ثقافة وفن

رحيل عملاق

شاعر أمدرمان تحتضر محمد الواثق

د. محمد بدوي مصطفى

أفل نجم الشاعرالمخضرم الأستاذ الدكتور محمد الواثق بالعاصمة السودانية قبيل ست سنوات وحامت حول نعشه آلهة الشعر وفينوس العروض ناعية له كما نعته الإمّة بنحيب زافر ودمع وافر فوداعا أيها العملاق وداعا أيها الشاعر. يعد الشاعر محمد الواثق من أهمّ شعراء العربية الفصحى بالسودان في العصر الحديث وقد بزغ نجمه بقرية شماليّ الخرطوم تدعى النيّة في عام ١٩٣٦ وتخرج من مدرسة وادي سيدنا الثانوية والتحق في مراحل الدراسة الجامعيّة بكلية الآداب، قسم اللغةالعربيّة، بجامعة الخرطوم وتخرج فيها بمرتبة الشرف الأولى عام ١٩٦٣ وسافر من أجل إكمال دراساته العليا إلى انجلترا وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة كيمبردج البريطانية في عام ١٩٦٧ عن بحث بعنوان: “المسرح العربيّ القديم”. عمل الواثق محاضرا بكلية الآداب جامعة الخرطوم ثم أستاذا مشاركا ثم رئيسا لقسم اللغة العربيّة ثمّ عميدا للمعهد العالي للموسيقى والمسرح.

جاء انتاجه وافرًا فألّفَ عدّة كتب أشهرها ديوانيه “الفارس الأعزل” وديوان “أمدرمان تحتضر” والعديد من القصائد الرصينة، إضافة إلى كتاب عن السيرة الذاتية للشاعر والسياسيّ السوداني محمد أحمد المحجوب (شاعر الأندلس المفقود) ومن ثمّة قام بنشر كتاب بعنوان: “مختارات من الشعر العربيّ السودانيّ” وقد أكرمه الشاعرالمخضرم محمد سعيد العباسيّ. بالتقديم لهذا العمل. أثارت قصائده الجدل وأججت النقاشات لما تتضمنه من هجاء صارخ، صريح وفاضح تجاه بعض مدن السودان التي ألقى أبناؤها عليها ثوب العصمة وهندام الحصانة من كل الهفوات والانزلاقات والكبوات، فشرع أولًا لا يلوي على شئ إلا ويهجو عاصمة البلاد الوطنيّة ومن ثمّ جاء على أخضر كوستي وكسلا ويابسهما ولم يترك لهما جنبًا ينامان عليه.

فالسبيل الذي اتبعه والنهج الذي حثَّ خطاه فيه يعد يا سادتي متميزا أو لنقل متفردا ولم يسبقه عليه في الحقيقة أحد قبله، نجده قد كتب قصائده بكرباج القوافي، يضرب بسوطه العصاميّ وسيفه الهلاميّ جنبات تلك المدن، وهل كان يقصدها حقًا أم يقصد الأنظمة التي توالت على حكمها وعشوائية الناس الذين قاموا بشأنها. أهي صرخة غريق ينادي ويناجي ملء شدقيه: افيقوا من سباتكم العميق؟! على أيّة حال نجده قد أجاد في هذا الضرب من ضروب النظم الذي أودى به وقتئذ للأسف – وكل رسول في ملتِّهِ مظلوم، في غياهب السجن،إذ انبرى بعض الفضلاء من أبناء تلك المدن برفع دعاوى عليه لما لمسوا في شعره من تجريح وتصافق من قوافيه – على حد قولهم – لمسقط رأسهم. نجد أن نسج الواثق في هجاء المدن قد دار حوله نقد واسع مما كان له عظيم الأثر في إثراء المفردة، الكلمة، الوحدات السيمائية والمعجميّة فضلاً عن الفكرة والتصور والإلهام. فنجد بعض النقاد يعتبرونه ضرب من أدب المقاومة وأنا أقول أنّه أدب ثوريّ،عصاميّ ضرغام به من الرمزيّة الشاعريّة ضروبا وألوانا قلّ أن نجدها في شعر معاصريه، حيث يرمز الشاعر بالمدينة لنظام سياسيّ أو ديكتاتوريّ بعينه وللأسف لم يجد شعره حظّه المكثف والوافر من الدراسة الجادّة والنقد الأدبيّ القويم – إلا القليل – مما يمكننا من فهم رسائله وبلوغ مقاصده وارتياد غاياته. ومن الدراسات الجديرة بأن نقف إليها دراسة للدكتور بلّة موسى يشرح فيها موضوعات قصائد الواثق وبعض التيمات منها مثلاً هجاء المدينة فيقول في هذا السياق: “يقول النقاد إن الشاعر الواثق قد انتهج أسلوب النقد والهجاء للمدن بقصد العودة بالقصيدة العربية إلى أزمنة سابقة عندما كانت تتحدث بلسان المجتمع مع الاحتفاظ برصانة اللغة وكلاسيكية المفردة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إعادة مجد المدينة السودانية بإنسانها وأصالته وفصاحته وانفتاحه ثقافيا على محيطه العام،في دراسته الأكاديمية وتلمذته على يد الراحل البروفيسور عبد الله الطيب الذي كان يعتبره خليفة له، انتهج الواثق في دراساته عدم اليقينية بالثوابت المحفوظة حول أدب وحياة الكثير من شعراء وكتاب السودان”.

أمدرمان تحتضر

لا حبذا أنت يا أم درمان من بـلدٍ

أمطرتني نـكداً لا جادك المـطر

من صحن مسجدها حتى مشارفها

حط الخمول بها واستحكم الضجر

ولا أحب بلاداً لا ظلال لـــها

يظلها النيم والهجلــيج والعشر

ولا أحب رجالاً من جهالتـــهم

أمسي وأصبح فيهم آمنــاً زفر

أكلما قام فيهم شاعـــرٍ فطن

جم المقال نبيل القلــب مبتـكر

ضاقوا بهمته واستدبروا جـزعاً

صم القلوب وفي آذانهــم وقـر

أكلما غرست كفي لهم غرســاً

كانوا الجــراد فلا يبقي ولا يذر

المظهرون بياض الصبح خشيتهم

والمفسدون إذا ما صرح القمــر

قميص يوسف في كفي أليح به

فقميص يوسف لم يرجع لهم بصر

ولا أحب نساء إن سفرن فقد

تحجر الحسن والإشراق والخفر

من كل ماكرة في زي طاهرة

في ثوبها تستكن الحية الذكر

يا بعض أهلي سئمت العيش بينكم

وفي الرحيل لنا من دونكم وطر

******

سألتك الله رب العرش في حرق

إني إبتأست وإني مسني الضرر

هل تبلغي حقول الرون ناجية

تطوي الفضاء ولا يلقى لها أثر

قرب الجبال جبال الألب دسكرة

قد خصها الريف , لا هم ولا كدر

تلقاك مونيك في أفيائها عرضا

غض الإهاب ووجه باغم نضر

من صبح غرتها حيك الضياء لنا

ومسك دارين من أردانها عطر

مونيك إني وما حج الحجيج له

لم يلهني عنكم صحو ولا سكر

وعهدك الغر في أغوار محتمل

إني لذاكره ما أورق الشجر

******

كيف اللقاء وقد عز الرحيل وما

يثني عناني سوي ما خطه القدر

راحلتي , همتي لا تبتغي وطناً

لكن يقيدها الإشفاق والحذر

مونيك كانت لنا أم درمان مقبرة

فيها قبرت شبابي كالالي غبروا

إن الأنيس بها سطر أطالعه

قد بت أقرأه حتى عفا النظر

ثم اصطحبت كميتا أستلذ بها

وخلت في سكرتي أم درمان تحتضر

ملخص ما دار حول الديوان:

انحبست مشاعر الواثق المضطرمة تجاه المدن في دواخله الجياشة وبدأت تفصح عن كنهها رويدا رويدا وشرع يدأب في أن يبثها بين الناس، فكانت صحيفة الرأي العام الأسبوعيّة هي الصحيفة الأولى التي شجعت مساره الأدبيّ ومن قبل ثقته بنفسه وبما أنتجه من قصائد، فنشرت له أول قصيدة من الديوان “أمدرمان تحتضر”. ومن ثمّ شرع لا يلوي على شئ إلا ويصدح مشاهرًا بما كتب في مدرجات جامعة الخرطوم مما أتاح لهذه التحف بأن تلقى الجمهور الذي ينشرها ويعشق نسجها. ورغم ذلك فلم تجد كما أسلفت ذكره من النقد ما يمكننا من فهم المقاصد ونرجئ الأسباب لعوامل تمسّ أغلب الظنّ قداسة عاصمة السودان الوطنيّة وعفتها المرموز إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: أهي الدهشة والاستغراب أم الصدمة لأفكار جديدة وجرأة تبحث عن مثيل ألجمت الألسن وشدهت الأبصار عن التعقيب والتعليق والدراسة؟

ومع نشر قصيدة “أمدرمان تتزوج” التي ألبس فيها الواثق أمدرمان الأنثى أثواب الغانية بدأت أصوات النساء تتعالى في صفحات الصحف وعلى منابر الرأي العام بالنقاشات الكثيرة التي كان أغلبها رسائل ومقالات لاذعة في النقد وقليل منها قد التزم الحكمة وربما المدح في التعامل مع هذه الأعمال كضرب من الأدب والكلمة الأخيرة (أدب) تحتم علينا إتباعها ضمنًا ومضموناً.

ويقول د. بلّة في مقال له في شأن قصيدة “نساء أمدرمان” الآتي: “إتخذ الأمر منحى لا يخلو من الخطورة عند نشر القصيدة ” نساء أمدرمان ” تعدى الشاعر إلى الناشر نفسه فقد كون النظام “لجنة عليا” للنظر في أمر القصيدة والناشر. وقد تأخر نشر القصائد المتواثبة بعد ذلك الذي لابد أن يعزى لأوامر هذه اللجنة”. يقول: “وقد جاء أول رد شعري علي الديوان تمثل في قصيدة التيجاني ينقض ” نساء أم درمان ” وزناً وقافية وكان قد إطرد أثناء كل هذا إلقاء الشعر في المدرجات والأندية وتوالي احتدام النقاش حول أمدرمان”

ومع إطلالة عام ١٩٧٣ ألمت بالشاعر مصائب عدّة وتوترت علاقته في مكان عمله بجامعة الخرطوم واستمرت المكائد ترصد له لكن كل ذلك لم يبطره من مواصلة عمله في الديوان فاستطاع رغم ذلك من كتابة القصيدة الأخيرة منه “جنازة أمدرمان” بنفس السنة. سافر بعدئذ إلى بيروت لنشره ونشر رسالة الدكتوراه في دار الثقافة ببيروت. وعند عدوته اشتعلت ثورة سبمتمر ١٩٧٣ الذي كان من جرائها أن اقتيد إلى سجن كوبر مع صفوة من المفكرين. وكانت النتيجة الحتميّة أن فُصل من مجلس أساتذة الجامعة وسجن بعدها في سجن بورتسودان وشاءت الأقدار أن تلقى قصائده رواجاً كبيرًا بين القراء لا سيما قراء النخبة. وازداد الطلب على الديوان بعد أن غادر السجن وقضبانه وعاد أستاذًا إلى الجامعة. جاراه صديقه أحمد عباس حاج الأمين بالشروع في كتابة ديوانه “أمدرمان تزدهر” ولكن المنية لم تتركه يكمل العمل. كما وجاراه الشيخ السماني الحفيان بقصيدة يرد فيها على قصائد الديوان بيتًا بيتًا وانتقده فيها نقدًا قاسيا بقلم شاعريّ يمتلك نواصي العربية بجدارة. وصار الديوانان صنوين لفترة طويلة لا يذكر صاحب أم درمان تحتضر إلا ودعي معه صاحب “أم درمان الحياة”. وتكاثفت مع الوقت أعداد المداخلات والمقالات والدراسات عن موضوعات الديوان وعن الشاعر نفسه. ففي كتاب “فصول في الأدب والنقد” تناولت مقالة مطولة تيمات الديوان وأن أمدرمان لا تعدو أن تكون رمزًا لامرأة حقيقة كان قد ارتبطت حياة الواثق في حقبة من الحقب.

أما فيما يتعلق بنظم ونسج الشعر، فللواثق فسلفته في ذلك وهو يرى أن الشاعر ينبغي عليه أن يطيل التملي ويحسن التفكير في نظم ونسج ما تمليه عليه آلهة شعره أو خياله الخصب ولا بد له أن يعود إلى مراجع الشعر واللغة المتباينة فاحصا منقبا بإدراك الباحث الفطن حتى يثقف نفسه، ذلك وقبل الشروع في نظم القصيدةـ فالشعر ملكة، نعم، لكنها لا تصقل وتُنمّى إلا بالجهد والقراءة والاطلاع وهو بعيد كل البعد أن ينحصر في أن يكون ضربا من الخواطر التلقائية العامة. ويسوق في هذا السياق قوله أن على الشاعر أن يطوع اللغة أيما تطويع حتى تخدم مقاصده وتسمو بأهداف القصيدة التي هو بصددها، وألا يتهرب من وعورتها ومسالكها الصعبة حتى يتسنى له أن يروضها كما راغ له كترويض المهرة الجامحة. ألا رحم الله العملاق محمد الواثف وجعل مثواه روضة من رياض الجنان.

القصيدة الثانية:

ودع لميس وداع الــواثق الخالي

قد كنت من أمــرها في أي بلبال

قد كان حبك أوجــاعاً أكتمها

وأزجر الدمــع لا يهمي بتهمال

ما كنــت أحسبنى أني تخلخلني

بعد التجاريب مني ذات خلــخال

غادرتني مثقلا أرعى النجوم ضني

لا أستقر مـــن البلوى على حالِ

من بعد ما كنت مثل الفجر منتشراً

أجر فوق أديــم الأرض أذيـالي

أكلما قمــت للعنقاء أنشـدها

قامـت لميس الي هجري وإذلالي

فلا رجعـــت ولا عادت مؤنثة

تثبط العزم منـــي قدر مثقال

******

كيما أرتق لأم درمان ما اخترمت

تلك العناكب مــن جلبابها البالي

كي أسأل السحب أن تغشى أباطحها

بواكفٍ مـن عمـيم المزن هطال

حتى أقــول إذا التاريخ عاتبني

لقـد دفعت حميداً مهرها الغالي

******

لكنما أنــت يا أم درمان غانية

تمـرغت في أباطيل ٍ وأوحـال

هجنت كل جميلٍ كـنت أعشـقه

فلا أرى في جميل غير محتال

أكلما شــدت تمثالا لعفتــها

تشيد للعار صرحاً فوق تمثالي

أكلما جـد مني العـزم تقعدني

هـذى البغي بأمـراسٍ وأغلالِ

*******

فرحت أنشد في الحانوت سلوتها

أكتم الناس أقــوالي وأفعالي

فمـا هـناك يقين بت أعلمـه

سوى الزجاجة تجلو الشك بالمال

******

فإن توعدني الرحمن في طربي

وأكثر الناس في عذلي وتسآلي

ففي غدٍ أسأل الرحمـن مغفرة

لكنما اليـوم متروك لإضـلالي

أرد للـخمــر والخمار دينهما

ظـرف بظرف وإجلالاً بإجلال

******

لكن سمعت غداة السكر ضللني

وعشعش اليوم في مهجور أطلالي

سمعت صوتاً دفينا كنت أحـذره

يقول إذ هدت الأعناب أوصـالي

بدلــت لندن بأم درمان تلزمها

بدلت زهر الربى بالسدر والضال

وكـل بيضاء ملء الدرع ناهضةٍ

بكـل عجفاء خدر البيت مكسال

******

ياصوت دعني فما أم درمان منزلتي

لولا الأواصر مـن عمٍ ومـن خال

مالي إذا الوخـز أدماها ومـزقها

لا الجلد جلدي ولا السربال سربالي

نيرون أضرم فلا يبقــى لها أثر

وأعزف نشيدك فوق المرقب العالي

أمـا أنا إن جعلت النـار ألسنة

نيرون دعني فقد أعلنت ترحـالي

مـن كل أحمد من أوشيك منقبض

وكل هــارون لا يرضى بملوال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق