ثقافة وفن

كاريكاتيرست عالميّ منذ نعومة أظافره …!

مهدي الهاشمي

د. محمد بدوي مصطفى

هذه الأيام نعمت بالتعرف على نجم جديد وكان اكتشافا بديعا في صورة التشكيليّ العملاق والعالميّ مهدي الهاشميّ. يحكي لي في محادثاتنا التلفونيّة العديدة، متنقلا بي، كما يحبّ دائما فنان من عياره الثقيل أن يكون، من أماكن خالدة بالسودان، أحببناها جمعيا وكانت لنا مصدرا للنعمة والرخاء مثال الجزيرة أبا الخضراء حيث نشأ في دفئ الحياة بالعشيرة. يقول: منذ نعومة أظافري وأنا مولع بالرسم والفنون وكل ألوان القزح. لا أذكر تاريخا محددا أو يوما بعينه لكن منذ أن أبصرت عيناي نور الحياة وأنا على تلك الحال، أرسم في العراء، في صفحات الكتب المدرسيّة، في حوائط الحي الذي أسكن به وفي كل مكان تتنزل عليّ فيه آلهة الفن بجمالها كما إيزيس الإغريق. يتذكر عندما كان طفلا وعندما كان يطلب منه أن يوصل بعض نعجات جدته لراعي أوكل إليه سعيهنَّ بمنطقة الجزيرة أبا، يقول: كنّا ننتظره الساعات الطوال ونبدد الوقت برسم ظلالنا التي تنعكس عبر أشعة الشمس الحاميّة من أجساد أطيفال راقت لهم الحياة واللعب البريء في بقعة هادئة بين مروج الجزيرة الخضراء. يقول وقتذاك كان الواحد منّا يقف منتصبا موجها ظهره صوب مصدر الشمس ليقوم آخر برسم ظله على تراب تلك الأرض الطاهرة المعطاءة ولأننا كنا نتنافس بيننا، من منّا له المقدرة التامة أن يرسم بشكل أجود من أقرانه، كان بعضنا يحرّك بعض أطرافه خلسة وبشكل بطئ حتى يرهق الراسم بتفاصيل مرهقة وغير دقيقة حتى تكون لوحته التي دأب في عملها من قبل هي الأجدر بالفوز، لذلك خرجت تلك الصور مهتزة، مشوهة في قسماتها، غير دقيقة في موازينها. رغم كل هذه الخدع الطفوليّة لكن إن تفحصنا فحواها فنحن نجدها شيء من التحدّي الفنيّ الجديد لا بد أن نقف إليه برهة لأنه يعكس قدرات الأطفال الفائقة في ملائمة اللحظة، والفن يحتاج لكبح جماح اللحظة فهو في نظري تمرين فريد في نوعه وجدير بالإشادة يتبدى في شكل تنافس حاد وعزيمة صامدة ترنو إلى الفوز رغم اللجوء لخدعة “الحرب البريئة”.

يذكر لي الأستاذ الهاشميّ أنه كان يلتقط من على الأرض كل قصاصة صحيفة يتيمة تهيم مع الريح حينما تقع عليها عيناه، لا سيما وإن كانت بها بعض الرسومات كالكاريكاتير مثلا. ومن هنا بدأ ولعه بالصنعة مبكرا فكان فوق هذا وذاك يدأب في إعادة رسم الصور التي تتضمنها مناهج الدراسة وفي ذلك دون أدنى شك شيء من التدريب المبكر لامتلاك أدوات الصنعة وللتمرس على دقة الأبعاد وخفايا مهنة الرسم عموما. مع التنقل المستمر بين مراحل الدراسة كانت تتطور هذه الموهبة الجبّارة إلى أن جاءت ساعة الانفجار المريع: بدأ الهاشميّ في مراسلة بعض المجلات والصحف وكانت أعمال هذه الطفل تجد كل الاهتمام والتقدير من قبل مهنيي الصحافة والاعلام. وحدث أن أرسل صورا لبعض مجلات الأطفال (مجلة صباح) فكانت القصص التي يرسمها يعاد رسمها مجدد ويرجأ ذلك أغلب الظن لعدم مطابقتها للخط الإعلاميّ للصحيفة أو ربما لعدم تطابقها ومحاور الجودة المرجوة من قبل الناشر أو لضعف المواد المستخدمة في الرسم الخ. لكن رغم ذلك كانت تجد الصدى والرنين الكافي في أن تحتويها تلك الصحف كما خطط لها ذاك الطفل اليافع بقلمه وريشته الخلاقة.

أدركت آلهة الفنّ أنها استحوذت فؤاد هذا الصبيّ منذ سنّ مبكرة ولم تفتأ تتركه يهيم دون هدف، مأوى أو خيال، فصارت تدفعه دفعا لا تلوي على شيء إلا وتبسط أمامه زرابيّ الابداع يمنة ويسرة. هي يا سادتي شيء من قوى خفيّة لم يتبينها هذا الطفل إذذاك: من أين أتت وكيف استحكمت بلبّه البض، وكيف دفعته دون لأي إلى طريق الكاريكاتير وكان وقتها مقيما في مدينة كنانة أو قل بالأحرى بقرية قريبة منها تدعى التقابة. فما مشى هذا الطفل وقتئذ مشيّة وإلا استحكم ناظريه في تفحص أديم الأرض وإن كانت صفتحها تنثر أمام عينه قصاصات الورق التي كان يعشقها ويحملها مغتبطا بين يديه وكأنه حاز على كنز، بل قل على الدنيا وما فيها، كانت تلك القصاصات نادرة، جميلة، معشوقة بحق وحقيقة لهذا الطفل. للأسف فعندما انتقل إلى المدرسة الثانوية بمدرسة الجزيرة أبا القديمة لم يكن هناك أستاذ للفنون. وعندما أخبره أستاذه بذلك تعتّمت الدنيا في وجهه واغتمّ وتبرّم ودخل إلى نفسه شيء مثل الكره أو الأسف تجاه المدرسة فغدى لا يرومها حتى انتقل إلى مدرسة أخرى شرع فيها بعمل الجرائد الحائطيّة وازداد فيه حراكه الفنيّ. ومن هنا ألتفّ حول الطفل نخبة من القراء والمحبين لفنّه من بين التلاميذ والمعلمين، نذكر من بينهم معلمه واستاذه الجليل بمدرسة التّجار الثانويّة الأكاديميّة الراحل إبراهيم قرني، إذ قضى في صحن هذه المدرسة مع أستاذه حقبة جليلة تبلورت فيها موهبته ونمت وتفتقت بحياة مليئة بالنشاط والإنتاج الفنيّ والمعارض في الجمعيات الأدبية والفنيّة المختلفة بالمدرسة وبدأ المستقبل جليّا أمام ناظريّه! 

يقول: أعتقد أن رسامي الكاريكاتير السودانيين الذين يعملون في الصحف المحلية والصحف العالمية فيهم إشراقات ومواهب محترمة للغاية إذ يقومون بدور كبير جدا في رفد حركة تقدم وازدهار الكاريكاتير مع رصفائهم في كل دول العالم رغم معاناتهم وتجاهل الجهات الداعمة لهم وعدم إنصافهم من جانب الدولة فضلا عن الصحافة عموما. يقول: يشرق السودان ببوتقة من الشباب المقتدرين يمضون في بساط الفن بخطى ثابتة منهم على سبيل المثال لا الحصر: الريح أمبدي، المقداد الدخيري، نادر جني وطلال الناير وكل منهم قد وضع بصمته الخاصة في هذا الحقل.

مهدي الهاشميّ فنان مبدع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، أدّب نفسه كرسول للفن وللسودان في بلاد العالم الواسعة فارتقى به إلى درجات العلا ودأب في طريق الحرفيّة منذ عقود طوال وصار الآن أحد عمالقة هذه الصنعة دون أدنى شك. أشكره جزيل الشكر على لطفه وخلقه الجمّ. سوف تشاهدون على هذا المنبر مقدرات هذا الفنان الخارقة للعادة وسوف تقفون مع قامة سامقة سطرت اسمها في صفحات فن الكاريكاتير عالميّا واقليما بمداد من نور. الهاشمي مؤسسة فنيّة متكاملة. أتمنى له من كل قلبي التوفيق والنجاح في مسيرته المعطاءة التي هي في ريعان شبابها ونضوجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق