الفن التشكيليّثقافة وفن

مشاهد شعر شرقي وغربي في أعمال معرض “عشق” المشهدي

د. أحمد عامر جابر*

“ما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً” شمس الدين التبريزي

الفنانة السعودية أحلام المشهدي، من التشكيليات ذوات الحضور الواضح والبصمة المميزة في المشهد التشكيلي السعودي. هذه البصمة المميزة فتحت الطريق لها للتواصل مع مشاهدي وعشاق الفن التشكيلي في الوطن العربي وخارجه عبر العرض في صالات حقيقية وأخرى افتراضية بسبب عدوى “كرونا” التي عبرت عنها ببعض الأعمال. المشاهد للمعرض (بصالة ” نايلا” بالرياض، ١٢-١٤ يناير ٢٠٢١ والمحتوي على ٣٦ لوحة، منفذة بمواد ومقاسات مختلفة)، يجد نفسه موغلاً منذ الوهلة الأولى في فضاء فن بصري، يشحذ الوجدان بمشاعر وعواطف جياشة تحفز كل وجدان حي وذهن مستنير للإشراق بلا حدود. لذا لا غرابة في تدفق خواطر وأحاسيس، تنثال منسابة بلا توقف في هذا الباب (العشق)، يكون فيه للشعر العاطفي نصيب ملحوظ. إذ تُذكِر الأعمال المشاهد، بتجارب عاشها وأماني يعايشها عبر أزمنة وأمكنة مختلفة، بل تمثل ما يمكن تسميته “المعادل الموضوعي” الذي قال به الشاعر والناقد الكبير تي إس إليوت في مقالته القيمة “هاملت ومشاكله” (١٨٨٨-١٩٦٥). جدير بالذكر أن إليوت قد ألهم كاتب هذه السطور إقامة معرضين عن شعره ومقالين مختلفين (بالعربية والإنجليزية) عن أعماله وسيرته.                                                                                                                                              

لا شك أن ثقافة الفنانة الواسعة ساعدتها كثيراً في إنتاج محتويات معرضها المنسجم في جوهره مع مضمون قراءاتها في الفلسفة والشعر والنثر والتي شملت في الأخير، “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية البريطانية إلف شفق لتمضي بذلك لأبعد من مقالة إليوت عن مأزق الإنسان في “هاملت”، أو كالذي تصوره قصيدته الشهيرة “أغنية حب جي الفريد بروفروك” التي يقول مطلعها:                                                                                                                              

هيا بنا نذهب، ثم أنت وأنا

حينما يمتد المساء باتجاه السماء

كمريض مبنج على منضدة

……

في الحجرة النساء يجئن ويذهبن

يتحدثن عن مايكل أنجلو

إن سعة أفق إليوت (صاحب “الأرض الخراب”، القصيدة الفارقة في الشعر المكتوب بالإنجليزية، التي تدين إيغال الحضارة الغربية في المادية، والتي كان لها أثرها في كتابة قصيدة الحداثة العربية وما بعدها)، قد أوحت في “بروفروك” بتداخل الشعر والتشكيل بل الموسيقى والمسرح وغيرهما بما يتسق مع قول التبريزي أعلاه في حب الإنسان والله. هذا الاتساق يتجلى في قصيدته “أربعاء الرماد” التي توحي بحب السيدة مريم العذراء، أيقونة العفة التي تجسد حقيقة الإيمان، كرمز، كما جاء في “القرآن الكريم”. تقول بعض أبياتها:                                                                                                                                             

الزهرة الوحيدة

هي الآن الحديقة

التي ينتهي عندها حب الجميع

ولعله من نافلة القول، ذكر أن إليوت الذي اضطلع كغيره من الغربيين على فلسفات الشرق وثقافته يجئ هنا ليس فقط لآنه استلهم شعراء عظام كثر، شرقاً وغرباً ولكن لآثره على الثقافة والأدب العربي كما هو مذكور. غير أن هذا لا يُنسي مكانة شعراء رموز كشكسيبر مبدع “روميو وجوليت” وجوته صاحب “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” أو شيلي، رامبو، لوركا، ريلكه وغيرهم. بيد أن كل ما ذكر لا يغني بدون الإشارة لاستلهام الفنانة لتراثها العربي حيث “الشعر ديوان العرب” وحيث موطنها الذي عرفت عبره “المعلقات السبع” التي زينت أقدس البقاع زمناً فكان أمرؤ القيس وليلى، عنترة بن شداد وعبلة وجميل وبثينة وغيرهم من الشعراء والعشاق قبلهم وبعدهم. وحديثاً من لم يسمع بقباني، الفيتوري ودرويش والبياتي وغيرهم؟ لا شك أن الأمثلة المعبرة عن عيون الشعر العربي في هذا الباب وغيره لا تحصى، لكن وفقاً للسياق العام لمقصد هذا المقال والمعرض، يجدر الاستشهاد بقصيدة “بانت سعاد” لكعب بن زهير في مدح الرسول الكريم إذ يقول:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين اذ رحلوا

الا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي منها قصر ولاطول

خلاصة القول، أن أعمال المعرض التي تناغمت مع عبقري الشعر جاءت بعنوانين كأنها أسماء قصائد وأنها شاعرية مظهرها تذكر بأعمال فنانين مثل جوستاف كليمت الرومانسي وسلفادور دالي السريالي. من بين هذه الأعمال:أعماق، زهور محفوظة بتقنية الناوفريز الدائمة، ٩٠ف٧٠/ لحب في زمن الكورونا، ٧٦ ف ٧٦، اكريليك وكولاج وخامات أخرى / العزف على أنغام الحياة، اكريليك، ٦٠ ف٦٠/ غرق، اكريليك وخامات أخرى على كانفس، ١٠٠ف ١٠٠/ يا ذكراك، اكريليك، ١٠٠ ف١٠٠ / عزلة، اكريليك وخامات، ٧٠ ف٩٠/ طيف ذكراك، اكريليك وخامات، ٧٦ ف ٧٦/ أعطني الناي وغني، اكرليلك، ١٥٠ ف١٢٠/ خذني إلى عالمك، ١٠ ف ١٠، حبر على ورق.  تقول المشهدي عن معرضها: “هو دعوة للإبحار بين مفردات العشق وتحريك القلوب الساكنة. هو دعوة لكل عاشق يعي ويدرك العشق بنعيمه وجحيمه” ولعلها تقرأ بهذا ما بين سطور قصيدة “معزوفة إلى درويش متجول” للفيتوري و “قمر شيراز” للبياتي اللتان منهما على التوالي:                                                                                                                                            

في حضرة من أهوى

عبثت بي الأشواق

حدقت بلا وجه

ورقصت بلا ساق

……..

عشقي يفني عشقي

وفنائي إستغراق

مملوكك لكني

سلطان العشاق.

                                                                   

أجرح قلبي، أسقي من دمه شعري، تتألق جوهرة في قاع النهر الإنساني، تطير فراشات حمر، تولد من شعري، امرأة حاملة قمراً

شيرازيا في سنبلة من ذهب مضفور، يتوهج في عينيها عسل الغابات

وحزن النار الأبدية، تنبت أجنحة في الليل له، فتطير، لتوقظ شمساً

نائمة في حبات العرق المتلألئ فوق جبين العاشق، في حزن الألوان

المخبوءة في اللوحات: امرأة حاملة قمراً شيرازياً، في الليل تطير…

في ختامه لابد من قول إن هذا قليل من كثير يمكن قوله بشكل عام، عن معرض “عشق” أحلام المشهدي وفنها ذي المعاني في وقت اختلط فيه الحابل بالنابل.

*باحث وتشكيلي سوداني-بريطاني

يقيم في لندن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق