سياسة

السودان وأسرار في عمق المشهد تنذر بالكوارث

بكر السباتين

بين ظاهر المشهد السوداني وأعماقه السحيقة تتراءى للمراقبين خيوط اللعبة الدولية التي تستهدف وحدة السودان ومنعته.. وهذا ليس كلاماً عبثياً من وحي فوبيا المؤامرات؛ بل حقائق لها شواهد على أرض الواقع.. تلوح أشباحها وتختفي تاركة وراءها أسئلة عقيمة لا تجد لها أجوبة في عقول السودانيين إلا من حظي بالحكمة السديدة والرشاد.

المشهد السوداني في ظاهره جاء على النحو التالي:

فقد أعلن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، حالة الطوارئ، وحلّ مجلس السيادة، الذي كان يشرف على الانتقال إلى حكم مدني، ومجلس الوزراء. في انقلاب عسكري، أدّى إلى إعفاء ولاة المدن.

ووصف البرهان تحرك الجيش بأنه ليس انقلابا، إذ كان الجيش يحاول تصحيح مسار الانتقال السياسي، حسب تعبيره., وهذا حدث متوقع في بلد تتحاذفه الكنبات التي تغذيها إرادة أمريكا وحلفائها في الإقليم.

وحصلت مواجهات أدت إلى حملة اعتقالات في صفوف المحتجين على الانقلاب، ما أدى إلى اتخاذ قرارات مناوئة للانقلابين من قبل منظمة الاتحاد الأفريقي الذي جمد عضوية السودان إلى حين تسليم السلطة للمدنيين، في الوقت الذي أوقف فيه البنك الدولي مساعداته للسودان بسبب الانقلاب على الشرعية.

أمريكا من جهتها أطلقت على «الانقلاب» مفهوم «الاستيلاء» للتخفيف من حدة الوضع وتبسيط نتائجه على الأرض، وكونه انقلاباً عسكرياً على الديمقراطية ما جعل الشارع السوداني يقف ضد السلطة العسكرية الطارئة، فيما تنتظر تل أبيب النتائج على الأرض لتتعامل مع الأقوى، ومن المؤكد أنه البرهان نفسه؛ ما يوحي بأن الوضع السوداني الراهن تم ترتيبه ليتوافق مع الطموحات الأمريكية في خلق فوضى مستدامة في السودان لتمرير اتفاقية التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وتنفيذ مشروع تقسيم السودان وطبخ الموضوع على نار هادئة.. لذلك فأمريكا من جهتها استخدمت كلمة «الاستيلاء» بدلاً من» الانقلاب» ما يوحي بأن الوضع السوداني الراهن تم ترتيبه ليتوافق مع الطموحات الأمريكية في جنوب النيل المتصدع.

 وعبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني هو رجل أمريكا والصهيونية في السودان، وكان البرهان قد التقى وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق في أوغندا في الثالث من الشهر الجاري، وأثبتت الوقائع والشواهد التاريخية في المنطقة العربية قاطبة أن المخططات الإسرائيلية لم تكن لتنجح في أي دولة في العالم دون وجود أذرع محلية وعملاء مأجورين تحركهم مصالحهم الضيقة على حساب دولهم.. والسودان بقيادة البرهان لا يخرج عن هذا السياق.

 لقد أدت التدخلات الخارجية المشبوهة إلى انتشار الفوضى في البلاد وما رافقها من تعثر في التنمية المستدامة وتشرذم قبلي لم تشهد له البلاد مثيلاً.

السودان الذي كان الحاضن لقمة اللاءات الثلاث عام 1967: «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض» مع الكيان الصهيوني طالما أن حقوق الفلسطينيين مازالت مغتصبة..  شكل هاجساً أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي وأكد صحة مخاوفها من السودان، فاتفاق العرب على أجندة واحدة وتضامنهم ووحدتهم يعني انتهاء حلم إنشاء دولة إسرائيلية.

وفي سياق متصل، فإن الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير رغم فساده إلا أنه كان يشكل تهديداً لدولة الاحتلال، لدعمه اللوجستي للمقاومة في قطاع غزة وبخاصة حماس، وكان على وفاق مع إيران رغم تعامله معها بحذر: لذلك تم الترتيب للإطاحة به وسجنه بتهمة الفساد، ومن تحت العباءة نفسها خرج البرهان وزمرته الانقلابية ليثبت ذلك بأن انقلابهم كان مدعوماً من قبل الحليفين نتنياهو وترامب

ولفهم ما يجري في السودان بالعمق لا بد من العودة إلى مشاريع تقسيم السودان، ولنبدأ بالخرائط التي وضعها المستشرق والمؤرخ الصهيوني البريطاني الأصل برنارد لويس صاحب أول مخطط لتقسيم المنطقة العربية وصاحب نظرية:

 «أن الاستعمار للشعوب العربية نعمة تخلصهم من آفة الجهل والتخلف التي زرعتها الأديان السماوية ولاسيما الإسلام».

اعتمد برنارد لويس في التقسيم على الطوائف والأعراق والمذاهب، وكان الغرض من التقسيم هو مزيد من التفتيت حتى لا تكون للمسلمين دولة واحدة كبيرة أو قوية.

وكان نصيب السودان من هذه الخرائط، تقسيمه إلى أربعة أقسام: جنوب السودان، النوبة شمالاً في العمقين المصري والسوداني، دافور جهة الغرب، ثم بقية السودان في المنتصف.. وقد نجح المشروع الذي تبناه الإسرائيليون جنوب السودان بفصله عن الوطن الأم، أما دافور ففي طريقها إلى الانفصال، بحيث يبقى السودان مرشحاً لتقسيمات أخرى قد تتجاوز رؤيةَ لويس الاستعمارية، وقد وافق الكونغرس الأمريكي على هذه الخرائط التقسيمية عام 1983مع وقف التنفيذ الشكلي والاستمرار في تنفيذها سراً ليتم تمريرها بسهولة.

وتأكيداً على تبني دولة الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ مخطط تقسيم السودان، أحيلكم إلى محاضرة شهيرة لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق آفي ديختر ألقاها في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في الرابع من سبتمبر 2008 حيث تحدث ديختر فيها عن السودان، وأكد عبرها أن حلفائهم في الجنوب «يقصد جنوب السودان» قادرون على تنفيذ أجندة « إسرائيل» في السودان وأن قدراً كبيراً ومهماً من الأهداف الإسرائيلية في السودان قد تحقق على الأقل في جنوب السودان، وهذه الأهداف تكتسب الآن فرص التحقيق في دارفور.

وفي تقديري بأن إرادة الشعب السوداني قادرة على إفشال كل المؤامرات على السودان.. وبالتالي إرغام الانقلابين على تسليم السلطة لمجلس مدني يكون قادراً على تحمل المسؤولية باقتدار وفي أجواء تسودها الديمقراطية الحقيقية، دون أن يقدم تنازلات إزاء أي ضغوطات تمارس على البلاد في سياق لعبة الأرنب والجزرة.. السودان يستحق الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق