن

توثيق التراث الشفهي السوداني (1)

معتصم الحارث الضوّي

المكان الحصاحيصا، والزمان النصف الثاني من السبعينيات.

كان كاتب هذه السطور يشتري دفاتر زهيدة الثمن ثم يُسرع للجلوس إلى جدته. كانت رحمها الله أُميّة، ولكنها امتازت بذاكرة قوية للغاية.

كانت تشعرُ بالسعادة وهي تُملي على حفيدها قصائد الشاعر ود الفراش، وكثير منها لم يرد في ديوانه كما اتضح حينها، وكانت ترد بصبر على استفساراته بخصوص معاني الكلمات التي اندثرت، وتصف أماكن وأسباب إلقاء القصائد، وأسماء من حضروا.

كانت تستطرد، على الطريقة الجاحظية، وهي تصف الحياة في مطلع القرن العشرين في بربر، وتورد أسماء الأسر التي قطنت المنطقة، وتتحدث عن الوقائع الاجتماعية والاقتصادية وعيناها تأتلقان حماسا، وتدقق بوصف السنوات الأوائل من عمر الاحتلال وكيف تأقلم سكان المدينة إزاءه، وكان لها شغف بالغ بوصف العادات والتقاليد والأمثال والحكم الشعبية، وتُعرّج بطبيعتها المرحة على الألغاز والفوازير، مستعينة بذاكرة فولاذية لم تتأثر بكبر السن.

اقفز معي يا عزيزي القارئ إلى مطلع الثمانينيات، وتوجّه معي إلى الكلاكلة، حيث أقام شقيق جدتي رحمه الله، ويبدو أن قوة الذاكرة كانت صفة جينية لدى الأسرة، إذ كان يسرد للكاتب الأحداث الشخصية والعامة التي وقعت في شبابه، ومن ضمنها انتقاله في مطلع العشرينيات إلى مكة المكرمة للإقامة والعمل، وكيف شارك أحد الموسرين في تجارته، والذي أعجب بتدينه وأمانته فعرض عليه أن يُزّوجه إحدى بناته ويستقر عندهم، ويقول ضاحكا إن الحنين إلى أهله اشتد بعد سنتين تقريبا، فعاد إلى السودان وتزوج إحدى قريباته، وكانت الثمرة الأولى لزواجهما الدكتور الراحل أحمد محمود عباس؛ أول طبيب سوداني على الإطلاق يتخصص في الفحوصات الطبية من جامعة لندن سنة 1956.

كان محمود عباس رحمه الله صاحب ذاكرة نادرة، فنقل إلى ذلك المراهق -الذي كانت عيناه تتسعان بالدهشة- حوادث الزمان بالتفصيل الدقيق، والتحليل العميق للظواهر الاجتماعية والسياسية، مع عناية خاصة بالأوضاع الاقتصادية بحكم مهنته تاجرا، وما شهدته البلاد من ضنك العيش أثناء سنوات الفيضانات الكبرى، وعلى رأسها فيضان 1946، وكان يحلو له ذكر عبد العزيز داود الذي عمل صبيا في متجره ببربر قبل أن يشتهر فنيا، وللمودة القديمة حرص على السكن بجوار محمود عباس في الدناقلة عندما انتقل كل منهما إلى العاصمة.

لم يتوقف عند ذكرياته الخاصة، بل نقل عن والده ذكرياته عن العهد التركي، ثم المهدية وتجبّر الجهادية الذي ساموه وغيره من العوام سوء العذاب، ومجاعة سنة 1306 هجرية التي كان يسهب في وصف بشاعتها وأهوالها، ثم دخول الاحتلال البريطاني، وما عايشته بربر أثناء تلك المراحل من تغيرات اجتماعية كان شاهد عِيان عليها، وهو الذي عمّر طويلا، وتوفي في نهاية الستينيات عن عمر يناهز المئة وخمسين سنة!

حوت الدفاتر بين دفتيها كل ذلك وأكثر مما تساقط من ثقوب الذاكرة، وحرص الكاتب على الاحتفاظ بها في مكان آمن، فأودعها مخزنا في البيت الكبير للأسرة بحي الختمية بحري.

ذات أيام ممطرة، تسللت المياه أثناء فيضان 1988، واقتحمت المخزن الذي ضم “كراكيب” كل أفراد الأسرة، وبلؤم لا يعرف الرحمة، قضت على تلك الدفاتر!

(للحديث بقية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق