ثقافة وفن

قراءة في «قصص قصيرة من قلب أفريقيا»

للدكتور محمد بدوي مصطفى وبروفسير عبد الله التوم

محمد بوعابد (أبو ريم)

«قصص قصيرة من قلب إفريقيا» مؤلف سردي، صدرت طبعته الثانية عن دار بدوي للنشر والتوزيع في ألمانيا، مستهل السنة الحالية 2022. وقد وقف على إنجازه وإخراجه مؤلفا ورقيا، أعني نقله من الشفوية L›Oralité إلى الكتابة L›Ecriture الكاتبان الأستاذان: عبد الله عثمان التوم ومحمد بدوي مصطفى. ففي الإهداء الذي مهره باسميهما هذان الأخوان، وتقدما به إلى (ملاكه الأصليين والذين حفظوا لنا هذا التراث القيم) كشفا لنا من خلال عبارتهم هذه وما سيليها أن النصوص السردية التي يتشكل منها متن هذا المؤلف تنتمي في الأصل إلى ما يتم تداوله من نصوص حكائية بين عموم ساكنة الشرق الإفريقي، مادام هذان الأخوان المؤلفان ينتميان إلى هذا الصقع الإفريقي المعروف باسم السودان. ومعلوم أن ما يتم تداوله في عموم القارة الإفريقية لا يتوسل عادة سوى اللغات واللهجات المحلية، ولا يتقدم سوى شفويا، وهو ما نستفيده منطبقا على هذه المجموعة من النصوص الحكائية، لا سيما والمؤلفان يقران بجمعهم لها من لدن غيرهم ممن تكفلوا باحتضانها وحفظها مع سردها، ثم نجدهما يسمان هؤلاء (الملاك الأصليين) بأن (جلهم أميون لم يدخلوا عالم الكتابة والقراءة) ص3.

في العنوان، الذي تكلل به هذا المجموع الحكائي، اختار المؤلفان اصطلاح (قصص قصيرة) لتعيين النوع الأدبي الذي يرومان أن تنتمي إليه النصوص المشكلة لهذا المتن. والحال أن (قصص قصيرة) اصطلاح أدبي حديث دخل لغتنا وأدبنا العربيين الحديثين والمعاصرين، ويقوم إلى جانب اصطلاحات أدبية أخرى، هي: الأقصوصة، والقصة القصيرة جدا، والنوفيلا، ثم الرواية بمختلف نماذجها… ووجد كل واحد من هذه الاصطلاحات لوسم وتمييز نوع من أنواع الإبداع الأدبي النثري، إذ كلها تندرج تحت جنس أدبي واحد هو السرد. وللحق، فإن ما يتضمنه هذا المؤلف من نصوص سردية يتعذر إدراجه ضمن أحد الأنواع المذكورة، بقدر ما يتحقق له الوجود الشرعي والانتماء الأصيل إلى نوع أدبي قديم قدم الإبداع النثري. وهو النوع الأدبي السردي والنثري الذي نلفيه حاضرا بقوة في كل الثقافات والحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور، والذي اتفق على تسميته «الحكاية الخرافية». ويتمثل مبرر إنمائنا لهذه النصوص إلى ما يعرف باسم «الحكاية الخرافية « في كون المؤلفين يصرحان في المقدمة بأنهما يحاولان (…في هذه المجموعة القصصية الفريدة، وبكل تواضع، أن يقتفيا ويلمسا أثر الكاتبين الألمانيين «الأخوين غريم». لذلك نجد كليهما مهموم هميم ومضطرم القلب بالحكايات الجادة الأصيلة، وقبلها بالرسالة التعليمية التي تحملها الأحداث على أجنحتها…) ص5. وأحسب أن اقتفاء أثر هذين العالمين الألمانيين، فيلهلم وياكوب غريم، اللسانيين والفيلولوجيين والجامعين المصنفين للحكايات الخرافية في اللسان الألماني، من طرف هذين المؤلفين السودانيين، لا يمكن أن يعني سوى أن المتن الحكائي الذي أمامنا يتشكل هو الآخر من حكايات خرافية مما ظل أهل السودان يتداولونه، فيتناقلونه جيلا تاليا عن جيل سابق، وممن تكفلت النساء العواجيز والرجال الشيوخ بصيانته في الذاكرة وتواتره شفويا. وقد أكد المؤلفان نفساهما، عبد الله عثمان التوم ومحمد بدوي مصطفى، هذا الأمر حين سجلا في المقدمة أن (…كليهما مهموم هميم ومضطرم القلب بالحكايات الجادة الأصيلة)، وحين نبها إلى إسهام غيرهما في صياغة وتشكيل بعض نصوص هذا المجموع الحكائي، فقد أوردا في ص 42 أن حكاية «الطفلة آيبا» تمت (بالتعاون مع نورين شرف الدين)، وفي ص 159 ذكرا أن حكاية «أميناتا» جاءت (بالتعاون مع سلمى محمد بدوي)،     

ثم إن قراءة متمعنة في النصوص الحكائية، التي يتشكل منها هذا المتن، تسعف على وضع اليد على الطبيعة الخرافية لهذه الحكايات الأربع عشرة. بل بدء من التوقف عند بعض عناوين هذه الحكايات يمكن اكتشاف البعد الخرافي الذي تتميز به هذه المجموعة من الحكايات. وإذا نحن تصفحنا عناوين الجزء الأول استوقفتنا العناوين التالية: *الغولة: عنوان الحكاية 05 الممتدة من ص119 إلى ص130. ثم عنوان الحكاية 06 *الثعلب الوديع من ص130 إلى ص142. ثم الحكاية 07 المعنونة *أحجية الذبابة (حجوة أم ضبيبينة) من ص143 إلى ص148. وأخيرا عنوان الحكاية08 *بنات السماء من ص149 إلى ص 157. فقد يكون الوقوف عند هذه العناوين معينا على كشف الطابع الخرافي الذي تتسم به هذه الحكايات، فهل ينحصر هذا الميسم على ما اشتمل عليه الجزء الأول فقط، ولا يطول النصوص التي تكون منها الجزء الثاني؟ لأنه إذا كانت بعض عناوين الجزء الأول قد اشتملت على ذكر كائنات لا وجود لها في الواقع العيني (الغول)، وكائنات ليس من المفروض اتصافها بالصفات والنعوت التي ذكرت بها في الحكاية (الثعلب الوديع والذبابة صاحبة الأحجية)، وهو ما يسمح للقارئ بتبين خرافية حكايات الجزء الأول. فإن الوقوف على عناوين حكايات الجزء الثاني تبرزها عبارة عن أسماء أعلام لشخصيات إنسانية: أميناتا ص159، خديجتو ص177، شيخ دمبو ص201، الحاجة فاطمتوص229. وتظهر هذه الشخصيات منغرسة الوجود والكينونة ضمن تربة السودان الأفريقية ومتسمة بسمات الإنسان المسلم ذي النزوع الصوفي، وهي الصورة التي تكونت لدي شخصيا عن إخواننا في هذا الصقع الأفريقي.

لكن، ما معنى وسم الحكاية بكونها خرافية؟ أو قل ما الذي يجعل من حكاية ما خرافية؟ ويجعل غيرها لا تتسم بهذا الميسم الخرافي؟

إذا كان العلامة ابن خلدون قد سجل في مؤلفه الجليل «المقدمة» أن الشعر موجود في جميع الألسن  وعند جميع الأمم، فهو ليس حكرا على أمة دون أخرى، فعلى غرار هذا القول يمكننا تسجيل أن الحكي والسرد موجودان عند كل من يتكلم بلسان من الألسن، فهو متوفر في الحياة اليومية، مثلما هو متوفر في الحياة الثقافية. وذلك عينه ما كان العالم السيميائي رولان بارط قد أكده حين سجل في المؤلف الجماعي «شعرية الحكي» قوله بكون السرد والحكي يتوفران في الألسن واللغات، وفي مختلف الأشكال الإبداعية والمسانيد (في الشعر وفي النثر، كما في المسرح والسينما، وفي اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية، كما في مشاهد السيرك والتشخيص الصامت الميم…). ودعونا نتفق على أن «الحكاية الخرافية» اصطلاح نطلقه لإفادة الدلالة على كل حكاية سردية قصيرة، تنتمي وقائعها وشخوصها  صراحة إلى عالم الوهم، ما دامت تلكم الشخصيات خيالية، ومادامت تلكم الوقائع والأحداث التي تسردها تخالف ما هو طبيعي، إذ تتوسل ما هو خارق، فالعالم المصور في الحكاية الخرافية يتميز بكونه غير واقعي، إنه واقع شعري، فنتازي، أسطوري، خرافي. ينفصل إذن مفهوم اصطلاح «الحكاية الخرافية» عن ما يفهم من ألفاظ (الخرف= فساد العقل بسبب التقدم في العمر) و(التخريف= الاعتقاد الفاسد، كالإيمان بالعين والحسد) و(الخرافة=الحديث الكاذب المضحك، الحديث الباطل مطلقا). وتتميز «الحكاية الخرافية» بأصلها الشفوي، حتى ولو تمت كتابتها، وبقصرها، ومفارقة أحداثها للواقع المعيش، وذلك لأن شخصياتها تكون إما حيوانات مؤنسنة أو ظواهر طبيعية ألبست صفات إنسانية، أو تكون أناسا لهم صلات بالقوى الغيبية ويمتلكون قدرات خارقة. وإن ما يرام من الحكاية الخرافية إنما هو بث مضمون أخلاقي، أي تقديم مغزى، كما تأتي بعض الحكايات الخرافية ذات الطابع الأسطوري من أجل تقديم تفسير لظاهرة من الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية، ومن هنا نستطيع تأكيد أن الحكاية عامة والحكاية الخرافية على وجه الخصوص يراد منها تأدية دور تربوي وتعليمي. وقد انتبه المفكرون والفلاسفة وأهل التصوف إلى هذه الخاصية فاستثمروها في كتاباتهم، ويكفي أن نذكر بالحكاية الفلسفية «حي بن يقظان» التي أبدعها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، وبكتاب ابن عربي الحاتمي المرسي «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، مشيرين – وفي الوقت نفسه – إلى أسطورة الكهف الأفلاطونية التي قدم من خلالها هذا الفيلسوف الإغريقي تصوره للواقع وحدود المعرفة الإنسانية به، ودور الفيلسوف في هذا الإطار.   

وإن هذا المجموع الحكائي الذي بين أيدينا ليفصح، من خلال أحداثه وشخصياته، عن كونه، في كليته، حكايات خرافية. ويعلن صراحة أن المراد من سردها هو التربية والتعليم، أعني نقل المعلومات والمعارف من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق: ففي هذه الحكايات تقوم الجدات بحكي الحكايات، وبالتالي بنقل المعرفة ، يقول السارد في حكاية «الطفلة آيبا»: (…هرعت البنتان إلى كوخ جدتهما أن تسمعا إحدى روائع القصص مع أطياف المغيب (…) مع مرور الأيام وتكرار القصص ومثابرة البنتين على السماع فقد تسنى لهما أن تكونا كنزا كبيرا من القصص المأثورة…) صص43/44، وفي حكاية «كهف الخفافيش» يقول السارد: (… توقعت الجدة أن يأتي أحفادها، يجالسوها حتى تسمعهم كعادتها من قصصها الممتعة (…) وهي تتنهد لتلحق وتجيب على الأسئلة الكثيرة الوفيرة التي قذف بها الأطفال من ذخيرة أخيلتهم الخصبة، تارة مقاطعين، تارة منبهرين وتارات أخرى هائمين في سماء السرد اللطيف…) صص80/81. في الحكايات المذكورة آنفا كانت الجدات هن الساردات، وفي حكاية «الثعلب الوديع» قام بالسرد الجد (… على مسمع ومرأى حفيدته تونا التي تربعت عرشها بجانبه، اتكأت على جنبها الأيسر وغرست راحة يدها اليسرى في خدها وامتطت ساعتئذ براق الحكايات وسبحت تحلق في آفاق قصة جدها…)ص132. وكل هذا يفيد الدلالة على أن الكبار في السن هم من يتكفل بالحكي، وبذلك يقومون بتربية الصغار، فيعلمونهم أولا «حسن الإصغاء»، ألم يوص به أحد البلاغيين ابنه، حين سأله عن أول درجات البلاغة، فالصغار في الحكايات يأتون بصخبهم وتعاركهم، حتى إذا شرع الجد، أو الجدة، في الحكي التزموا الصمت وأحسنوا الإصغاء، وانطلقوا متفاعلين مع ما يحكى، وصائغين أسئلتهم التي تكشف لهفتهم وتعطشهم للمعرفة.

إن قراءة متمعنة في نصوص هذا المتن الحكائي تسعف على وضع اليد على الطبيعة الخرافية لهذه الحكايات الأربع عشرة، وتمكن من تأكيد الرسالة التي أراد الأخوان (عبد الله عثمان التوم ومحمد بدوي مصطفى) إبلاغها إلى متلقي متنهما الحكائي هذا. لقد استهدف المؤلفان نقل ما كان يتداول شفويا عند أهلهم خوفا عليه من الضياع والتبدد بسبب النسيان وما تستجلبه الحياة المعاصرة والحديثة من انشغال عما توارثه الأخلاف عن الأسلاف، وبذلك راما تأكيد أن أفريقيا تمتلك ثقافة وحضارة تخصها وتشترك فيها الشعوب التي تعيش فوق ثراها متعايشة، مهما اختلفت إثنياتها وتباينت معتقداتها، ومهما تباعدت أصقاعها وتنوعت أنظمتها وأنساقها السياسية. فمثلما تتنوع الخيرات النباتية والحيوانية في هذه القارة، فكذلك تتنوع أشكال التعبير عند الساكنة، إذ تشير الحكايالت إلى أن هذه الشعوب الأفريقية تتوفر على سرود وأغان وممارسات فرجوية خاصة بها، وهذه الفنون تورق وتزهر، مثلما تورق النباتات المتعددة والمختلفة وتتنور كما  تتنور الأزاهير والورود، وتثمر كأما أشجار المانجو والجوافة والنخل. وبغاية الوقوف على ما زعمناه دعونا نقرأ نموذجين، هما: (البقرة سوداء) ص9 و(حجوة الذبابة) ص143.

تروي حكاية (البقرة سوداء) أن أسرة متكونة من أب وأم وابنتين كانوا يعيشون في وئام، وكانت في ملكيتهم بقرة اسمها «سوداء». وكانت هذه البقرة توفر للبنتين حليبا متميزا، مختلفا عن كل حليب تقدمه غيرها من الأبقار الأخرى. ولحظة احتضار الأم ستخبر ابنتيها بأن بقرتهما ليس عادية مثل باقي الأبقار، فهي ذات قدرات سحرية عجيبة. وإثر وفاة الأم اقترن الأب بامرأة أخرى ذات سلوك سيء، فهي تعامل البنتين باحتقار، وتمنعهما من تناول قوتهما حد الكفاية، فكانت البقرة «سوداء» تعوضهما عن ذلك خفية من الأب وزوجته الشريرة. وحينما أنجبت زوجة الأب وليدها الذكر فرحت به البنتان، لكن الزوجة الشريرة فرضت على زوجها إقامة حفل باذخ تحضره كل ساكنة القرية، وتتم فيه التضحية بالبقرة «سوداء». وبعد حث حثيث من زوجة الأب لزوجه وجيرانها من أجل نحر البقرة، ولإثر محاولات عديدة لإنجاز هذا الفعل من طرف الزوج والجيران، سيتم نحر البقرة العجيبة وطهي لحمها، ثم تقديمه لضيوف الحفل. لكن جميع من أكل ذلك الطعام سيصاب بأوجاع وآلام في البطن، ولن يتيسر له التخلص مما أكل، سواء عبر التبرز أو التقيؤ، إلا بعد إبداء الاحترام وإظهار التقدير للبنتين، مع انتظار استقبال مباركتهما في اليوم الموالي للحفل. ثم يتيسر لآكلي لحم البقرة العجيبة «سوداء» أن يتخلصوا مما امتلأت به معداتهم، عندئذ تظهر من العدم «سوداء»، وتحمل البنتين فوق ظهرها لتحلق بهما فتوصلهما إلى حيث يعيش خالهما مع باقي أفراد أسرة أمهما الراحلة (…وعاشتا بينهم في تلك القرية سعيدتين، في قلب الأسرة…).

يتردد عندنا في مراكش القول التالي: (إذا مات الأب وسد الركبة، وإذا ماتت الأم وسد العتبة)، ولعل ذلك ما سعت حكاية «البقرة سوداء» التأشير عليه. فهذه الحكاية ككل الحكايات تتحدث عن الوسط العائلي، أي عن العلاقات بين الآباء والأبناء. في البدء كانت العلاقات عادية بين البنتين ووالديهما، لكن بوفاة الأم الوالدة، وزواج الأب من امرأة أخرى، وعدم قيام هذه المرأة بوظيفة الأم (الرعاية والحنان، وتوفير الدفء الأسري)، ستتكفل الأم الراعية «البقرة سوداء» بإنجاز هذه الوظيفة الأمومية الرئيسة، وهي ضمان العيش واستمرارية الوجود بالنسبة للبنتين (جيل المستقبل) ضمن شروط أسرية سليمة. السنا غذن أمام نص سردي عن العائلة؟ نص كائي يحدثنا عن الدور الرئيس الذي تلعبه الأم في حياة بنيها، سواء بصفتها الوالدة (الأم التي أنجبت) أو بصفتها الأم الراعية والمربية. كما تشير هذه الحكاية من طرف خفي إلى أن من الأمهات من تؤدي وظيفتها على أحسن وجه، ومثاله الجلي بقوة تجسده الأم الوالدة للبنتين والأم الراعية لهما (البقرة»سوداء»)، كما أن منهن من تنجز وظيفتها الأمومية بأسوء الأشكال وأفظع التصرفات، وهو ما تجسده زوجة الأب في هذه الحكاية. وعلينا أن نتذكر في هذا الإطار صورة الأم الشريرة كما تمثلتها ومثلتها حكايات عديدة نذكر منها (عقلة الأصبع) و(سندريلا). فزوجة الأب في هاتين الحكايتين هي الصورة المثلى للأم الشريرة والسيئة الخلق، إذ هي الأم الغولة أو السعلاة، فهي ما تني تحث زوجها على التخلص من أبنائه في (عقلة الأصبع)، وهي التي ما تتوقف عن احتقار وتعذيب ربيبتها في (سندريلا أو عيشة رمادة).

ومعلوم أن البيت العائلي هو مملكة الزوجة، فالأم هي سيدة البيت وربته، إذ هي التي تفرض نظامه، وترتب العلاقات في ما بين ساكنته، لذلك يبدو أن صورة الوالد في هذه الحكاية ومثيلاتها هي صورة كائن غير ذي كلمة مسموعة ولا إرادة مفروضة عن الوالد في حكاية(البقرة «سوداء») يظهر مسلوب الإرادة، ومنعدم الشخصية، يأتمر بأوامر زوجته، مثله في ذلك كمثل والد (عقلة الأصبع)، وكلاهما معا وجوده والعدم سواء وبالتالي نتبين أن الوالد الميت في حكاية (سندريلا) يتساوى مع الوالد الحي المسلوب الإرادة، والمنفذ لما تأمره به زوجته الشريرة من تشريد وتنكيل لفلذات كبده وبهذا تؤكد الحكاية انها إبداع نسائي بامتياز، وأن الغاية المتوخاة منها هي إبراز وتجلية الدور الرئيس الذي تؤديه الأم في حياة أبنائها الحكاية بهذا المعنى قادمة من الزمن الأموسي ولا صلة لها بالزمن البطريركي، فهي تعلي من شان الأمومة، بما أن الأم هي التي تنجب، وتحضن وترعى من أنجبت، فتضمن له الحياة والاستمرار في الوجود ولعل هذا ما سعى على تلخيصه أسلافنا المغاربة في قولهم المتداول حتى اللحظة: (إلى مات لبات وسد الركبة، وإلى ماتت الأم وسد العتبة)

الأم هي عماد الأسرة، فهي ضامنة نظامها واستمراريتها، لأنها الموفرة لقوت أبنائها، والحاضنة لهم ولوالدهم بحب وعطف وحنان. وهي بهذا تشترك مع الطبيعة، إذ الطبيعة هي الأخرى عماد الوجود الإنساني، ونظامها عماد أساس في ضمان استمراريتهم، إذ هي التي تتكفل بتوفير ما يحتاجونه من أساسيات وجودهم المادي، السنا نقول «الطبيعة الأم  Mère Nature». وهكذا، فإذا كانت حكاية (البقرة «سوداء») قد انصاغت نشيدا احتفاليا واحتفائيا بالأم، فإن حكاية (أحجية الذبابة) تحتفي وتحتفل بالنظام البيئي الطبيعي، وتسعى لتعليم متلقيها أن أيما إخلال بمكون من مكونات هذا النظام الطبيعي يؤدي لا محالة إلى انهيار جميع المكونات الأخرى، كما تلقنهم أن جميع هذه المكونات تتساوى في القيمة، فليس هناك مكون طبيعي أقل شأنا من غيره من المكونات الطبيعية الأخرى، إنها تتساوى وتتكامل في انسجام وتناغم، حتى إذا حدث ما يخلخل ذلك النظام فإن تلك المكونات تتداعى متهاوية ومنهارة في تتابع. فسارد حكاية (أحجية الذبابة) يروي لقرائه ما يرويه الجد على مسامع حفدته. وما يرويه هذا الجد هو مجموعة من الأحداث، بعضها متعلق بالبعض الآخر. وذلك لأن ما يجمع بينهما يتمثل في العلاقة السببية: وهي العلاقة التي تقوم على وجود (فعل سبب) يترتب عليه ظهور (فعل نتيجة)، ويصير (الفعل النتيجة) بدوره (فعلا سببا) يفضي إلى بروز (فعل نتيجة) يغدو بدوره (فعلا سببا) وهكذا دواليك… وإن هذا لهو ما تقدمه حكاية (أحجية الذبابة)، لتبرهن لمتلقيها أن عناصر الطبيعة تتشابك وتتواصل فيما بينها، ومتى تأثر أحد هذه العناصر سرى انفعاله وتضرره في مجموع العناصر الأخرى مباشرة او بطريقة غير مباشرة:

السبب الأول: تقيح دمل في رجل الذبابة، فاحتاجت لمساعدة الحداد،

النتيجة الأولى/السبب الثاني: استعمل الحداد مخرزا فقع به دمل الذبابة،

النتيجة الثانية/السبب الثالث: رش القيح رأس الثعبان،

النتيجة الثالثة/السبب الرابع: غضب الثعبان فالتف على صلب الحداد،

النتيجة الرابعة/السبب الخامس: ارتبك الحداد ونشر شرار ناره على العشب،

النتيجة الخامسة/السبب السادس:احترق العشب فأتت السحابة لإطفاء الحريق،

النتيجة السادسة/السبب السابع: بلل المطر جحر النملة فتعفن مخزون الحبوب داخله،

النتيجة السابعة/السبب الثامن: أخرجت النملة الحبوب ونشرتها لتجف، فجاء أبو منقار وأكل منها،

النتيجة الثامنة/السبب التاسع: تعفن منقار الطائر فاستعمل صخرة لتنظيفه،

النتيجة التاسعة/السبب العاشر: اغتاظت الصخرة فقررت شكواه إلى محكمة السلطان،

النتيجة العاشرة/السبب الحادي عشر: تدحرجت الصخرة متجهة إلى محكمة السلطان، ومن فرط سرعتها اصطدمت بجرة ماء السلطان الكبيرة،

النتيجة الحادية عشرة/السبب الثاني عشر: اغتاظ السلطان فأمر حراسه بإحضار الجاني.

وأمام محكمة السلطان سيتم تقديم الجناة بالتتابع، بدء من الصخرة، مرورا بالطائر أبي منقار، والسحابة الممطرة، والنار المتقدة، والثعبان، والحداد، فالذبابة التي قالت مخاطبة الحاضرين والمسرود لهم: («أيها السلطان وأيتها المحكمة الموقرة. لقد مرضت ذات يوم، واضطررت إلى أن أذهب إلى الطبيب، فما هي مشكلتكم؟وزنننننننن» طارت الذبابة وتركت وراءها السلطان وأعضاء محكمته بين غاضب ومتعجب وهم في محنتهم يعمهون.)

ونخال أن بهذه الخاتمة الساخرة رامت هذه الحكاية تأجيج السؤال المعرفي عند متلقيها، منبهة إياهم إلى أن جميع الكائنات، كبر شأنها أم صغر، تتساوى قيمتها في حضرة الطبيعة، فإذا هي أصيبت بمرض ما كانت سببا في انتشاره بين باقي الكائنات الأخرى: (البشر يمثلهم الحداد والسلطان+ الحيوانات تمثلهم الذبابة والطائر أبو منقار والثعبان+ والظواهر الطبيعية مشخصين في النار والسحابة والصخرة). وكأننا بمبدعي هذه الحكاية قد كانوا على وعي حاد بما يعرف عند علماء الحياة والأرض باسم النظام البيئي L›écosystème. أليس بإيقاد فعل التساؤل والاندهاش عند الأطفال نشرع أبواب التعلم، ونوقظ عندهم تلك الرغبة الضرورية من أجل اكتساب المعرفة؟ وهذا هو ما جاءت من أجل إنجازه هذه المجموعة التي اختار لها صاحباها عنوانا:»قصص قصيرة من قلب أفريقيا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق