سلايدرسياسة

السيول والفيضانات في السودان (1)

د. حسن حميدة (ألمانيا)

فقد ودمار:

لنترحم أولا على الفقد الجلل في ربوع البلاد بسبب السيول والفيضانات. حالنا كما هو حال الجميع في الرحيل المفجع. بالأمس وصل خور أبو حبل، بعد أن غادر خزان الرهد أبو دكنة “تردة الرهد” إلى محلية تندلتي. غادر النهر الموسمي أرض كردفان، متوجها إلى مصبه في النيل الأبيض. وفي طريقه مر ببعض القرى الواقعة في المنطقة قبل دخوله لتندلتي. سحق الخور في طريقه قرى كل من رجل زغاوة، أم قديحات، أم حجر، والأعوج. وبوصوله لتندلتي في ليلة الأمس، إختار قرابينه من خيرة شباب تندلتي وكما هو في كل مرة. لقد لقى بالأمس الإخوان عبد الله أحمد كدودي ووليد أحمد الأعيسر حتفهم في مياه الخور المتفجر. هؤلاء الإخوان والجيران الذين لا نعرف عنهم غير طيب الخلق والمعشر والمروءة والشهامة، سقطوا شهداء للماء. يعرف عن الإثنين بأنهم سباحين ماهرين، يهبون لنجدة الضعفاء وإنقاذهم من الغرق في الحفائر الترابية خلف المدينة، والتي تحفر في داخلها آبار لسقي الماشية، الشيء الذي يزيد من الخطورة حتى على أرواح السباحين من أبناء المنطقة. نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة في رحيلهم المفاجئ، وأن يلزمنا وأهليهم وأصحابهم الصبر الجميل.

ما زال هناك من يسكب الدموع لفقدان حبيب أو قريب أو جار في البلاد بكل مدنها وقراها. هذا الشيء الذي يحدث للأسف عند بداية كل فصل مطير بسبب الغرق أو انهدام المأوى الآمن. يأتي أحيانا الفقد لكل ما ملك الإنسان من مقام يأويه بسبب هطول الأمطار والسيول والعواصف الناتجة. هناك من يداهمه السيل وهو في الطريق، أو ينتحب بسبب برق خاطف يؤدي بالحياة. كله فقد، وما يتبقى للإنسان كعزاء غير الصبر الجم. الإنسان المؤمن بربه لا يخنع للظروف مهما قست، فهي تأتي لتقويه وتذهب كظل يحط ويتلاشى. علينا ألا ننكفئ على حالنا، بل نقوم لنؤسس من جديد. نؤسس المأوى الذي يليق بنا وبأسرنا. وإذا غلبنا في الأمر حيلة، فلنتعظ بالطير في سمائه، والذي يقاوم قساوة الطقس وموجات الرياح في أيام مطيرة وعاصفة، ليبني أعشاش تأويه من قوتها وعتاتها. وإنسان السودان ليس بهو ضعيف، وليس هو بمستهان (رجل كان أو امرأة). الإنسان الذي كان يأتيه الغزاة من أجل رجاله، وخلفهم يتغنين نساءه بأغاني الحماس.

نحن قوم نؤمن بميلادنا بالكرامات، السودان: أرض الكرامات، وأهل الكرامات بإنسانه. السودان هو رقعة الأرض التي هيئت بيئيا لذلك، الشيء الذي يتوجه ليكون بدون منازع سلة لغذاء العالم.. لقد ولت ثلاثون عام ونيف، سنوات جفاف عجاف، حففن بالذل والقحط والعدم في بلد يملك كل شيء. ها هو الغيث ينزل من السماء على الأرض مدرارا. أتى رحمة وطهرا، ليغسل الدنس والفساد الذي علق بنا من الظالمين والطغاة. هذا الغيث إن دل على شيء، يدل على أن السودان ما زال على وعده، بأن يصير مستقبلا المغذي الأول لدول المنطقة. هذا الغيث الذي لا يصدقه عقل متمعن، ويفوق كل تصورات الناظرين. الغيث الذي يحول رقع جرداء جدباء إلي أراضي صالحة للزراعة والرعي. إنه من الغريب أن يتمكن الإنسان من زراعة أي نبات أمام منزله، لينمو في غضون أيام قلائل. بل للمبالغة بأن يرمي الإنسان بصنارته أمام منزله ليصطاد الأسماك. الاسماك التي تحمل عبر الفيضانات، لتحل مكانها أمام البيوت. ربما كان رأي بعض الناس، أنها غير صالحة للتناول في العاصمة، ولكن من أراد أن يعرف صلاحيتها، فعليه سؤال سكان القرى على ضفاف النيلين الأبيض والأزرق.

تأتي السيول والفيضانات الحاصلة حاليا في البلاد مباغتة، بسبب ازدياد نسبة مياه روافد النيل الرئيسية في السهول والوديان. هذه الروافد تمتلئ بهطول الأمطار التي تتجمع في شكل برك مائية، تنشق لجداول مكونة لهذه الروافد. تتكون الروافد كما هو الحال في نظرية ” من الجبل إلى السهل” من الجبال والمرتفعات، كما هو الحال في جبال النوبة الذي ينشق منه خور أبو حبل، الذي يجري عابرا من هناك، مرورا بالرهد، ثم تندلتي، متخللا للقرى والبوادي حتى يصب في النيل الأبيض بكوستي. الخور الذي قضينا فيه أيام الطفولة وأيام الصبا. كنا نتتبع مجراه “عرقه” الذي يتخلل الوديان اليابسة كحبل متحرك بالتواء “حركة ثعبان”، لكي يصل لهدفه. والآن يزمجر هادر في تندلتي، بعد أن سحق قرى بأكملها في طريقه لبحر أبيض. سوف يأتي ويذهب، يأتي لنا بماء عذب، ويروي الوديان والحقول. وعلى دربه نزرع كل شيء، وكل شيء ينبت في غضون أيام ويأتي بأكله. وللذي لا يصدق: على أثره يرمي أهل القرى والبوادي بصناراتهم وشباكهم، ليصطادوا بعد أيام من جريانه وركوده أكبر وأطيب الأسماك في القحل. الحمد لله على كل جوده وعطاءه، وأي رحمة أكثر من كل هذا نبتغي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق