سلايدرسياسة

عن “الأميركي الهادئ” جو بايدن

عبد اللطيف السعدون

لو لم نكن نعرف أن الروائي البريطاني، غراهام غرين، نشر روايته “الأميركي الهادئ” منتصف الخمسينيات، ولم يكن جو بايدن الصاعد إلى البيت الأبيض يومها قد تجاوز مرحلة الفتوة، لخامرنا شكٌّ في أن غرين حاول أن يستنطق حياة بايدن، وأن يضعها في قالب روائي من خلال شخصية بيل، رجل وكالة الاستخبارات الأميركية المعروف بهدوئه وتحفظه التي شكلت، مع شخصية المراسل الحربي فاولر، ثنائية البطولة في الرواية المذكورة التي كان ميدانها الهند الصينية أيام احتلال الفرنسيين لها.

كان بيل يرى أن أميركا تتحمّل مسؤولية تاريخية لنشر الديمقراطية هناك. ولذلك سعى إلى دعم مجموعة انشقت عن الجيش الفرنسي، تثير الاضطرابات وتنشر الفوضى، وتنفذ أعمال عنف بما يمكن أن يظهر الفرنسيين عاجزين عن مواجهة ما يحدث، وتفتح الطريق لأن يرثهم الأميركيون. وهناك من نظر إلى الرواية على أنها نبوءة سوداء بتورط أميركا في الحرب الفيتنامية بعد عقد، وإن كان غرين قد أنهى روايته على نحو لم يتوقعه القارئ، فقد قتل بيل على يد صديقه الصحافي فاولر، على خلفية علاقتهما العاطفية مع عشيقة مشتركة، وانتهى كل شيء.

يبدو لنا بايدن نسخة منقحة من “الأميركي الهادئ” الذي رسم غراهام غرين شخصيته، وكان صرّح غير مرة بأنه يريد عالما يقوم على القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن على أميركا مسؤولية التبشير بهذا الهدف. وعلى الرغم من دعوته تلك، فقد أيد قرار غزو العراق وتبناه، بزعم أنه كان يريد الضغط على صدّام حسين وعزله دوليا، لكن الرئيس بوش استغل ذلك للذهاب إلى الحرب. وفي آخر مقارباته الانتخابية، قال إنه لا يريد أن ينطلق في سياسته الخارجية من “نموذج القوة العسكرية”، وإنما من “قوة النموذج الذي يعتمد على القيم الإنسانية”. وما يجمع بايدن وبيل أن كلا منهما رجل تسويات، وليس رجل مواجهات، ويريد تشكيل رؤية أميركا للعالم على أساس الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذه الرؤية لا تمنعهما من اعتماد القوة على قاعدة “الغاية تبرّر الوسيلة”، لكن هدم ما بناه ترامب يحتاج إلى أكثر من ولاية واحدة، وربما لا يطمح بايدن الثمانيني إلى أن يعيش أكثر من إكمال ولايته الحالية بسلام، وقد يظهر ترامب لينال ولايته الثانية بعد سنوات أربع، كل هذا يعني أن النزعة الترامبية الفظّة للاستحواذ على العالم ستظل ترافق حظوظنا!

ما الذي يمكن لبايدن إذن أن يفعله لنا؟ عراقيا، سيمضي في خطة الانسحاب العسكري، لكنه سيبقي على وجودٍ مؤثر وفاعل يضمن لبلاده تدفق النفط، ويتيح المجال للشركات الأميركية الاستثمار في العراق، والمشاركة الأساسية في خطط إعماره، وسوف تضغط واشنطن للتخفيف من الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي العراقي، ولن تجد إيران ضيرا في ذلك، لأن التوغل الإيراني في العراق عبر الصلة المذهبية والمرتكزات الديمغرافية التي صنعتها على مدى 17 عاما، لن تستطيع واشنطن كبحه، وهي ليست في وارد التعرّض له. وسيظل بايدن مصدر قلق لدى العراقيين الذين في ذاكرتهم خطة تقسيم بلادهم التي رسمها في حينه.

الإيرانيون، من جانبهم، سيجدون الفرصة سانحة لالتقاط أنفاسهم، ثم الانطلاق في مسيرة تجاوز الألغام التي زرعها ترامب، وبناء علاقة براغماتية مع واشنطن، وسيستثمرون العلاقة بين بايدن نفسه وشخصياتٍ نافذة في القرار السياسي الإيراني، منهم وزير الخارجية، جواد ظريف، الذي عرف بصلته الدافئة بالغرب، وعندما يتقدّم بايدن خطوة نحو إيران سيتقدم الإيرانيون خطوتين.

خليجيا، ليس في خطط بايدن ما كان يريده الخليجيون من ترامب، وهو غير مستعدٍّ للصمت عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلدانهم، كما فعل سلفه، كما أنه لن يضع ثمنا لحماية حكامهم، لأنه مطمئنٌ إلى أن حصيلة ثرواتهم لن تحطّ، في النهاية، سوى في خزائن بلاده!

فلسطينيا، قد يعمد بايدن إلى تبني سياسة “تصالحية” مع الفلسطينيين، أبرز خطوطها معارضة التوسع الاستيطاني، وتقديم بعض المال لبعض المؤسسات الخدمية للسلطة الفلسطينية، لكنه سيظل الداعم الأول لإسرائيل، وستظل إسرائيل صاحبة الحظوة الأولى لدى واشنطن، وليس أمام الفلسطينيين سوى اللهاث وراء فتاتٍ مغموسةٍ بالدم، إذ لم تعد بيدهم أوراق كثيرة، بعد أن ارتفعت رايات التطبيع عربيا!

وبالمختصر المفيد، لا يبدو أن “الأميركي الهادئ” كتب في أجندته صفحةً منصفة للعرب على أي صعيد .. تلك حقيقة قد لا يرغب بعضهم في سماعها، لأنهم، كما يقول نيتشه، لا يريدون أن تتحطم أوهامهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق