سلايدرسياسة

السودان … رؤى تُقّعِد جوهر المتغير التاريخيّ

إعادة إنتاج الأزمة

مصطفى يوسف

يواجه الفكر السوداني منذ فجر استقلاله المبكر، باختلاف سِيره، توجهاته، أنماطه وتباين رسائله إشكالات جوهريّة وتحديات مفصليّة عميقة يصعب في سياق هذا المقال فحص بنية نواتها بإسهاب؛ حملها – في اعتقادي – الجين (العامل الوراثيّ) الذي أُقعِد دون أن يؤسس بمقدرة، ومسؤولية وحكمة راسخة مناخ معرفيّ مبتكر يمكنه أن يخترق دون لائ حاجز الخوف ودرع الجهل الذي استوطن بتردد متضرد في كل أنحاء بلاد النيل وبنى بها بيتا وخيمة.

لقد أستولد هذا الجين وبنى بأدوات مختلفة جداراً منع في وقت مبكر جدا الاقتراب من قضايانا الجوهرية الملحة بل والأبجديّة في صناعة وطن معاف من الأمراض، مما يحتم علينا الآن أن نستحلب رؤى تقعد لمتغير تاريخي يجيب ويفك بموضوعية طلاسم النقص في العلاقة الأزليّة، فلسفة وتأريخيا، بين «الأنا» و»الآخر.

ذلك مما ورثناه وأفر موروثها وإفرازاتها، في جميع أوجهها الاجتماعية، بيت القصيد، الاقتصادية، والسياسية، وهي قطب الرحى.

تأخذ الظاهرة في الأصل أبعاداً أخرى، تشكلت معها وفق معطيات أكثر عمقاً، لتوافر جملة عوامل، أهمها، الفشل بعد الاستقلال في تأسيس دعائم وأركان وملامح نظام سياسي، يتوافق والتركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويفي بالطموحات، ويجهز مبكراً لتلبية متطلبات، احتاجت لفكر استشرافي ثاقب، ينفذ عبر الزمن، إلى جانب ابتعاد الجامعة عن دراسة قضايا ومشكلات البلاد بالبحث المتعمق، والتزامها إطارا أكاديمياً ضيقاً، وبالتالي فشلها في ترسية مكون، ينتهج الأسلوب العلمي في مواجهة القضايا المركزية، وحتى في الحالات التي اقتربت بها من التأليف في مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع، جاءت أغلب مخرجاتها باللغة الانجليزية، وأقصد هنا تحديداً جامعة الخرطوم، فبدا هذا الناتج وكأنه معلق في فلك آخر، يدور في أفق الصفوة، والمختصين، مفصولاً عن العامة، ما يعني انتفاء أو ضعف تأثيره ومن ثم عدم الاستفادة منه بالقدر الكافي في تشكيل وعي جمعيّ، يعمل كحائط صد أوليّ ضد الانعطافات، ويعين الدولة  من ثمّة على تعديل المسار، بل وأنه يضع اللبنات الأساسية لبناء النهج والسبيل، في ظل انعدام تام لمراكز البحث والدراسات الجادة، التي تجتذب خزانات التفكير، المتمكنة من التنظير والتقعيد، لامتصاص تجاربها، في حلحلة المشاكل، بمنهجيات بيداغوجية وعلمية، وهو ملمح يسم الحياة السياسية في السودان ختى  اللحظة، وفشل النخب في التصدي الجاد لإرساء مفاهيم معتبرة ، بإسهام فكري منظم، لمواجهة ما يعترض المسيرة من تعقيدات، تبدت مع الزمن وكانت تحتاج لجهد جمعي، ما أدى وكنتيجة حتمية، إلى الدوران في حالة الفراغ العدمي وعدم القدرة على الخروج من تلك الدائرة الشريرة ، ديمقراطية – عسكرتارية.

ولقد اسهم هذا بديهياً في أن تصطبغ الحياة السياسية العملية والنظرية  بالتخبط واللامنهجية، ما أدى لأن يتناقض الأداء مع النظرية، ماترك التجربة نهباً لافتراضات وتغولات فكرية، وحزبية، وذاتية ضيقة، بل وعسكرية، أسست لبنية التدهور وقوضت مايبذل، فنتجت عنها حالة اللا استقرار المعهودة، التي وسمت الحياة منذ أن نالت البلاد استقلالها في 1/1/1956م. ينسحب هذا الملمح على (الحيوات) الاقتصادية والاجتماعية، التي تُلقي بظلالها على السياسية، وهي لا تزال أرضاً بكراً، تركت نهباً لافتراضات وصياغات ألقت عليها بظلال سالبة، وتحتاج لأن تمتد لها يد العلمية المنهجية، بجهد مرسوم مقصود، لتؤسس لفهم يعالج قعودها التاريخي المستمر.

لا يبدو أن الزمن يسمح خلال الفترة القريبة القادمة، بأي انبنثاقات تعالج جذور الأزمة وتجاوب على الأسئلة الضروية، وليس هذا من باب القنوظ أو بث وإشاعة روح الاحباط، إنما هو معطى تاريخي، تتوافر حيثياته في الأفق بكثافة، لكن قد تبدو الفرصة سانحة لتهيئة بيئة مناسبة، تعمل كبوتقة جذب لترسية رؤى للبناء وتشكيل الوجدان القومي، بالإتفاق ولو مرحلياً على جملة من الأسس الكفيلة بتأسيس قدرة موضوعية، يستفاد منها لاحقاً في بلورة صياغة شاملة لحلول لا أقول تقتلع المشكلة، بل تتصدى لها على أقل تقدير، بالتنظير خارج الأطر المقولبة التي اعتاد الفكر السوداني أن يضع نفسه في أطرها. 

غاب في الماضي عنصر اليقظة والتوهج، وأنعكس ذلك في صراع اتخذ عدة صور وصيغ، لوجود وتوافر الأسباب الموضوعية له، وأد أي توجه أو جهود كان من شأنها أن توجه البوصلة بدقة نحو الوجهة السليمة، فكان ذلك الدوران المتواصل في دائرة العدمية الجهنمية.

إن الفعل الراهن بفرض حالة الديموجاجوج والغوغائية ورقصة الهياج التي يحاول البعض العمل على صبغ المشهد قسرياَ بها، وجر الآخرين إليها، في حالة هروب (نعامية) بسبب عدم القدرة على الإسهام الفاعل في الإجابة على الأسئلة المفصلية، هي استمرار لإعادة إنتاج الأزمة في تشكلاتها التاريخية، الأمر الذي يتطلب أعلى درجات اليقظة والانتباه.

تبدو اللحظة فارقة، يستلزمها الإحساس بعظم توافر مكون جديد، يسهم في إدارة التنوع بمضمون يتجاوز مثالب وعثرات الماضي، ويضع لبنات وأسس بدت الآن في الأفق، تهيئ لأرضية صلبة لإذابة الفروق وتشكيل الوجدان القومي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق