ثقافة وفن

ساعة «بيغ بن» الشهيرة في مبنى البرلمان

د. نجيب خليفة

بالصدفة حدثني صديقي الجميل، الدفـي تلـك الليلـة وقبـل بـزوغ الفجـر بقليـل، وبعـد أن تأكـدت مـن سـلامة ابنـي، خرجـت لأتمشـى قليــًلا حــول المستشــفى علــَّي أستنشــق بعــض الهــواء العليــل لاسترجاع بعضــًا مــن قــواي التــي كانـت قـدُ أنهكـت تمامـًا أثنـاء تلـك اللحظـات العصيبـة. ذّكرتنـي تلـك اللحظـات الصعبـة والحزينـة التـي مـررت بهـا وابنـي فـي غرفـة العنايـة المكثفـة فـي وضـٍع حـرج، ثـم الشـفاء، ثـم زخـات الأمطـار وأنـا خـارج المستشـفى؛ ذكرتنُـي بأبيـات قصيـدة يزيـد بـن معاويـة البديعـة التـي تحـدث فيهـا الرمـق وإن كان سـياق مختلـف، قائلا: واسـترجع ْت سـأل ْت َعنـي… فقيـل لهـا مـا فيـه مـن رمـق… ودقـت

يـداً ِبيـد… وأمطـر ْت لُؤلـؤاً مـن نرجـس وسـقت ورداً…. وعضـت علـى العنـا ِب ِبالبـرد.

وبينمـا كنـت أتمشـى خـارج المستشـفى فـي جنـح الدجـى وأتنفـس الصعـداء فـي ذلـك الليـل البهيـم بعـد تلـك التجربـة القاسـية والهـدوء يكتنـف المـكان الـذي كان يحفـه الضبـاب، مـع زخـات مـن المطـرالخفيـف المتقطـع وكأنهـا تمطـرلُؤلـؤاً مـن نرجـٍس، وسقت وردا .. وعضت علي العناب بالبرد .. إذِ رَّن فـي أذنـَّي صـدى دقـات سـاعة بيـغ بـن (Big Ben) الشـهيرة مـن علـى البعـد وفـي مبنـى البرلمـان البريطانـي علـى شـط نهـر التايمـز، معلنـة تمـام الرابعـة صباحـًا بتوقيـت غرينتـش. كان ذهنـي لا يـزال مصدومـا يسـترجع مناظـر تلـك الأجهـزة في المستشـفى وهي تعمـل بدقتها المتناهية، تمامـًا مثلمـا تعمـل سـاعة بيـغ بـن لأكثـر مـن 156عامـًا (شـّيدت عـام 1859م).تعتلي سـاعة بيـغ بـن بـرج قصـر «ويستمنسـتر» (Westminister) الشـهير الـذي يـأوي مقـر البرلمـان البريطانـي، الأقـدم فـي العالـم، بمجلسـيه: مجلـس العمـوم ومجلـس اللـوردا ت فـي قلـب لنـدن ويطـل علـى نهـرالتايمـز.

مــن هــذا المبنــى ومــن مكتــب رئيــس الــوزراء فــي شــارع «داونــغ اســتريت» القريــب مــن البرلمــان، حكمـت بريطانيـا العالـم بمـا فـي ذلـك إنشـاء دول حديثـة عـدة مثـل الولايـات المتحـدة الأمريكيـة، كنـدا، أسـتراليا ونيوزيلانـدا. كمـا وقـد حكمـت لقـرون شـبه القـارة الهنديـة وجنـوب شـرق إفريقيـا بمـا فيهـا السـودان ودول أخـرى كثيـرة. وقـد لا يتذكـر البعـض أن دو ًلا كبـرى مثـل كنـدا وأسـتراليا ونيوزيلانــدا، التــي أسســتها فــي الأصــل بريطانيــا، مازالــت تحــت التــاج البريطانــي؛ وأن الهنــد والباكســتان ونيجيريــا وعــدداً مــن الــدول الأخــرى مــا زالــت منضويــة تحــت لــواء «الكمونولــث» البريطانــي. بالطبــع لا يعنــي الحديــث هنــا امتنانــي للاســتعمار الــذي َن َهضــت الشــعوب ومنهــا الســودان- لطــرده مــن بلادهــا، وإنمــا فقــط للســرد التاريخــي والواقــع المعــاش.

مبني برلمان ويستمنستر وبرج ساعة بيغ بين بلندن

كذلــك فلقــد تعجبــت مــن كيفيــة عمــل عقــل الإنســان، ففــي ذلــك الموقــف الحــرج الــذي كنــت فيــه فــي تلــك الليلــة ذكرتنــي دقــات ســاعة «بيــغ بــن» بصوتهــا الرنــان، بصــوت «النوبــة» فــي احتفـالات المولـد النبـوي الشـريف فـي السـودان. وتذكـرت رائعـة شـاعرنا محمـد المهـدي المجـذوب وهــو َيصــف الفتــى فــي حلقــة الشــيخ فــي المولــد وهــو يضــرب النوبــة، فتئــن وتــرُن، وكيــف أن المطـرب المبـدع عبـد الكـريم الكابلـي، صاحـب الفـن والكلمـة العذبـة والأداء الراقـي المتقـن والجميـل الــذي يشــجي الفــؤاد و ْيســكن القلــوب، وقــد حــ َّول تلــك الكلمــات الرائعــة إلــى لحــ ٍن تنتشــي بــه الأرواح قبـل الأبـدان. كنـت فـي كثيـر مـن الأحيـان، وأنـا أمـارض ابنـي ليـلا فـي مستشـفى هارلـي إســتريت، أســمع دقــات ســاعة «بيــغ بــن» مــن علــى البعــد وهــي أيضــا تئــن بصوتهــا الرنــان علــى رأس

كل سـاعة.يعطي كذلـك الصـوت المميـزالشـعوربالراحـة والطمأنينـة ويذّكـرك بأنـك فـي قلـب الإمبراطوريـة البريطانيـة العريقـة التـي لـم تكـن لتغـرب عنهـا الشـمس، والتـي انطلقـت منهـا الثـورة الصناعيـة ومـا تلاهـا مـن تطـور فـي المجـالات كافـة مـن ضمنهـا الطـب الحديـث، الـذي نحـن بصـدده

وننتفـع منـه الآن. واســتحضر ُت، أيضــا، ســيرة الدكتــور الألكســندر فليمنــغ مكتشــف المضــادات الحيويــة بالصدفــة إبـان الحـرب العالميـة الثانيـة، وعندمـا كان يعمـل فـي مستشـفى «سـينت ميـري» القريـب مـن هارلـي إســتريت وهــو العقــار الــذي أنقــذ حيــاة ابنــي للتــوء. فمنزلــه وعيادتــه الخاصــة يقعــان بالقــرب مــن مستشــفى «هارلــي إســتريت» ويعتبــران مــن المبانــي البريطانيــة الأثريــة التــي ُيمنــع هدمهــا أو تغيــر

واجهتهــا لأهميتهــا التاريخيــة وتخليــداً لذكــراه.

عن كتاب #ابني_وصراع_مع_السرطان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق