ثقافة وفن

نادر خضر… جدل الهبوط والصعود

د. حيدر ابراهيم

أجدني للمرة الثانية مدفوعاً للكتابة عن أحد الفنانين، وهذا – في رأيي – دليل على قناعة بدور الفن في عملية التغيير الصعب. وأكرر دائماً بأن الفنانين والنساء والجنوبيين أو المهمشين عموماً، هم العامل الأساسي في خلخلة بناء المشروع الحضاري بطرق شتى ولكنها فعالة. فقد شدني الشاب الفنان نادر خضر إلى التلفزيون، اذ يتميز بقدرات هائلة في تقديم آراء متقدمة عميقة رغم الجو النفسي الذي يبثه البرنامج، فقد كان في حالة محاكمة. ولكنه لم يدافع عن نفسه، كما يظهر، بل عبر ببراعة عن الصراع بين القديم والجديد. كما كشف المعايير المزدوجة للتعامل مع ظواهر الهبوط الحقيقية في المجتمع قبل ان تكون في ميدان الفن. ودعا الى الموضوعية والبعد عن الأغراض الذاتية في النقد، وهذا مطلب يتعداه وينسحب على كل مجالات الحياة والابداع لو أردنا حقيقة الاصلاح والنهضة. ويثير (نادر) بطريقة مباشرة أو غير مباشرة سؤالا: ماذا حدث للسودانيين فهم الآن يتبادلون التهم واللوم حول من هو سبب الهبوط وهل يمسكون بالمتهم الحقيقي أو المجرم في هذه المحاكمة أو غيرها من المحاكمات؟

قد يكون هذا المقال قراءة مختلفة وتأويلا – ذهب بعيداً – ولم يقصده الفنان نادر خضر، ولكنه قدم اشارات وايحاءات تعطي حديثه امكانية مفتوحة لأي مستمع لكي يقدم فهمه الخاص، حتى ولو كان لحاجة في نفس يعقوب. وهذا مانسميه موت المؤلف. فقد طرح سؤالاً هاماً هو جوهر حيثيات دفاعه، حول لماذا لا يهتم الاعلام السوداني – بنفس الدرجة – بسرقات المال العام والفساد عموماً، ويصب الاعلام كل غضبه ونخوته على فنانين شباب يبحثون عن طريقهم الفني الخاص؟ وكأنه يذكرنا بقول الفقيه الذي سئل هل إهدار دم البرغوث حلال أو حرام؟ فرد على السائل: تهدرون دم الحسين وتتورعون عن دم البراغيث (الرواية بتصرف). وهنا نسأل: هل كل هذا الهبوط والانحطاط في المجتمع والاقتصاد والسياسة لا يثير الانزعاج والغضب؟ بالتأكيد هذه ليست مسؤولية مقدم البرنامج، ولكن مسؤولية أجهزة الاعلام خاصة حين تدعي الصراحة والشفافية والمواجهة. فالبداية ان تتجرأ أجهزة الاعلام السودانية وتقتحم بيوت الدبابير. اذ يتحدث الشارع الآن عن الأموال المنهوبة بلا ضمانات من البنوك السودانية. ولكن التلفزيون لم يقم باستضافة أي مسؤول أو متهم في ندوة لاستنطاقه وحصاره كما نفعل بالنسبة للفنانين. هذه مهمة أخرى لا تقع بالتأكيد على عاتق ناقد فني ولكن السياسة الاعلامية تشغل الناس بقضايا جانبية وتبعدهم عن الأولويات. فالنقد الفني في الاعلام ضروري، ولكن يأتي كجزء متكامل من سياسة اعلامية ديمقراطية ليس لديها أي محرمات وممنوعات وخطوط حمراء. وهذا يعني ان تفتح كل الموضوعات والقضايا وان تستضيف كل الآراء المختلفة وليس آراء المؤيدين أو المتعاطفين أو الحربائيين.

فهبوط الفن أو الغناء هو نتيجة فقط لهبوط اجتماعي شامل، والمنطقي هو البداية ببحث الأسباب الحقيقية التي ينتج عنها الهبوط أو الصعود. فعلى الاعلام تمليك الناس الحقائق وان يبني الوعي الصحيح بين الجماهير والناس العاديين، ولكن مايقوم به الاعلام الآن، هو تزييف الوعي. وهذا يعني وعي بقضايا غير حقيقية أو على الأقل قضايا هامشية وثانوية.

نحن نعيش مجتمعاً هابطاً وبالتأكيد لا ينتج المجتمع الهابط غير فن وغناء هابطين. وهذا يطالبنا بالارتقاء بالمجتمع اولاً وبعد ذلك نطالب الغناء والموسيقى والشعر والأدب جميعاً بأن تكون راقية وصاعدة. فحين نهاجم أغنية بنات مثل (راجل المرة) فالهدف يجب ألا يكون البنات المسكينات المرددات للأغنية، ولكن علينا أن نهاجم الشيوخ والكهول المتزوجين ثم يتزوجون فتيات في عمر بناتهم. هؤلاء هم الذين يرسخون قيماً هابطة في المجتمع. وحين تظهر أغنية (راجل المرة) فهي تصف فقط ما تراه أمامها ولا تخترع ظاهرة اجتماعية من فراغ. وحين يوصف طه سليمان (سنتر الخرطوم) ويكشف عورات سينمتنا وكورتنا واخلاق اطبائنا الجديدة، فهي حقائق واقعية لم يفعل الفنان غير الترنيم والتلحين فقط، ونقلها من الشارع الى الغناء. وفي النهاية تبقى الفنون وانتاجات المبدعين انعكاساً لتطور المجتمع أو على الأقل تتأثر به لحد كبير.

وقدم (نادر) حجة قوية حين قال ان الرواد مثل أحمد المصطفى غنوا ما يمكن اعتباره هابطاً ولكن لم يتجرأ احد على قول ذلك، فكلمات مثل الخرطوم ثلاثة وبيت الخياطة وتوتي ياته..الخ، تقع في محظور الهبوط الآن. ولكن في وقتها تقبلها النقاد الفنيون فقد عبرت عن تغيير اجتماعي، ان تخرج البنت بمفردها وتمارس هواية الخياطة بالمنسج. وقد يتخيل المرء ان الشيخ حسن طنون – رحمة الله عليه – قد هاجم مثل هذه الاغاني في الجامع الكبير مثلاً. ولكن بالتأكيد لم تترك لنا الوثائق ما يدل على ان ناقداً فنياً قد تعرض لمثل هذه الاغنية. وهذا هو الفرق بين سودان خمسينيات القرن الفائت وسودان مطلع القرن الحادي والعشرين! وهذه مفارقة مذهلة تكشف عن مدى صعود المجتمع السوداني.

أثارت حلقة محاكمة خضر، في نفسي قضية صراع القديم والجديد، وكيف يمكن ان يشق الجديد طريقه وسط قديم راسخ يمتلك شرعية السبق والانتشار. ورغم ان الابداع هو تجاوز وتجديد مستمرين وإلا فقد صفة الابداع حين يكرر ويعيد. وهذا صراع صعب ومعقد، وقد وصفه طه حسين في كتاب (في الأدب الجاهلي) (وليس الشعر الجاهلي)، فالقديم هو (الموات المتجدد) الذي يعبث بالحياة ولا يكون حياً، وينصر الموت ولا يكون ميتاً). فهذه مرحلة تتطلب جرأة وشجاعة ومغامرة من المجددين.

فقد يصاحب تجديد الغناء ملبس غريب (قد يسمى بالشاذ) وشكل مختلف للتمايز، وعلاقة مغايرة مع المتلقين، والرقص والحركة والتجول. فالفنان المجدد لابد أن يكون (صائعاً) بالمعنى الايجابي أي لا ينتمي لأي مجموعة تقليدية فهو خارج ورافض ومغترب في مجتمعه. فالتجديد يطال المضمون والشكل: الصورة كلها. ورغم ان كثيراً من الفنانين الشباب اكتفوا بترديد أغاني الحقيبة او تراث الرواد ولكن حاولوا تجديد الشكل الخاص بهم أو المتعلق بالأغاني والأخير يحتاج الى اكثر من ذلك. ونحن لا نطالبهم بالتجديد المطلق، الذي قالته أغنية حمد الريح وعثمان خالد (ما قالها زول وما اظن يقولها وراي بشر!) هذا جيل يبحث عن طريق جديد، لذلك لا يصح اخضاعه لمحاكم تفتيش تبحث في ملابسه أو حتى تأثره بالأغاني المنتشرة في الدول المجاورة. لذلك يقع الحديث عن زراير (خضر) المفتوحة أو (تحبيش) الأغنية ضمن صراع الجديد والقديم أو على صراع الغريب والمستقر. وأكرر ان الابداع في الاصل اختلاف وتنوع وهذا يقتضي في النهاية قبول الآخر المختلف وباحترام وقناعة بأن له حق الاختلاف. وقد يحمل حق الاختلاف حق الخطأ، وهذا منتهى الديمقراطية ان نسمح للآخرين بحق الخطأ لكي يزدهر الابداع.

اثارت الحلقة موضوع النقد، وهنا اريد توسيع مفهوم النقد ابعد من النقد الفني فقط. وحين نقول (النقد السوداني) فهنا نسبة النقد الى الثقافة السودانية بكل ما تحمل من سلبيات وايجابيات. فالنقد يفترض توفر صفة الموضوعية على قدر الامكان لاستحالة الموضوعية المطلقة، فالنقد لا يخلو من ذاتية وذوق خاص، ولكن يجب ألا تكون ذاتية لخدمة غرض معين. ولكنها ذاتية طبيعية مثل البصمات غير المتكررة، فالاذواق كذلك مع المشتركات التي تكون رأياً عاماً. وقد ردد (خضر) أكثر من مرة كلمات (عقلية القطيع) وهذه ملاحظة عميقة وشديدة الذكاء. فسودانية النقد تميزه بالجماعية والتأثير والتأثر المتبادلين. وهذه العقلية تتسم بكسلها الفكري والابداعي، اذ تتبنى الموجود وتسير خلفه دون أي محاولة للتساؤل والشك. واكبر مشكلات النقد هي تحول القطيع الى شلل مغلقة مثل نظام الطوائف. لذلك أصبح من الافضل ان يبحث المبدع أولاً عن شلة من نوع: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ثم بعد ذلك يبحث عن الألحان والأغاني الجديدة أو يكتب الكتب العميقة. وتحاول هذه الشلل ان تستلف صفات الألوهية: (تعز من تشاء وتذل من تشاء). وفي مجال الثقافة والفن في السودان، فالشلة قبل الموهبة والانجاز، وهنا يتغلب العامل الذاتي الأناني والنرجسي على الموضوعية والصدق.. وكمثال بسيط، الصفحات الثقافية والفنية تتعمد تلميع البعض واضفاء الظلام والعتمة على آخرين. واصحاب هذه الصفحات يسيئون إلى انفسهم ويشككون في مهنيتهم وصدقيتهم قبل ان يضروا بخصومهم واعدائهم المتوهمين الذين يحجبون نشاطهم عن القراء، وايضاً يقصرون في امانتهم تجاه القراء. والنقد السوداني يعيش في سعادة بعالمه السفلي أو الارضي الذي يبني بالنميمة والغيبة والشائعات، وهذا العالم هو الأهم، حيث تتم عملية صناعة نجوم واغتيال مبدعين. وشكراً (لخضر) الذي رمي هذا الحجر في بركة النقد عموماً، فقد أتى الوقت لكي يكون النقد أداة هدم ولكن من أجل بناء أفضل.

لمست الحلقة موضوع التأهيل أو التخصص بالنسبة للناقد أي ما هي أدواته التي يمارس بها النقد الفني؟ وهذا ينسحب على كل ناقد في أي مجال أو تخصص. وتساءل (خضر) عن تخصصات النقاد الفنيين في علم الأصوات أو الموسيقى أو اللغة مثلاً لكي يستخدم ما تعلمه ويطبقه في نقد الفنانين والوصول الى احكام علمية تصنف الهابط والجيد والمتوسط على أسس علمية وموضوعية. وهذه نقطة هامة بسبب الفوضى والتعدي في مجال المعرفة، فقد أصبح من العادي ان يتحدث فقيه أو مفتي عن الطبقات الجيولوجية أو عن الجينات والأمراض المستوطنة أو ان يحلل شاعر الأزمة المالية العالمية وهكذا.. وفي ميدان النقد الفني لابد من تضافر العلم والمعرفة مع الذوق والموهبة لكي يفيدنا النقاد.

أخيراً، ليست هذه المقالة دفاعاً عن الفنان نادر خضر، إذ لم تتح لي فرصة الاستماع الجيد لأغانيه ولكنها مساندة لمواقف متقدمة تهمني كاجتماعي – تخصصصاً، لابد من الوقوف الى جانبها مهما كانت المناسبة. وليست نقداً أو هجوماً على مقدم البرنامج الاستاذ هيثم كابو ورفاقه، بل هي دعوة لحوار ومراجعة. فالقضية السودانية تتمدد وتتسع ولا تقتصر الأزمة على السياسة والاقتصاد فقط. بل الأزمة شاملة وهذا ما يشجع امثالي على (التطفل) واقتحام مجال الفنون والنقد الفني. وما يحفز انتهاز الفرص لتحويل كل شئ إلى مناسبة لمناقشة الأزمة الشاملة، فهناك هبوط حقيقي يجر كل الوطن إلى (شفا جرف هار) قد ينهار بنا في هول أكبر من جهنم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق