ثقافة وفن

قصة قصيرة

يوميات ديور الصابون

الاستعدادات ليوم و ليلة عاشوراء

أحمد الونزاني

 بعد عيد الأضحى المبارك بأسبوع اجتمعت هيئة حكماء شباب ديور الصابون و التي كانت تتكون من خيرة شباب هذه الحومة و تقرر التالي: إحياء ليلة عاشوراء بالمشاركة في المسابقة التي تنظم محليا للحومات العريقة بمدينة مراكش. كانت فرحة شباب الحومة كبيرة بهذا الخبر، و كان الكل على استعداد للمشاركة في هذا الحدث و الحفل الكبير.

 كان يفصلنا عن هذا اليوم الموعود تقريبا حوالي عشرين يوما. تطوع بعض الشباب الذين يحفظون أشعار و أبيات العيط لتحفيظ الشباب الغير ملمين بهذا التراث الشفهي، و قد بذلوا مجهودا كبيرا في سبيل ذلك. فيما كانت مجموعات أخرى متدربة و لها باع طويل في ذلك، مما سهل العملية، كانت البروفات تأخذ وقتا طويلا و جهدا من كل المشاركين، و كان لابد من الوصول إلى ذلك الانسجام التام و الهيام حتى نتفادى عدم التناغم و السقوط في النشاز الموسيقي و التخبط في الإيقاع.

كانت عملية التدرج و التدريب على العيط صعبة للغاية، لكن تفاني بعض الشباب الحفاظ للملحون و آخرين كانوا يحظرون و يشاركون في هذه الحفلات و من السميعة و عشاق هذا الشعر و حفاظه، جعل الشباب المتدربين يعشقون هذا التراث الشفهي و يحسنون حفظه و ترديده بالطريقة الصحيحة و المتميزة و الخاصة به.

البروفات تلو البروفات، حتى أصبح التناغم بين الشباب على أكمل وجه، بل في غاية الدقة و الجمالية، فكأنك في زاوية حيث المريدين في شطحاتهم المتناغمة و المتجانسة التي تصل إلى الغياب و تجعل الروح مشرقة.

تمت الاستعدادات على أحسن حال، و تم شراء مستلزمات الحفلة من سوق الجلد أكثر من 40 طعريجة خماسية و زوجين من الدف أو الطارة و زوجين من القراقب أو القراقش من الحدادين  .تم شراء هذه المستلزمات من الحرفيين أو المعلمين الذين يتقنون صنع هذه المواد بإتقان و حرفية عالية.

كان التدريب على أشده بعد فاتح محرم، فقد كانت المجموعات تتنافس على إتقان العيط و  آفوس و الگناوي كل مساء الأولى  أمام درب الخربة و الأخرى بجانب درب سيدي مخلوف عند السقاية المشهورة بحومة ديور الصابون و التي تتميز بقدمها و جمالية مكانها و منظرها البديع  و انسياب مياهها بشكل دائم.

اقترب الموعد و دخلنا في العد العكسي للحدث و كان الاستنفار كبيرا فالكل ينتظر و يترقب كل أهالي الحومة متشوقون نساء ورجال و أطفال و شيوخ فقد سمعوا عن الأمر من أبناءهم و شباب الحي المشارك في ذلك الحدث. و بدأت العائلات قبل يومين من ليلة عاشوراء بصناعة الحلويات أو ما يسمى بالقريشلات، كما بدأت العائلات كذلك بشراء الفاكية و تتكون من الزبيب و  اللوز و الكركاع و التمر و الشريحة و الحمص و الكاوكاو و حلويات صناعية كنا نحبها كثيرا بقوالب و أشكال مختلفة. كانت كل هذه العناصر تجمع ثم   يتم اقتسامها بالسوية على كل أفراد العائلة الواحدة، مع جعل نصيب للزوار و الاحباب و الأصدقاء. كل هذه الطقوس كانت تجري في تلك الليلة الفريدة كما كانت تختار العائلات التجمع في إحدى بيوتات الآباء أو الأجداد لاقتسام الفرحة بذلك اليوم و كان الكسكس بالقديد حاضرا في مثل هذه المناسبات.

في مثل هذه المناسبات، كانت جامع الفنا و الرحبة القديمة و تابحيرت و الموقف و باب تاغزوت و حتى سوق الربيع و الخميس، تصبح هذه الأماكن مقصد الناس نساء وأطفال و رجالا لاقتناء الفاكية و الطعارج و الآلات الموسيقية و المفرقعات و كل ما يستعمل في تلك الاحتفالات.

جاء سريعا اليوم الموعود، و كان طويلا بطقوسه و عاداته الجميلة.

بدأ الليل يرخي أسداله و بدأت الفرحة تغمر قلوب الأطفال، إذ خرجوا من بيوتاتهم مسرعين يلعبون بلعبهم المختلفة و ينتقلون من زاوية إلى أخرى في كل دروب الحومة، يفرقعون المفرقعات و يطلقون الصواريخ من منصات منصوبة بدقة و يشعلون النجوم الاصطناعية و يتقاتلون فيما بينهم بمسدسات مائية و التي تحتوي على الحراقية و الفرشي و أخرى بأبعاد ضوئية، أما الفتيات الصغيرات فخرجن يحملن بنادرهن  و طعارجهن و درابكهن و نواقيسهن و يقمن بجولات من قاع الدرب حتى فم الدرب، و ينشدون : هذا عاشور ماعلينا الحكام أللا عيد المولد تيحكموا الرجال أللا  . و يرددون أغاني تراثية و محلية من التراث الحوزي الجميل.و تلتحق بهن النساء بعد الساعة العاشرة ليلا.  يبقى هذا الوضع حتى آخر الليل، فيما يخرج الشباب الصغار ليتعلمون  و يتقنون الدقة بالبدء بالكناوي ثم الختم بآفوس. ساعات طويلة لكنها في غاية الأهمية و الجمال و المتعة الحقيقية، هكذا هي مدينة مراكش في ذلك اليوم، كل الحومات تشتعل نشاطا و حركية تلك الليلة. كما يقوم شباب الأحياء الكبار منهم و حتى الرجال بتسخينات جماعية  لإثبات قدراتهم و تمكنهم من ممارسة طقوس الدقة المراكشية مبتدئين  بالكناوي و منتهين بآفوس، مكررين المحاولات تلو الأخرى لساعات دون ملل أو كلل و ك نوع من الاستعداد لحضور حفل الدقة و المشاركة في الكور.

يعم الهدوء بعد الساعة الثانية فجرا و

الترقب كل حومات مراكش حيث يتم البدء في بعضها بمراسيم حفلة الدقة فيما تتأخر أحياء أخرى حتى مطلع الفجر أو بعد صلاة الصبح. كان قد تقرر البدء في حومة ديور الصابون عند الساعة الثالثة والنصف فجرا، بدأت الجموع تتوافد على المكان المزمع تنظيم فيه حفلة الدقة. النساء والأطفال و الرجال و الشيوخ، الكل جاء لحضور الحفلة أو الكور، بدأ الضجيج و الصخب يعم المكان، و هنا تدخل المنظمين من شباب الحومة و أغلقوا منافذ الحومة من الشمال والجنوب ببراميل كبيرة تحيط بها  القنب و متاريس خشبية  و قد تم انتداب زمرة خاصة لحماية الكور و لحماية المتفرجين عند حدوث أي طارئ.

جاءت المجموعتين المكونتين للكور في الموعد المحدد، و جلسوا في تقابل و تناظر و تماثل عجيب  ك  أنهم في حلقة ذكر، ثم بدأت التسخينات و التي استمرت لأكثر من نصف ساعة و بعدها ساد الصمت و الهدوء و بدأت الأصوات ترتفع بالصلاة و السلام على رسول الله، و بعدها بدقائق معدودة بدأت الحفلة أو الكور. بدأت المجموعتين تردد في تقابل عجيب أبيات من شعر العيط مبتدئين بالبسملة ثم الصلاة والسلام على رسول الله. كان الإيقاع في غاية الإتقان و زادته جمالا روحانية الأشعار و سكون الليل و أصوات الطعارج المنسجم مع دقات القراقش أو القراقب و دقات الطارة أو البندير التي تزيد من هذا التناغم مع الصدى الذي يتردد في كل جنبات المكان و يزيد هذه الصورة خشوعا لا نظير له.

أصبح الكور يزداد انسجاما مع الوقت و أكثر دقة بعد ما تدخل العراج ليحد من نشاز بعض الأفراد من المتطفلين على الكور أو اولائك الذين لا يتقنون الميزان المتبع في ترديد العيط مع عدد دقات الطعارج و قفلات القراقش.

مع وصول الدقايقية إلى مقطع: وانا في عار الزاوية – زاوية المؤمنين.

حتى بدأ الإيقاع يشتد و بدأت الأحاسيس تهتز و نشعر بأننا قطعنا أشواط كبيرة و أن النجاح في المهمة أصبح قريبا،  كان العيط قد أخذ منا جهدا كبيرا و وقتا طويلا و اقتربنا شيئا فشيئا من آفوس و الدخلة بشكل بديع حتى أنك لا تستطيع التمييز كيف كان الانسياب التام من آفوس إلى الدخلة و روعة ذلك الانسياب التام، جعل كل المتابعين من المتفرجين ينبهرون بجمال و دقة ذلك الانسياب التام و التناغم في الميزان.

كان التنقيط لحومة ديور الصابون : الامتياز. انتقلت المجموعتين من آفوس و الدخلة إلى الكناوي بشكل كامل و في انسجام تام و اتحدت المجموعتين و اختلط الجمهور بالشباب و استمرت الحفلة حتى بزوغ نور الصباح الباكر و بعد عودة المصلين من صلاة الصبح . كانت التصفيقات و الهتافات و الزغاريد تصل من كل اتجاه، كما كان العناق بين أفراد المجموعتين و شباب الحومة ك تعبير عن النجاح في المهمة بكفاءة عالية.

هكذا انتهت أطول ليلة في حياة المراكشيين عموما، من حيث تفاصيلها الكثيرة و الطويلة، بانتهاء كور الدقة الذي يقام في أغلب حوماتها و أحيائها العريقة.

بعد ذلك اليوم الحافل بالأحداث يأتي اليوم التالي و الذي في عرف أهل مراكش يقوم شباب الحومات المتميزة بجولات داخل أحيائها و يجمعون ما تجود به العائلات العريقة و الكريمة. و فعلا قمنا بجولات في كل من درب الخربة و درب سيدي مخلوف و درب بنطالب و في زاوية من حومة ديور الصابون و جمعنا مبلغا كبيرا . هذا المبلغ سمح لنا بإقامة النزاهة المراكشية بكل تفاصيلها.  كما تم استدعاء شباب الحومة لإقامة حفلات الدقة المراكشية بتفاصيلها المميزة من قبل بعض أعيان الحومة في الرياضات التي يمتلكونها (الرياضات: عبارة عن قصور متوسطة الحجم، غاية في الجمال من حيث الهندسة و القيمة المجتمعية. ) كانت حفلات يحضرها الخاصة والعامة، و لا يعرف بها إلا من لهم ولع و مهتمين بالتراث الشفهي و يحضرها كذلك باحثين و مختصين في التراث الثقافي.

أقمنا النزاهة بحي ديور الصابون بدار البيضاوي، كانت الظروف المادية جيدة سمحت لنا بإقتناء عجل سمين و ما يلزم من الدجاج وشراء الحلويات، كما قمنا بحجز فرقة موسيقية تراثية لإحياء حفلة النزاهة و تم استدعاء كل شباب الحومة من دون استثناء و آخرين من خارج الحومة للحضور.

كانت ليلة لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة. و من روعة و جمال هذه الحفلة أننا كنا محط اهتمام و أنظار المولعين بهذا التراث الثقافي الشفهي، حتى أننا أقمنا تلك السنة عدة حفلات من حفلات الدقة المراكشية عند بعض الأعيان في حومات و أحياء أخرى.

هذا هو المشهد الذي كان سائدا في زماننا، و نظرا لولعي و حبي الكبير لحد الهوس بالدقة المراكشية و عيطها الذي احفظ منه الكثير كتبت هذه السطور للذكرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق