ثقافة وفن

كتابات محمد شويكة: التجريب كرؤيا والمسخ ككينونة

عبد العزيز كوكاس

“خير طريقة لمقاومة الإغراء، هي الخضوع له” أوسكار وايلد

منذ إبداعاته الأولى: ”الحب الحافي”، “النصل والغمد” إلى إبداعه القصصي الأخير “الكراطيط”، مرورا ب”خرافات تكاد تكون معاصرة” و”القردانية” و”درجات من واقعية غير سحرية”… يبدو التجريب هو الهاجس الذي يقود الأعمال الإبداعية لمحمد شويكة، التجريب بوصفه تأملا دائبا في التجربة الذاتية للمبدع القاص بحثا عن أسلوبه الخاص، ذلك الحس النقدي الذي لا ينام على وسادة المألوف والمتوارث، ليس هوسا في البحث عن الجديد المغاير، أو ما يمكن أن نسميه بالاستحداث والمغايرة الشكلية وركوب موجات العصري والجديد، وإنما بحثا عن الملمح الشخصي والرؤيا الفلسفية العميقة والتقنيات المناسبة لتشكيلها فنيا في الإبداع القصصي.. إنه بتعبير تودوروف “النص الأدبي الذي يحطم قواعده النوعية”.

وإذا كان شبه مؤكد أننا يمكن أن نختلف حول ماهية التجريب ومقوماته، فالأكيد أننا لا يمكن أن نخطئ أثره وتجلياته في إبداع شويكة القصصي، أقصد التجريب كخرق للنمطية والتقليد القصصي: انهيار الحدود بين الأجناس الأدبية، تعدد الأصوات، الترميز والتجريد برغم أن شخوصه من القاع الاجتماعي ولغته تمتح من الواقعي واليومي.. مما جعل كتاباته تبدو مثل مختبر مفتوح لا يستكين إلى منجزه الخاص حتى، ألهذا اعتاد تسمية بعض قصصه بالورشة؟

والورشة هي “المساحة المخصصة للمشروع (عتاد، عمال، مواد، مشروع..) ويمكن القول إن تنظيم الورشة هو تنظيم لمراحل وفعاليات العمل ضمن شروط معينة تضمن سرعة التنفيذ وجودة العمل وكذا اقتصادية المشروع.. إن النص الأدبي في إبداعات محمد شويكة يبدو دوما ورشة مفتوحة، نص قيد التشكل، في “الكراطيط” على سبيل المثال، يصر المبدع على وسمه بقصص، وإذا ما كنا وقحين ولم نحترم هذا الميثاق الأدبي للقراءة، فإننا نعتبره مشروع رواية أو قصة واحدة.. الشخصيات نفسها وإن تغيرت ملامحها الشكلية وفضاءاتها، الوقائع والأحداث تنمو وتتطور وفق مسار لولبي والعقدة الكبرى هي ما يتحكم في سيرورات النص ومساراته.

تبدو قصص محمد شويكة بروليتارية المضمون بورجوازية الشكل السردي، شخصياتها وأحداثها مستجلبة من الهم الاجتماعي ومن الطبقات الأكثر بؤسا وعطالة، من بائعة القبعات، إلى الحارس الحكواتي في “الحب الحافي” إلى “الخادمة” و”الممرضة المريضة” في “النصل والغمد”… وجل شخصيات “الكراطيط” هي من المقصيين والمهمشين، بالإضافة إلى الحدث والأمكنة التي تدور فيها وقائع القصة: قرية، مقهى شعبي، حقل أو مرعى، منزل متواضع.. لكن اللغة السردية جد باذخة ليس لغموضها أو لتعاليها النخبوي، إذ يستعمل شويكة لغة اليومي، وتتسلل العامية إلى لغة الحكي لديه بشكل مكشوف، ولكن لتملك هذا “التكنوقاص” للغة الحكي، ويبرز هذا البذخ أساسا في عشق التفاصيل، جل كتابات شويكة تحفل بذلك الوصف الدقيق، فتَنني هذا الإغراق في الدقة لوصف السروال في نص “الكراطيط” والحزام الجلدي وما حدث بعدها حين لم تسعف هذا القروي الحداثة في قضاء أبسط حاجياته الإنسانية “واجب إفراغ البطن”، أو في وصف الفتاة حليمة وهي تتبول وذكرني بما قاله رولان بارث عن (بوفار إي بيكوشي): “أقرأ جملة تلذ لي “سمط ولحاف ومناشف تتدلى عموديا، مشدودة إلى حبال متوترة بمقابض خشبية”، أتذوق هذا إسرافا في الدقة، ونوعا من الضبط اللغوي المهووس، وجنون الوصف (..) ونجد أنفسنا أمام هذه المفارقة: يتعرض اللسان للارتجاج والتجاوز، التجاهل في الحدود نفسها التي يتطابق فيها اللسان الخالص، اللسان الأساسي، اللسان النحوي (وليس هذا اللسان، بطبيعة الحال، إلا فكرة) ولا يأتي التدقيق المذكور من غلوّ في العناية، ولا هو بفائض قيمة بلاغية، وكأن الأشياء كانت توصف بكيفية أفضل فأفضل، وإنما يتأتى ذلك الضبط من تغيير في القانون، فلا يعود النموذج (البعيد) الذي يحتذيه الوصف، هو القول الخطابي/ (فنحن لا “نرسم” شيئا) بل يصير نموذجه نوعا من الاصطناع القاموسي” (لذة النص، دار توبقال ص 32 ـ 33).

إن لغة شويكة لغة بصرية بامتياز، لا نجد ذلك فقط في مجموعة “القردانية” التي تحولت إلى فلم قصير، ولكن في الإبداعات القصصية للمبدع شويكة في “النصل والغمد”، في “درجات من واقعية غير سحرية”، غير أنها في “الكراطيط”، تصبح السيد الشاغل، لقد أملى ذلك الرهانات السردية للكاتب الذي يسعى لملاءمة إبداعه القصصي لرؤيته للعالم، الذي يقول في أحد تصريحاته أنه لا يفهمه إلا كشذرات، وهذا ما تعكسه قصته “شذرات هستيرية في النصل والغمد”، لقد ساهم التكوين النظري الباذخ لمحمد شويكة وانشغاله بمجالات إبداعية كالتشكيل والسينما والتلفزيون في منح سرده القصصي طابعا مشهديا، حيث يبدو الفعل السري مقدما لنا لحظة اشتغاله، بدمه على خده، إن الصورة في إبداع شويكة لا تحضر كخلفية تزيينية، واللقطة ليست تشذيرا لزمن الحكي، بل تدخل في هذا المنحى التجريبي الذي يسعى إلى خلق بُعد بصري للغة السردية، وتكسير خطّيتها حتى لأننا نضطر إلى تشغيل كل حواسنا من شم وسمع وبصر وذوق ولمس لالتقاط تفاصيل المشهد القصصي..

نقف في الإبداع القصصي لمحمد شويكة على هجرة تقنيات حقول إبداعية عديدة إلى نصه القصصي من خلال درامية الحوار، واستثمار “هارمونية” الموسيقى في ثنايا التصوير اللغوي للشخصيات والأحداث والأمكنة، أو إلى أسلوب الكولاج  كما فى الفن التشكيلى وغيره… هذا التعدد الباذخ ناتج عن الاهتمامات المتنوعة للمبدع بحقول ما اعتدنا من مؤلف الاشتغال عليها إلا من باب الهواية لا الاحتراف كما حال المبدع محمد شويكة، وهذا ما يُمكن نصوصه الإبداعية من الانفلات من التحنيط الأجناسي ومقاومة التقيد بخانة إبداعية مخصوصة.

تنقاد تجربة شويكة القصصية برؤيا عميقة للتجربة الإنسانية تنفلت من أسر العرض المجاني للأفكار واستعراض الآراء، رؤيا مسكونة بعمق فلسفي وقلق إبداعي عبرها يستعرض محمد شويكة الطموحات والتجارب، يستكنه المكبوتات والغرائز، الآلام والآمال، الانتصارات والإحباطات الإنسانية في سرد جليل يأسر قارئه، يجعله متورطا في شباك متنه القصصي.

نقرأ في مجموعة “الكراطيط” الذي أعتبره نصا ممتدا أو مجموعة قصصية ترابطية ”غطى رأسه بقبّ الجلباب ناسيا قارورة اللبن التي وضعها به دون أن يحكم إغلاقها، سال السائل الأبيض فوق رأسه، انحنى كما تتجلى ألوان فنان تشكيلي، حاول أن يرسم لوحة تجريدية تحت وقع الأمطار”. (ص 17)، وكذلك في وصف مشهد “التكواز” الذي تحاكي فيه اللغة الأشياء في وقاحتها (وسأتجاوز التدقيق في هذا التفصيل الباذخ والمشهد التصويري، من جهة لكي لا أفسد على القارئ المحتمل مستقبلا لهذه المجموعة الرائعة حقا، ومن جهة أخرى لأن لغتي أقل “مسخا” من لغة الكاتب شويكة، في بعدها الإبداعي لا الأخلاقي).

ما يصنع الأدب هو الغرابة، كما يعلمنا عبد الفتاح كيليطو، من هنا احتفاء نص “الكراطيط” ببُعد الغرائبي والعجائبي، في نصوص ساحرة توهمنا دوما بواقعيتها، لذلك يهيمن “المسخ” كثيمة مركزية في “الكراطيط” في محاولة وصف حالنا، هذا المسخ يتمظهر بدءا من صورة الغلاف التي تشبه “جراثيم” إلكترونية سوداء مختلفة الأشكال والأحجام تمتد على مساحة الغلاف، تندرنا في اللعب الإلكترونية بالخطر والشر المستطير، في اللغة نعثر على الدلالات التالية للمسخ: “مسخ الطعام ونحوه: قلّت حلاوته، أو لو يكن له طعم، ويعني القبح وتشوه الخلقة، وفي الطب.. المسوخ: وليد طمست معالم وجه خلقه، ومسخه الله: شوه صورته أو أفقده طبيعته الخاصة أو هو اعتقاد بانتقال النفس من بدن الإنسان إلى بدن حيوان يناسبه في الأوصاف”.

وكلمة “الكراطيط” نفسها تشير إلى العجب والداهية والشيء القليل أو القصير، والمغاربة يتحدثون عن السروال “الكرطيط” و”اللّفعة الكرطيطة”، إن محاكاة واقع مفعم بالتناقضات تعاني طبقاته المسحوقة من التهميش وطمس الهوية، ونقل هواجس وهموم تفاصيل صراع الإنسان في هذا الواقع المعيش، لا يوازيه إلا المسخ، مسخ الأحداث، الشخصيات، الأمكنة والأزمنة واللغة ذاتها، “الكروش البطيخة”، فالإقطاعي ينادي “الزيطي”، المكنى على ثنائية ما بين الفخذين، وما يشبه اللوزتين ب”أيها البهيمة” و”كلب بسبعة أرواح”، إنها لغة تحاول أن تحاكي هذا المسخ الوجودي، تصوره، تنتقده وتسخر منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق