ثقافة وفن

سومانيون

ما بين الزعيم الازهري وبين زعماء ثورة الدستور في اليمن

الخضر هارون

ونقدم بين يدي هذا الحديث التاريخي كلمة عما بين السودان واليمن من قديم الأزمان. فقد ذكر أحد قدماء الجغرافيين العرب، هو المقريزي،أن حكام الممالك النوبية المسيحية التي غطت أرضاً واسعة من أراض السودان اليوم حتى تخوم مدينة(رَبَك) الحالية جنوباً وشرقاً حتي حدود الحبشة وسواحل البحر الأحمر وشمالاً حتي الحدود المصرية، أنهم ذكروا له أنهم من (حِميّر) وأن أسلافهم قدموا من اليمن. ويصف الرحالة (القزوينى) بلدة دنقلا بأنها (اشبه ببلاد اليمن….). ويسكن (المهرا) في الفضاء الممتد بين اليمن وظفار في سلطنة عمان وهم في سحنات نوبة الشمال ويتحدثون لغة قيل إن لها صلة بلهجات الأمازيغ في الشمال الإفريقي. ويقال إنهم بقية من حمير.. وقبائل اليمن وبخاصة (جهينة) كانت من أوائل القبائل التي تدفقت على السودان في أعقاب الفتح الإسلامي لمصر كما أورد ابن خلدون وهو ما نقله السير ماكمايكل (ميكميك) في تأريخه. وهم الذين استفادوا من نظام التوريث الملكي الذي كان عليه النوبة إذ كان الملك يورث من بعده على العرش ابن أخته أو ابن بنته. فتزوجوا شقيقات الملوك وبناتهم فانتهى الملك إليهم وتسارعت بذلك وتيرة التعريب والأسلمة. وقد أفرد ضرار صالح ضرار حيزاً مقدراً من سِفره القيم عن هجرة القبائل العربية إلى مصر والسودان، للصراع المرير بين ربيعة ومضر في المنطقة الممتدة بين عيذاب وسواكن على الذهب الذي كانت تزخر به تلك المنطقة. وهو عامل أفضى إلى رسوخ قدم الثقافة العربية والإسلامية في السودان.. وفي العصر الحديث نذكر بالخير الجالية اليمنية الكبيرة التي كانت منتشرة في كل بقاع السودان. وكانت مدرسة حنتوب الثانوية تستقبل عددا مقدراً من أبناء جنوب اليمن كل عام إبان فترة الاستعمار البريطاني لذلك الجزء من اليمن وبعده ومن الزعماء الذين درسوا في السودان أول رئيس لليمن الجنوبي هو السيد قحطان محمد الشعبي (١٩٢٣-١٩٨١) وسمعت عبر لقاء إذاعي مع الدكتور نزار غانم أحد أشهر مثقفي اليمن أن أحد زعماء جنوب اليمن كان قد طلب من الزعيم السوداني عبدالرحمن المهدي أن يرسل سودانيين لتدريس العربية لأن جنوب اليمن كاد يتهند أي يصبح هندياً فقد كان جنوب اليمن يدار من إدارة بريطانية في بومباي بالهند لدرجة أن الهند المستقلة طالبت بضم جنوب اليمن إليها وبالتالي كثر فيها الهنود.. . وكنا في ثانوية مدني نستضيف في اتحاد الطلاب كل عام ممثلين لاتحاد حنتوب والمدرسة العربية في مدنى وثانوية بنات ود مدنى للتفاكر حول إحياء (وعد بلفور) المشئوم في الثاني من نوفمبر من كل عام. وكنا نحييه رفضاً له، بتظاهرة ضخمة تجوب شوارع المدينة يشترك فيها كل أولئك مصممين على العمل على استرداد ذلك الحق السليب في فلسطين. وكان لأبناء الجنوب العربي، كما كنا نسميهم، حماسة حاضرة في ذلك المسعى. واذكر أن أحد المؤتمرين وقتها قد تحفظ على مشاركة المرأة في التظاهرة الاحتجاجية خوفاً من تعرضها للأذى فتصدي له أحد طلاب جنوب اليمن من حنتوب قائلاً» المرأة عندنا تحمل السلاح جنباً إلى جنب الرجال في جنوب اليمن ضد المستعمرين فكيف لا تخرج في تظاهرة في بلد عربي؟!». وجاء موضوع هذه المقالة بمناسبة عابرة فقد كنت التقى في المناسبات العامة أثناء عملي في واشنطن بالأستاذ إبراهيم بن على الوزير، نجل رئيس وزراء ثورة الدستور في اليمن عام 1948 وحفيد الإمام الدستوري السيد عبد الله الوزير الذي تم اختياره عقب نجاح تلك الثورة التي حاولت أن تؤسس الحكم وفقاً لدستور ُيجِمع الناس عليه فوئدت بعد شهر من قيامها. ذكر لي الأستاذ إبراهيم شفاه الله وعافاه، يومها وهو من وجوه العرب والمسلمين في منطقة واشنطن الكبرى لعقود عديدة، أن زعيم استقلالنا السيد إسماعيل الأزهري قد حقن دماءهم وأنقذ حيواتهم من الموت وأثنى عليه الثناء الحسن. ولم أنس ذلك رغم تعاقب السنين واضمرت النية على أن أكتب عن ذلك خدمة للحقيقة وتعريفاً لذرارينا بمناقب الرعيل الأول من جيل الاستقلال. ولم تتح لي فرصة لذلك إلا مؤخراً حيث جمعتنا الأقدار مجدداً بشقيقي الأستاذ إبراهيم، الأديبين الشاعرين زيد وقاسم. وهما حفظهما الله شعلتان من النشاط والإسهام الفكري والثقافي عبر المحاضرات والليالي الشعرية في المنتديات العربية في المنطقة. وأنى عاكف هذه الأيام على استعراض كتاب، حجماً ومادة للأستاذ زيد الوزير بعنوان” الفردية: بحث في أزمة الفقه الفردي السياسي عند المسلمين” يتناول فيه كيف تسللت آفة الفردية والاستبداد إلى النظام السياسي في الإسلام منذ بيعة يزيد بن معاوية. استفسرت الأستاذ زيد عما كان قد ذكره لي الأستاذ إبراهيم الوزير من صنيع الزعيم الأزهري بحقهم فأرسل إلىّ مشكوراً الرسالة موضوع هذه المقالة مأخوذة مما كتب من ذكريات ما حل بالأسرة بعد فشل الثورة الدستورية من عنت وملاحقة، فرأيت أن أنشرها بعد أن أذن لي بذلك فهي شهادة بقلم أبطالها تخلو من العنعنة. وقد جاء فيها ذكر لفضلاء من اليمن عرفناهم وجمعتنا بهم الظروف منهم الشيخ الجليل رئيس الجالية اليمنية في ود مدني (يحيى حسين الشرفي) وقد زاملنا نجله الدكتور محمد يحيى حسين رحمه الله والذي سبقنا في المدرسة بعامين وكنا قد أدركناه لعام واحد في الأميرية الوسطى. وكنت قد اصطحبت الأخ الصديق الأستاذ هاشم الإمام إلى دارهم العامرة يومئذٍ نلتمس فيها مجلدات مجلة (الرسالة) للمرحوم أحمد حسن الزيات بعد أن نبهنا إليها أستاذنا الجليل صديق محمد الحاج. فهش الرجل الوقور في وجوهنا محيياً التماسنا المعارف في تلك السن المبكرة. ومن أولئك العم سعيد الذي كان يملك مخبزاً مشهوراً في حي (أم سويقو) وكان أحد أنجاله في الصف الذي يتقدمنا (أنسيت اسمه) وقد كان من المشاركين النشطين في إحياء الجمعية الأدبية. ولا زال عالقاً بالذهن شكل المجلدات والمغلفات في مكتبة الأستاذ يحي حسين الشرفي الخاصة. وكان قد ورد في تلك الزيارة ذكر الأستاذ الشاعر محمد محمود الزبيري وزير المعارف في حكومة تلك الثورة. وقد خصص لنا الطالب يومئذ محمد يحيى حسين محاضرة عنه على مدارج ملعب كرة القدم في ثانوية مدني وكانت عصراً وكان ضمن الحضور قطب الشيوعيين في المدرسة يومئذ الأستاذ الراحل الخاتم عدلان، كنا في السنة الأولى وكان الخاتم في الرابعة. وعلق من ابيات الزبيري في الذاكرة:

أوراقكم لشراء الشعب تذكرنا ما باعه قُسس بالصك واختلسوا يا قوم لا تخدعونا فكلكم قُسس الحكم بالغصب رجعى نقاومه حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا وهي من قصيدة طويلة عصماء في نقد الاستبداد وفشل الثورة أسماها “الكارثة” ولعل مناسبة المحاضرة كانت اغتيال الزبيري رحمه الله. ولعله ورد ايضاً ذكر الأستاذ أحمد محمد النعمان وهو وزير الزراعة في حكومة تلك الثورة وشاء الله أن نزامل نجله الأديب والمثقف السفير مصطفي النعمان في الهند وهو سفير اليمن حالياً لدى مملكة إسبانيا. قال لي السفير مصطفي إن أبيات الزبيري تلك كانت تعريضاً بالرئيس جمال عبد الناصر بعد أن دب الخلاف بينه وبين رواد تلك الثورة من كبار مثقفي اليمن. وحسناً فعل الدكتور وأستاذ الطب في جامعة الأحفاد نزار غانم بأن كتب كتاباً ضخما عن علاقات اليمن بالساحل الإفريقي وسمي تلك العلاقات ب (السومانية) بالنسبة للسودانيين ذوي الأصول اليمنية واليمانية الذين تربطهم وشائج بالسودان وهم أكثر من أن يحصيهم عد. وأطلق علي نفسه صفة ( السوماني) وأسس موقعا إلكترونيا بذات الاسم يرعي تلك العلاقة الحميمة بين الشعبين الشقيقين.  ولعلي أقوم باستعراضه في القريب العاجل إن شاء الله لأهميته. وأهل اليمن من شماله وجنوبه قد انتشروا في كل بقاع السودان وتصاهروا وأنا من أولئك (السومانيين) بحكم أني من عشيرة السادة الركابية حفدة الشيخ العالم غلام الله بن عائد الذي جاء من اللحية قرب الحديدة في اليمن في نحو القرن الخامس عشر الميلادي. ووالد الدكتور نزار كان محاضراً بجامعة الخرطوم. أذكر على سبيل المثال لا الحصر البروفسور عون الشريف قاسم ذلك العالم الذي أثري المكتبة السودانية والعربية بمؤلفات هامة والشاعر حسين بازرعة الذي أسس مع الفنان عثمان حسين مدرسة في الغناء السوداني والشيخ الحضرمي عمر صالح باخريبة وله ترجمة حسنة تلتمس من (النت) وهو المولود في خريبة في حضرموت جاء الي السودان وتنقل من حلايب إلى كسلا وطوكر واستقر في مدينة ود مدني فكان علماً من أعلامها أطلقوا على داره « بيت الأدب والحشمة». ومن أهل الفن رموز متلألئة: الأستاذ الفنان الطيب عبد الله والقدير عبد الرحمن اليمني (ود اليمني) وفي أسرته رحمه الله أكثر من أديب وشاعر والمرحوم الموسيقي المرموق ناجي القدسي. حيا الله اليمن وأهلها فقد أثروا ثقافتنا في السودان في شتى ميادين المعارف والفنون ونشروا الثقافة العربية والإسلامية في ربوع آسيا بما لم يفعله شعب آخر. واليمن أرومة العرب ومستودع الحكمة والعلم كما جاء في الأثر نرجو الله أن ينعم عليها ويعيد إليها السلام والاستقرار حتى تستأنف مشوارها في رفد الثقافة العربية والإسلامية كما ظلت تفعل عبر القرون فمن صبيا في اليمن نهل مشايخ الصوفية في السودان وفي ليبيا وفي آسيا من الشيخ المغربي أحمد ابن إدريس الفاسي فنشروا العلوم والعربية.. وإلى مضابط قصة الأزهري وأبناء الوزير ركما يرويها بطلها الأستاذ إبراهيم بن علي الوزير، رحمه الله رحمة واسعة:

« الرحلة المجهولة طلائع الحسك أصدر البريطانيون ثلاثة تصاريح فيما يسمى بـ “اليسيه باسيه”- وكان معترف بها دوليا- يوم السبت 4 جمادى الأولى 1373 /9 يناير 1954 وبها تمكن الإخوان للسفر بها إلى القاهرة عن طريق البحر إلى مصر. وقبيل صعودهم إلى سطح الباخرة جاءهم المرحوم الأخ الشاعر «عبد الله عبد الوهاب نعمان» ونصحهم بحكم الصداقة بأن يأخذوا حذرهم في «القاهرة» ممن حول «الزبيري» وقال: («الزبيري» طيب للغاية لكن مَن حوله يشك فيهم، فلبعضهم صلات بالإمام ولبعضهم مشاعر طائفية عنيفة) وقال لهم: (لا تكشفوا أسماء الذين شاركوا في تنفيذ عملية إخراجكم من «اليمن» لأنها سوف تنقل إلى الأمام فينتقم منهم.) وودعهم متأثرا لفراقهم متمنيا لهم النجاح والتوفيق. صعدوا إلى الباخرة “الحلال” عصر يوم12 جمادى الأولى/ 17 يناير ولكن إبحارهم منها لم يتم إلا في الليل فغادرت على ظهرها ثلاثة اخوة لا يملكون من وسائل التعريف بأنفسهم سوى ورقة المرور، وعندما انبلج فجر اليوم التالي كانوا يمرون بمحاذاة المخا، فألقوا عليها نظرة أمل في لقاء قريب. بين يدي المأساة وبين الأمواج الهائجة والمستقبل المجهول والباخرة الصغيرة يتقاذفها الموج من كل مكان، اقتعد الأخوة الثلاثة على سطحها المبتل يرشهم ماء البحر المتطاير عبر ريح رطبة ولزجة. أسلموا أمرهم إلى الله نعم المولى ونعم النصير. وفي تلك الفترة أحسوا بمأساة اليمنيين المهاجرين وعذابهم وشقاؤهم فقعد الأخ «إبراهيم» ليؤلف أول كتبه «بين يدي المأساة- حديث إلى النازحين اليمنيين» وفي هذا الكتاب تتضح بذور اتجاهاته الفكرية التي ستتبلور في كتب قادمة..

في بورت سودان: الحسني كبير الجالية: وقبل أن ترسو الباخرة «بورت سودان» التقطت أذن الأخ عباس المتفتحة دائما خبراً مفاده أن الباخرة ستتوجه إلى «جدة» أولا ثم إلى «بور سعيد» ثم فوجئوا بان الباخرة يملكها الشيخ «على الجبلي» -وكيل الإمام «احمد»- فاحتاروا في أمرهم وبدأوا يفكرون في حيلة للخروج من هذا الفخ الذي أوقعوا فيه، وبينما هم في حيرتهم تلك أعلن القبطان بأنه سيتأخر أربع ساعات قبل أن يستأنف إبحاره، و أن سلطات الميناء قد سمحت للركاب بالتجول داخل «بورت سودان» لشراء ما يحتاجون إليه: أو لتناول الطعام فاغتنموا الفرصة ودخلوا المدينة على حين غفلة يوم 19 يناير 1954 الموافق الأربعاء 14 جمادى الأولى1373. وسألوا عن الموجودين من اليمنيين فأخبروا أن هناك جالية يمنية كبيرها رجل لعله يسمى «حسين عبد الله الحسيني» فولوا وجهتهم شطره، استقبلهم كبير الجالية «حسين عبد الله الحسيني» -رحمه الله- باعتبارهم طلبة في طريقهم إلى «القاهرة» فاحتفي بهم، وقال لهم إن طلبة العلم هم الأمل لهذه الأمة. وقال نريد أن نقيم لكم حفلة شاي سريعة تكريما للعلم، وفرحا بكم وستقام الحفلة في بيت أحدنا، وكان هذا البيت بيت ذلك السيد المفضال. وتحدث الأخ إبراهيم عن النازحين اليمنيين استوحاه مما قد كتبه في «بين يدي المأساة» ففاضت أعين كثيرين منهم بالدمع. وتشعب الحديث وتساءل بعضهم بتعاطف وود عن الفارين من «أبناء الوزير» فأجابه الأخ «علي محمد المقحفي» -وكان يجهل من هم رفاقه- بأنهم بخير وانهم وصلوا «عدن» فضحك أخي «محمد» فشك المرحوم «الحسني» فيهم. ولم يكن بد في ذلك الجو العطوف من أن يكشفوا عن أنفسهم؛ فسُرَّ بهم السيد «الحسني» غاية السرور وقال: (نجوتم من القوم الظالمين) وأخبرهم أن الباخرة لن تتأخر عن ميعادها، وأن القبطان نفسه لا يعرف لماذا أمر بتغيير اتجاهها، ثم قال: «إن أفضل ما تعملونه هو أن تتأخروا هنا حتى ترحل وأنا متأكد أنها سترحل في الموعد المحدد ولن تنتظركم. فاقعدوا هنا وسنتدبر الأمر بعد ذلك مع البوليس غدا وسأذهب معكم وسنشرح له ذهاب الباخرة وسنتعهد بقطع تذاكر لكم توصلكم إلى السويس» وذهب بنفسه معهم إلى الباخرة فأخذوا حاجاتهم الزهيدة التي لم تلفت نظر أحد من مسئولي الباخرة. اما الأخوان المقحفي وعامر فقالا ان ظروفنا تختلف حتى لو نزلت الباخرة في جده فقد كان خروجنا رسميا فودعوهم وذهبوا. أنزلهم “الحسني” في فندق، وفي اليوم الثاني ذهبوا إلى الميناء ومعهم السيد “الحسيني « وقدموا أوراقهم لضابط شاب سألهم عن سبب تأخرهم عن السفر فأجاب الحسني أن الباخرة فاتتهم بسبب نومة اخذتهم من التعب، وأنهم طلبة مسافرون إلى «القاهرة» للدراسة، فلما رأى أوراق الإبعاد تردد في الأمر، فأخبره السيد الحسيني بحقيقة الأمر وأنهم أنجال رئيس وزراء «الثورة الدستورية» في «اليمن» ولما عرف أن البريطانيين لطردوهم من بلادهم فتجاوب معهم وكانت السودان آنذاك في بداية الاستقلال والموظفون مشغولون بتسلم الإدارات من البريطانيين فقال: (لا أستطيع أن أعمل لكم شيئا، ولكني سأتصل بالسيد رئيس الوزراء باعتباره وزير الداخلية وأنتظر أمره) وأدار الضابط قرص التلفون فرد عليه من الجانب الآخر صوت يسأل ماذا تريد؟ فقال اريد السيد رئيس الوزراء –وزير الداخلية، فأخبره الطرف الآخر: أن الرئيس مشغول الآن باجتماع مجلس الوزراء فطلب منه ان يكلم رئيس الوزراء للاتصال به من أجل موضوع هام، واقفل الخط.. مرَّت لحظات حرجة قضوها في انتظار المجهول وفي انتظار المكالمة التلفونية التي ستقر مصيرهم. ولم يكن الإخوان الثلاثة يعرفون أن هذا الزعيم الكبير كان على معرفة بالأوضاع العربية، كما كان صديقا حميما لأخيهم الشهيد «عبد الله بن علي الوزير “أثناء فترة انتدابهما في القاهرة وكل ما يعرفون عنه أنه أحد أبطال استقلال «السودان» الكبار.. ورن التلفون وحبس الحسني والأخوان الثلاثة أنفاسهم عندما كان الضابطُ يخبر السيدَ رئيس الوزراء بأن ثلاثة أشخاص يدعون أنهم أبناء رئيس «الثورة الدستورية» يطلبون الدخول إلى الأراضي السودانية وليس معهم غير وثيقة الترحيل البريطانية فردَّ المجاهد الكبير: (أهلا بهم وسهلا. «السودان» بلد الأحرار بلدكم، أنزلوهم على حساب الحكومة، وأكرموهم واختموا أوراق ترحيلهم). أضاء وجه السيد «حسين عبد الله الحسني» بالفرحة ولمعت عيناه بالبهجة وشمل الأخوين المتواجدين شعور بالخروج من ضيق اليأس الى سعة الفرج. نزلا في نفس الفندق على حساب الحكومة السودانية، وبقي هناك أياما بين حفاوة السيد الحسني وعواطف الجالية وبعض الزوار العرب، وكانوا يشرحون لإخوانهم المهاجرين مظالم الحكم وجوره فيجدون اذنا صاغية. في نفس الوقت وصل المرحوم «الزبيري» على رأس وفد من «الاتحاد اليمنى» إلى «الخرطوم» للتهنئة بالاستقلال مستهدفا بوصوله المبكر أن يسبق وصول الوفد الرسمي من “تعز» فلما رآه المجاهد الكبير «إسماعيل الأزهرِي» قال له: “عندي لك هدية أرد بها التهنئة بأحسن منها. يوجد لدينا الآن أبناء رئيس وزراء ثورتكم. وقد وضعت طائرة خاصة بتصرفكم. فما أجمل من أن تذهب للقائهم في «بورت سودان» وتأتوني أجمعين” وأمر للأستاذ «الزبيري» بطائرة خاصة تأخذه إلى «بورت سودان» لمقابلة الأخوان. وخرجت الجالية اليمنية لاستقباله وفي طليعتهم الثلاثة الاخوة. وألقى «الزبيري» كلمة وطنية بليغة في جموع المرحبين رحب فيها بالأخوان. كان يصحب الأستاذ «الزبيري» كل من «أحمد الخزان» ويحيى الوافى” وعقب عودتهم من المطار عُقد أول اجتماع عمل، حضره الزبيري وحده. وأشار إلى اجتماع الزبيري بأبناء الوزير: (هذا وقد اجتمع القاضي الزبيري بأبناء المرحوم علي عبد الله الوزير الذين أنذروا بمغادرة عدن، فرحبت بهم حكومة السودان ترحيباً حاراً). غادر الجميع إلى «عطبرة» ومنها إلى «الخرطوم» جميعا لمقابلة رئيس الوزراء، وأذاع الراديو خبر وصولهم وأقام لهم السيد رئيس الوزراء حفلة استقبال في بستان مجلس الوزراء كتب على الدعوة أنها على شرف أبناء رئيس ثورة 48 وبأسمائهم، ولم يذكر معهم “الزبيري ”وحضر وزراء الدولة وأعيانها فقدمهم الرئيس اليهم فردا فردا وأقعدهم والزبيري في طاولته وفي اثناء العشاء القى خطابا رحب بهم جميعا وتحدث عن صداقته لأخي عبد الله بن علي الوزير اثناء الإعداد للثورة الدستورية واثني عليه وعلى جهاده ورفاقه ثم أسهب في شرح ظروف استقلال السودان وبعد العشاء استأذنوه في الذهاب إلى وادي مدني لزيارة المجاهد الكبير “يحيى الشرفي” فحملهم سلامه إليه، واعجابه به وبدوره في النضال من أجل استقلال السودان. وكانت حفاوة رئيس الوزراء بالإخوان سببا في إثارة المزيد من الضيق عند رئيس ووفد «الاتحاد اليمني» وزادت الجفوة اتساعا. ثم سافروا إلى «وادي مدني» للالتقاء بالمجاهد اليمني «يحيى حسين الشرفي» فاستقبلتهم الجالية وغيرهم وانزلهم على الرحب والسعة في بيته، وأقام لهم في الحديقة العامة حفلة كبرى حضرها كبار الموظفين والأعيان التجار وألقى «الزبيري» محاضرة عن «ثورة الدستور» لم يتحدث فيها عن الشهداء من آل الوزير، بينما أشاد الأخ «إبراهيم» في كلمته بـ«الزبيري» إشادة بالغة واصفا له بأعطر الكلمات في حين تحدث الأخ «احمد الخزان» فأشاد بالشهداء من «آل الوزير» وغيرهم وتحدث عن الثورة الدستورية بإسهاب، ثم سافر الجميع إلى «القاهرة» فوصلوها يوم السبت 9 جمادى الآخرة 1373/13 فبراير 1954.  وهكذا أنقذ الرجل العظيم إخوة هربوا من وجه الظلم ليناضلوا في ظل وضع كانت فيه الحكومات العربية تصطاد كل هارب فتعيده إلى قفص الإمام. وقد بقي السيد الفضيل الورتلاني ثلاثة أشهر تتقاذفه مواني البحار ولا تسمح له السلطات بالنزول حتى نزل متخفيا بغير اسمه في لبنان،كما بقي أخونا عبد الله بن علي متخفيا في الهند بغير اسمه حتى انتقل إلى جوار ربه شهيدا غريبا فقيرا. في مثل هذه الأجواء الرهيبة كسر الرجل العظيم إسماعيل الأزهري طوق الحصار المضروب على الأحرار من أول لحظة استلم فيها الحكم غير عابئ بحكومة الأمام. لقد كان وفيا لرفاقه المناضلين في صيانة اخوتهم وليس فقط معهم رحمه الله وخلق في أمتنا العربية أزهريا أخر حتى تستعيد الأمة كرامتها المهانة ويستأنف المظلومون جهادهم في ظل حماية ازهرية ضربت المثل الأعلى في حماية المناضلين». (انتهي الاقتباس من مذكرة المرحوم إبراهيم بن علي الوزير).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق