خارج الحدود

صورة الإسلام في ألمانيا… رهاب الاِسلام “إسلاموفوبيا” (2)

مفاهيم متباينة وخيارات سياسية للتعامل

هاينر بيليفيلد   Heiner Bielefeldt

تقديم وعرض حامد فضل الله – برلين (أوراق ألمانية)

وأخيراً ليس ثمة مفهوم سياسي مهم كمفهوم حقوق الإنسان يمكن أن يكون محمياً من عدم استخدامه استراتيجياً. وإن القصد من التنبيه في استخدام مفهوم رهاب الإسلام بشكل مبالغ فيه إنما هو مناسبة للاحتراس من استحسان التحالفات التي تقود إلى الجانب الخاطئ. إلا أن ملاحظة سوء استخدام المفهوم وحدها لا تقدم سبباً كافياً لشطب المفهوم عموماً من القاموس السياسي المستخدم لمجتمع حر.

3– الخط الفاصل بين الاستفزاز والتجريح 

إن صياغة المواقف النقدية سواء كانت بصورة استفزازية، مستقطبة أو حادة، يجب أن تكون ممكنة في مجتمع حر. 

هذا المفهوم الواسع والصريح لحرية الرأي ينسحب أيضاً على ما يسمى بالموضوعات الدينية التي لا يجوز عزلها عن أو استثناؤها من الجدل. بل إنها تمثل أحد الموضوعات المشروعة للكاريكاتور والمسرح الهزلي. أي أن من الخطأ الادعاء في هذا الصدد بأن ثمة توتراً بين حرية الرأي وحرية الدين. إن حرية الدين لا تعني “حصانة تشريفية” للأديان وإنما تضمن حرية الناس في مسائل الدين أو الرؤية الدنيوية ليحددوا بأنفسهم الطريق الخاص الذي يسلكونه، سواء فرادى أو بالاشتراك مع آخرين. وقد بينت المحامية الباكستانية أسماء جاهانغير المقررة الخاصة لحرية الدين التابعة للأمم المتحدة، في تقريرها أن حرية الدين وحرية الرأي هما حريات فكرية تواصلية ذات ارتباط وثيق ويجب عدم الايقاع بينهما معنوياً. 

من يدعوا إلى رقابة بدوافع دينية مثلما حدث في سياق النزاع حيال كاريكاتير النبي محمد، عليه أن يقبل اللوم بأنه لم يفهم حق الإنسان في حرية العقيدة كحق طبيعي. 

وفي الحقيقة فإن الحق في التمتع بحرية الدين لا يعتبر بلا قيد. فالإمكانيات المحددة المتضمنة في الدستور والاتفاقيات العالمية لحقوق الإنسان تفسَّر بلا شك بصورة ضيقة. ويمكن العمل بها على أساس قانون رسمي فقط بشرط أن تكون متفقة مع مجتمع حر ديمقراطي وتخدم بذلك أغراضاً شرعية ضرورية نسبياً وملائمة للوصول إلى هذه الأغراض.

ان العقوبات القانونية ضد التصريحات الجماعية المتعلقة برهاب الإسلام ممكنة في مثل الحالات المتطرفة والغريبة. كذلك توجد إمكانية متابعة الأمر قضائياً في حالات الإهانة الفردية الشخصية. ولكن عموماً يجب ترك ذلك القرار للمرء في ما إذا كانت أقوال معينة عن المسلمين منصفة أو غير منصفة، معقولة أو متجاوزة حدها، منتقدة للإسلام أو تمثل رهاباً حياله، كخلاف في الرأي السياسي. وبعبارة أخرى: يجب دائماً وأبداً العمل على التواصل داخل الجدال العام حتى وضع الحد الفاصل بين نقد الإسلام ورهاب الإسلام. ولا يتعلق الأمر في هذا الجدال العام بوضع شرط لحدود حرية الرأي يمكن تنفيذه، سواء أكان ذلك عن طريق القانون أو القضاء، بل بتطوير إحساس داخلي للاستخدام العقلاني لحرية الرأي. لا شك في أن الأمر سيبقى في حالات كثيرة خلافياً: إلى أين يتجه الحد الفاصل بين الاستفزاز المقبول وبين التجريح المكشوف. 

إن إزالة الفرق بين نقد الإسلام ورهاب الإسلام، كما يمارسه باستمرار الإيديولوجيون الإسلامويون يقود في النهاية إلى دليل معاكس. إذ يعني هذا في الواقع أن تعطى المنظمات الإسلاموية حق احتكار التشدق بمفهوم رهاب الاسلام مشحوناً بكلمات التفرقة العنصرية. وهذا الواقع نفسه يعاني منه كثيرون من المسلمين. 

ومن يرغب في فتح جبهات صراع ثقافي واضح لعله يرحب بهذا. بيد أن هذا لن تكون له نتيجة تؤدي الى نقاش ثقافي تنويري. من يفصح تماماً عن مناقشات مفتوحة، ويحذر لأسباب وجيهة من مزاعم رهاب الإسلام، لا يستطيع من جهته أن يطالب بتحريم مفهوم رهاب الإسلام. فمن العسير في حالات شتى وضع حد بين نقد الإسلام ورهابه أو وضع حد بين الاستفزاز والتجريح. 

IV استنتاجات

تتعاون جهات كثيرة على تقديم صورة عن الإسلام في ألمانيا: المدارس والمؤسسات التربوية الأخرى، ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية ، وفروع علمية مختلفة، ومنظمات المهاجرات والمهاجرين، والكنائس المسيحية والطوائف الدينية الأخرى، ومن بينها الروابط الإسلامية نفسها أيضاً، وأخيراً بالمعنى الواسع كل أولئك – مسلمين أو غير مسلمين- الذين يساهمون في النقاش الإسلامي الحالي أو يستطيعون على أية حال المشاركة فيه. والدولة تتحمل مسؤولية خاصة تأتي إليها من توصيات الحقوق الدستورية وحقوق الشعوب، وتقع عليها كذلك مهمة ضمان حقوق الإنسان ومنع التمييز. وينبغي على الدولة نتيجة لذلك، وقبل كي شيء التصدي بفعالية للتفرقة والتحيز والمفاهيم النمطية المساندة ويكون ذلك بتجاوز أسبابها الاجتماعية. وهذا يشمل سياسة الثقافة والتربية مثلما يشمل سياسة الأمن الداخلي وقانون الإقامة، وكذلك سياسة التجنيس أو التشريع المتعلقة بالرموز الدينية في المدارس العامة، وأخيراً إصدار تشريعات ادارية لمنع التفرقة العنصرية عامة. في كل هذه ومجالات أخرى يمكن لإسهام الدولة أن يذلل المخاوف القائمة إزاء الإسلام أو يؤكدها.

1- الإسلام كجزء مُسَلم به في المجتمع الألماني 

أن كل الجهود للتغلب على التقاليد النمطية التي تدعو إلى رهاب الإسلام يجب أن تبدأ بالاعتراف بالحقيقة البسيطة بأن الإسلام أضحى جزءاً دائماً في المجتمع الألماني. ومن المعروف أن هذا الواقع كان مكبوتاً حتى تسعينيات القرن الماضي.

ساد اعتقاد في ألمانيا منذ عشرات السنين وعلى كل الصعد بأن الإسلام يمثل هنا “دين العمال الضيوف” ولذلك لا يجب أن يكون اندماجه المستمر في المجتمع موضوعاً ويضرب المثل في ذلك بالمساجد التي تقع في الفناء الخلفي وعلى هامش المجتمع والتي ينظر اليها كرمز للتزود الديني الذاتي وبدون أفق للاستمرارية.

لقد ساد تقلب الفهم في المجتمع بصورة واسعة في السنوات الأخيرة قبل المؤتمر الإسلامي الأول الذي دعا له وزير الداخلية شويبله والذي عبر عنه كالآتي: في بلدنا يعيش ثلاثة ملايين مسلم كجزء ثابت من مجتمعنا ولكن ليس لدينا علاقة بالجمعيات الإسلامية المتنوعة. لدى الاعتراف السياسي بواقع الحياة الإسلامية الدائم يجب ألَّا يحدث موقف مزدوج. وليس حول النقاشات المبدئية التجريدية ما إذا كان الإسلام يتكيف في النظام الاجتماعي الغربي أو يتلاءم عموماً مع نظام قيم مجتمع ليبرالي ديمقراطي فهذه لا تساعد كثيراً ولكنها يمكن أن تطلق إشارة ذات تأثير خطير عندما توحي بأن هناك طرقاً سياسية مسؤولة تعتبر وجود أقلية اسلامية في ألمانيا محل تساؤل ويمكن عملياً إعادة النظر فيه. إن ما أورده شويبله من إدراك بأن المسلمين ” يشكلون جزءاً ثابتاً في مجتمعنا” هو موقف لا رجعة عنه. ولذلك فإن المواقف السياسية التي تثير زوابع من شكوك غير مسؤولة.

إن الاعتراف بوجود الإسلام في ألمانيا يتضمن أيضا الاعتراف بممارسته العلنية. فالدين في مجتمع حر ملتزم بحقوق الإنسان لا يعتبر مسألة شخصية، على عكس الحكم المعمم. وما إمكانية علنية الممارسات الدينية والحياة الدينية إلا جزء من الحق الدستوري والقانون الدوليّ المرتبط بحرية الدين.

ان الاعتراف بالتواجد الدائم للأقليات المسلمة تتبعه أيضاً المساعي الحالية المتعلقة بإدخال تدريس الدين الإسلامي في منهاج التدريس كمادة نظامية معترف بها رسمياً. 

كما أن النقاش المتعلق باندماج الأقليات المسلمة يضع لهذا الموضوع موقعاً عالياً ممتازا ولأن اللحظة الحاسمة فيه تتعلق بتطور الإسلام على المدى البعيد في ألمانيا وكيفية إيصال الدرس الديني والتطبيق الحياتي من جيل إلى جيل.

إن إدخال دروس الدين الإسلامي في المدرسة يعتبر عند كثيرين من أولياء المسلمين أمنية مهمة. ومنذ سنوات تناضل الروابط الإسلامية أيضاً في سبيل تقديم دروس الدين الإسلامي باللغة الألمانية. 

وعلى أساس مبدئي، أصبح درس الدين الإسلامي في الوقت عينه حقل اختبار لمدى نجاح البنى التعاونية القائمة ما بين الدولة والهيئات الدينية التي تطورت تاريخياً مقابل الدولة إلى كنائس مسيحية في الانفتاح على التعددية الدينية الناشئة وفسح حيز مناسب أمام الإسلام الذي أمسى ديناً مستوطناً في هذا البلد. 

2- الإدراك المتنوع كواجب منصف

لم تؤخذ في الثمانينيات الاهتمامات الدينية “للعمال الأجانب” مأخذ الجد. بل شرع الناس في ألمانيا منذ التسعينيات يعتادون على المهاجرين والمهاجرات، وعلى “خصوصياتهم” الدينية الثقافية (الموهومة أو الحقيقية) ويدركونها بخاصة. وتعتبر هذه خطوة إلى الأمام بقدر ماهي خطوة إلى الوراء في الوقت عينه. آنذاك حل محل التجاهل تجاهل آخر يركز أحادياً على الدين والثقافة. وأدى هذا من ناحية أخرى إلى أن معضلات سياسة الاندماج متنوعة الأسباب فُسِّرت تكراراً وبتسرع وكأنها تعبير ثقافي ديني غريب. وبهذه البساطة يفسَّر تركز عائلات المهاجرين في مناطق اجتماعية معينة وكأنها نتيجة “مجتمع إسلامي مواز”.

وما أن يأتي دور الإسلام حتى يواجه برأي جلي وشائع يزعم أن الدين والثقافة من أهم أسباب الاستبداد العائلي والجنوح إلى العزلة. 

لكن المطالب المشروعة لتغيير بنية العائلة الاستبدادية الأبوية سرعان ما تتحول إلى صراع حضاري ضد الإسلام. هذه القوالب الجاهزة لا تفيد، لأنها تقوي الخوف النمطي من الإسلام فقط. ومن المهم عدم عزل العوامل الثقافية والدينية عند مناقشة قضايا الاندماج وإنما ربطها دائماً بعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. ويتبع الرؤية المتنوعة أيضاً الاستعداد لأخذ الفوارق الإسلامية الداخلية باهتمام أكثر والإفصاح عنها لغوياً. أما في ألمانيا فتنحصر التعددية الإسلامية الداخلية في فوارق مذهبية كلاسيكية (السنة – الشيعة، العلويون والأحمدية الخ..). ولا تقل من ناحية أخرى أهمية الممارسات اليومية.

ورغم أن هذا التنوع معروف مبدئياً منذ فترة طويلة، إلا أن المشكلة تبقى قائمة. فهذا التنوع يكتسي دوماً بخصوصية استدلالية لأنه يمنح الأشكال الكفاحية الاستبدادية اهتماماً عالياً بزعم أن الجوهر الإسلامي يتجلى فيه.

إن على مبادرات الحوار الثقافي الديني أن تتعايش من جديد، وترى أن نتائج العمل المبني على الثقة منذ سنوات يمكن أن يتبدد في وقت قصير عبر الأخبار السلبية والشائعات. ولمواكبة عمل من هذا القبيل لا بد من ضبط النفس وقوة الأعصاب. 

ورغم أن الاحتفاء بواجبات أساسية ومتأنية عسير في إطار مجادلة استقطابية معقدة، إلا أنه ليس هناك بديل مقنع للجهد على توخي الدقة والتمايز. فمعرفة الفروق الإسلامية والتعددية الإسلامية الداخلية أثناء ذلك ليس واجباً فقط من أجل الدقة التحليلية. إذ أن الأهم من ذلك هو أن الأشخاص المشمولين أساساً كفاعلين عليهم أن يتحملوا إدارة حياتهم على مسؤوليتهم الخاصة، وليس كممثلين “لعقلية” دينية ثقافية مزعومة وثابتة. وهذا قياس لكل تنوير يلتزم بثقافة الجدل.

فمن وجهة نظر حقوق الإنسان، بألا ينظر إلى أعضاء الأديان أو الجماعات المختلفة كمجموعات متجانسة، بل ينبغي أن يكون هذا الاختلاف أمراً مسلماً به فيما يتعلق بالمسلمين أيضا.

3- الدستور كأساس بديهي للتعايش

ليس أقل بداهة من الاعتراف بحضور الإسلام المستمر في ألمانيا الإدراك أن الدستور يقدم الأساس المعياري للتعايش في هذا المجتمع. ولدى صياغة هذا الإدراك في الأساس يحدث مراراً فهم مبتذل ويؤدي إلى استنتاجات خاطئة. وهذا يحدث من إقرار المرء بأن صياغة النظام الدستوري كمطلب سياسي وموجه بصورة خاصة للمسلمين. وغالباً ما يتفاعل المسلمون الليبراليون مباشرة وعلى نحو غاضب حينما يأخذون انطباعاً أن أحداً يريد تدجينهم على قيم الدستور الحر ويلزمهم مرة أخرى به على الأخص .

ان النداءات ذات الدافع السياسي المتعلقة بالاندماج والداعية إلى “الحوار مع الاسلام” تكاد تكون غير فاعلة. فالمراهنة على التواصل مفيدة دائماً في الأساس. لكن ارتباكاً وإحباطاً، وربما شكوكاً متبادلة جديدة بالنتيجة قد تنشأ إذ وضع الدستور في مواجهة القرآن في ندوات الحوار بغية الدخول على هذه الأسس في الحديث. فالدستور يمثل حينئذ بالضرورة وثيقة متناقضة مع القرآن، وثيقة لتأكيد الذات السياسية – الثقافية للأكثرية المسيحية على حساب كونه أساساً قانونياً للعيش المشترك. وإذ يوضع القرآن في مواجهة الدستور مقدماً كأنموذج بديل، تلقى إذ ذاك على عاتقه مهمة تفعيل التأقلم السياسي الثقافي مثلما يظهر ذلك في الكتابات الدعائية للايدلوجية الإسلاموية. وحينها تكون للحوار إذاً مهمة متناقضة: إما التغلب على العوائق الثقافية المتمخضة جزئياً عند صياغة أهداف الحوار أو تعميقها عن غير قصد .

إن من البديهيات أن يبلور الدستور الأساس المعياري للتعايش في مجتمعنا المتعدد. وهذه البديهية يجب أن تجد تعبيراً لها بتجنب تكرارها دوماً وبإلحاح أمام المسلمين، أو كهدف يشكل مقاصد الحوار التفافي المتداخل.  فحيثما توجد أسباب للشك في عدم الوفاء للدستور من قبل بعض المجموعات أو أفرادها ينبغي أن تخاطب هذه المجموعة بصورة محددة دون أن يعمم هذا على “الإسلام” أو المسلمين القاطنين في ألمانيا. وبالقياس فان التهمة الموجهة للمسلمين الذين يعيشون هنا بعدم الولاء للدستور السياسي لا تختلف عملياً عن اتهام أفراد مجتمع الأغلبية غير المسلمة. فهذا لا يمت بصلة للغبطة “الساذجة متعددة الثقافات” التي تغمض العيون أمام مخاطر ملموسة للمجتمع المنفتح. وبدلاً من ذلك فإن الأمر يتعلق بالفهم الجوهري القائل إن الصراع من أجل المجتمع المنفتح قد ضاع إلى حين، عندما تفشى منطق الشك، الذي يصادر من الأقلية كل فرصة كشريك يُصغى اليه في الخطاب العام.

Heiner Bielefeldt,“ Das Islambild in Deutschland: Islamophobie – konzeptionelle Kontroversen und politischen Handlungsoptionen“, Deutsches Institut für Menschenrechte (2007)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق