ثقافة وفن

التشكيلي السوري ممدوح قشلان

بشرى بن فاطمة

غيّب الموت مؤخرا التشكيلي السوري رائد التجريب الفني  ومغامر اللون ممودح قشلان تاركا ارثا بصريا حاكى سورية الشام بعشق للمدن وانطلاق في تفصيلها بدفء حسي وتناغم لوني في مسيرة فنية ثرية دامت أكثر من ستين عاما، لم تترك أي تفصيل انساني ولا تجاوب مع الأمكنة باختلاف أزمنتها إلا ونبشت فيه وتمازجت معه.

وقد جمعنا معه البحث والشغف المتعمّق في جذور التجريب فكان هذا المقال شاهدا على مسيرة متمكّن ومتمعن ومسافر عبر الحنين في الانتماء. أن تقرّر الكتابة عن تجربة بصرية فنية وتشكيلية عميقة وغارقة في تاريخها الباحث عن الجمال الخالد والثابت من خلال تجاذباتها الفكرية والتطويرية والعملية والتثاقفية ومن خلال هويتها الغارقة في محليتها الخاصة والملونة والمشرقة أبعد في جغرافيا العالم، يعني أن تحمل كل صفحاتك البيضاء وتستدرج الحكاية لتتركها مندمجة مع رسائلها المُلونة وهي تتشكّل ذاكرة وحنينا ومواقف وأسفارا وملامح أجاد ترتيبها وسردها التشكيلي السوري ممدوح قشلان.

فهو المسافر في زوايا الأمكنة باحثا عن علاماته البصرية الحية وهو المعتّق بشغفه الحالم وعشقه اللامحدود للفن والتعبير بالألوان، حيث يصف ما قدّمه في تجربته الفنية بقوله «هو الفن رسائل مُحمّلة بالإنسانية بألوانها الناطقة وهي تتحدّث معك وتستلطف الوقت في وقتك بين الماضي والحاضر والقادم فتستشعر كل تفاصيل عوالمك لتتراءى لك جدارية تستسيغ اللحن المُترنّم في أزقة الشام وبيئتها بمواسمها وفصولها بملاحم تاريخها وأساطيرها المخزّنة فتتبع أثرها وتندمج معها في كل ركن وتفصيل وفي كل ذاكرة وانتماء متقن التواتر وكثيف التمازجات التي منحت اللون دوره الإنساني وحافظت على شغفي اللامنتهي باللون المنساب في عمق الفكرة ومضامينها».

مجموعة الخيام متحف فرحات

Farhat Art Museum

ولعل هذا التوافق المُبتكر والشغف الطفولي الذي نضج دون أن يفقد مرحه أسّس لذاته الفنية وريادته الحقيقية وهي تقوم بصياغة مواقفه الحُرّة والمُطلقة من الفن وملامحه الجمالية من الانسان وتناقضاته الوجودية بين التطرف المبالغ في أمانه وقت السلم والهدوء المزعج للحرب والتصادم، فكل المراحل التي مرت بها سورية وتمرّ بها هي انسياب داخلي يضجّ ولا يهدأ يستمر أبعد في عمق اللوحات التي يقدّمها.

إيقاع الابتهال

ورحلة قشلان مع الفن لم تكن وليدة لحظتها بل هي اندماج الفكرة الطفولية التي بدأت تراوده صبيا لينتصر لها وهو يتحدى كل ظروفه ليعبّر ليرسم ليشكّل وينطلق.

فممدوح قشلان فنان لا يهدأ في فكره وبحثه هو المشارك الأكثر تأثيرا في تأسيس نقابة الفنون الجميلة في دمشق في سنة 1969 وهو من أبرز مؤسسي اتحاد التشكيليين العرب سنة 1971 ولد بدمشق وتربى على ذاكرتها تشبّع بعاداتها وتراثها المحكي بقصصه التي كانت تداعب خياله الطفولي وترتسم مشاهد ورؤى لم يجد أقرب من الرسم ليعبر فيها عن حضوره، فكل تلك التفاصيل المُلونة جعلته يخطو خطوات جريئة في عوالم الفن التشكيلي الحديث ويبتكر أساسيات مُتجدّدة وقيم مُعاصرة طبع فيها ثقافته الفنية الغربية وأضاف عليها الكثير من هويته وانتماءه وخصوصياته البصرية الكثيفة فكان فنه وكما عبّر لنا بقوله «محاورات جمالية بين الشرق والغرب»، خاصة وأنه تمكّن من تحويل الذاكرة الشعبية الى مادة ومحتوى ومفهوم بأسلوب حمله نحو التعبير الواقعي وأنضجه باستدراجه للتكعيبية والتعبيرية وهذا الانتقال لم يكن إلا محاكاة لحرفيته وتطويرا لمنهجه وبصائره التي استطاعت رصد ماورائيات المشاهد وخلق تماس بينها، وهذا التمشي الذي قاد مساره استطاع أن ينقل الهوية الشامية من الحكاية إلى اللوحة ومن المحلية الغارقة في خصوصياتها إلى العالمية خاصة عندما وظّف العمارة في تشكيل البناء الخارجي للوحاته واعتمد الهندسات والزخارف والتكامل الحقيقي بينها كدلالات تثبّت ذلك الانتماء.

بانوراما دمشقية

وقد نجح قشلان في تطويع الظل والنور والإضاءة والاشتغال على عنصر الفراغ والتعامل المدروس مع المساحة والفضاء كمفهوم عميق برز في اختيار الألوان والتوفيق بينها في درجات الحرارة المُفعمة بالدفء الداخلي والألوان الباردة التي عكست ذلك الفضاء وعلاقته بالشخوص والأشكال لتتراءى اللوحة بكامل حكايتها التي تربط الشخوص بالأمكنة وبالأزمنة الموظّفة في تفاصيل العلاقات بينها.

إن مسيرة ممدوح قشلان نموذجية على عدة أصعدة وشاملة في تفاصيلها التجريبية من حيث ابتكار اللون أو الأسلوب بين التعبيرية والتكعيبية فقد كان موفّقا في اختياراته التي دفعته نحو الاستمرار في ترسيخها لتجعل منه فنانا رائدا مُجدّدا وشغوفا بوطنه وهويته.

فقد أحب من خلال تجربته وأعماله تكريم الشغف في فنه وتكثيف حضوره برصد سيرته بالألوان بالمشاركات في مختلف أنحاء العالم بإثبات حضوره بفكره فقد شارك في سيمبوزيوم الخيام بلبنان، الذي أقيم بمدينة الخيام المحررة مع الجنوب اللبناني بمناسبة الذكرى الثالثة للتحرير سنة 2003، حيث شارك فيه حوالي 150 فنان عربي ودولي وكان معبرا بين الانسان ومعاناته بين الوطن وانتكاساته بين الأسر والحرية، فالمعتقل شهد أكثر من حكاية تعذيب أعاد الفنانون معايشتها وخرجوا منها بأعمال فنية إنسانية خالدة الأثر والتي يحتفظ متحف فرحات بأكثر من 50 لوحة من بينها عمل الفنان ممدوح قشلان وعن هذه التجربة يقول «التجربة التي قدّمتها في معتقل الخيام تختزل الفرق بين أن تقدّم لوحة تختار محاورتها بذاتك وتطلّعاتك وبين لوحة تختارك لتعايشها وتنجزها وتحمل موقفك وتستنطق حواسك وأفكارك من الواقع وهي تجربة إنسانية عميقة الأثر وتأثيرها له عدة مستويات ذهنية وبصرية وحسية فأن تستمع للحكاية وترى تفاصيلها في المكان هو تحميل للفنان مسؤوليته الكاملة بنقل الحقيقة خارجا أبعد في تفصيل بشاعة الجلاد وألم الأسرى.»

الصرخة متحف الشارقة

إن من يتفاعل بالتأمل مع لوحات وأعمال التشكيلي ممدوح قشلان ويتواصل معه ويستمع لتجربته وهو يسردها وينساب في تشكيل كلماته التي تحوّل المحكي إلى بصري له شغفه وانتمائه وهويته وانسانيته المتفاعلة مع كل حدث ومرحلة وكل موقف، لا يمكن أن يشعر بالغربة وهو يتكئ على اللون ويسافر معه ويغرق فيه أبعد في الحنين والذاكرة والاستشراف المليء بالأمل ففي ثنايا كل لوحة روح تشبه المتلقي أليفة وهادئة وغارقة في عشقها للإبداع.

*الأعمال المرفقة:

لوحة معتقل الخيام متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

*مجموعة متنوعة من لوحات الفنان ممدوح قشلان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق