أدبقصة قصيرة

تساؤلات جنين يحتضر في ليلة قصف

بقلم الدكتورة / آسية وعيل

منذ أن بدأت أشعر وأنا أغط في سبات عميق، وأحلم أحلاما جميلة وردية، لونها بلون الفراش الذي أتململ فيه؛ وأنا هنا خالي البال، صافي الذهن من أي هواجس أو أحزان تؤرق مضجعي. إنّي أشعر وكأني في جنّة، بل فعلا أنا في جنّة لا نصب فيها ولا وصب، إذ كل ما فيها راحة ونوم فنوم…وأحلام مؤجّلة لغد مشرق في دنيا قيل لي عنها بأنّها جميلة؛ فذاك الصّوت العذب المنبعث من بعيد يحدثني عنها بين الفينة والفينة، ويروي لي عنها حكايا “ألف ليلة وليلة”، ويعدني بسعادة هي بانتظاري فيها…في أروع أعجوبة سمّاها “الحياة”، ما جعل هذه الأعجوبة مركز أحلامي، فصرت لا أتوقّف لحظة عن الشّعور بها رغم أني لم أرها بعد؛ وكم رسمت لها من خطط ومشاريع…وكم تمنيت رؤية ما سمعته عنها…وكم…وكم…وكم.
إنّ ذلك الصّوت الشّجي، الذّي يناديني دائما “حبيبي”، هو صوت أمٍّ فاتنة تحملني بين أحشائها وترعاني بكلّ حب وحنان. أمٌّ تتمتع بكلّ معاني الشّموخ والعنفوان…في بلدي الأبيّ الذّي تحدثني عنه دائما حتّى أحببت وطني قبل أن أراه، ورغبت في أن أولد فيه، وأعيش في كنفه حرا كريما؛ ومن فرط حبّي له لا أذكر كم مرة دغدغتها متسائلا: “أماه…حدثيني عن وطني…أريد أن أعرف عنه المزيد…حتى أحبه أكثر فأكثر”، فتبتسم لي ابتسامة ملائكية جذابة أشعر بها من نبضات قلبها، وتسترسل في الحديث عن سحر وطني وجماله…وطيبة أهله وإبائهم، ولا أذكر كم مرّة ألحيّت عليها بركلاتي كي تغنّ لي بعضا من أغانيه، فتمتعني بمواويل تخترق بلحنها الحزين قلبي، وتبعث فيه شجنا عميقا لم أدرك سببه حتّى الليلة.
نعم… في هذه الليلة تحديدا…وبينما أنا نائم كعادتي بين أحضان رحم أمّي…وهي تردد على مسامعي أنغام الحّب والشوق…وتحسّس عليَّ بأطراف أصابعها…فتشعل في قلبي نار قشعريرة تسري في جسدي…وتفجّر فيه نشوة حبّ عارمة تدغدغ كلّ جزء منه…. وأنا أتلذّذ بذلك وأحلم…إذا بزلزال عنيف يحطّم بلّورة أحلامي، ويهزّ عرشي فيوقعني منه، ويلفّ حول عنقي حبل الحياة الذّي طالما كان بالنّسبة لي مصدر أمان وامتدادا، فصار في ومضة عين مصدر ألم ومعاناة. في غفلة منّي، اهتز كياني كله…وصحوت من غفوتي…ونبضات قلبي تتسارع…ثم انتابني الصّداع من وقع الحبل المطوّق على عنقي… وصدى الدّوي المتعالي الصّادر من هناك…من بعيد، فسألت أمّاه بركلات قدميَّ الصّغيرتين مذعورا لأول مرة في حياتي وقلت لها: “ماذا حدث أماه…أخبريني…لماذا انتفضت من فراشك مذعورة…فانزعجت وأزعجتني معك؟ وما مصدر هذه الأصوات المخيفة القادمة من جهات الكون الأربع؟”.
ردت عليّ وهي تتلعثم في الحديث رعبا ووجلاً:” إنّها الحرب يا حبيبي”، فسألتها ثانية برفسة أقوى…وهي ترتجف بارتباك لم أعهده فيها من قبل…: “ما معنى الحرب أماه…لما لم تحدّثيني عنها من قبل… ولماذا ترتعشين خوفا منها…أخبريني ماذا هناك؟”، إلاّ أنّها في هذه المرّة رفضت الإجابة على أسئلتي على غير عادتها رغم إصراري… بل انتفضت كحمامة نجت من طلقة قناص ماهر كي تلوذ بالفرار. هنا بدأت ركلاتي تزداد شدة…وأنا أردد أسئلتي عليها بإلحاح وإصرار:” أماه… ما معنى الحرب؟ أخبريني بالله عليك ما معناها؟”، بيد أنّ هلعها كان أكبر من أن تجيب عن تساؤلاتي.
بعد أن يئست من الظّفر بجوابٍ شافي، قرّرت التزام الصمت ومراقبة الأوضاع بحذر شديد، محاولا تناسي ألمي، ومع ذلك بقيت أتساءل في قرارة نفسي بكلّ حيرة واستغراب:” ما هي هذه الحرب التي جعلت أمي تقفز من سريرها…والخوف يقطّع أوصالها ويسيل دموعا حراقة من عينيها…فتغرق قلبي في بحر عميق من مشاعر ألم وخوف لم أذق طعم مرارتهما من قبل؟”.
خرجت أمّي من البيت مهرولة في دهليز مظلم، وهي ترمي بخطواتٍ متعثرة هنا وهناك خبط عشواء، وتمسك بي بين يديها قائلة: “علينا العثور على مخبأ بسرعة يا بنيّ…عسانا ننجو من هذا القصف…إنهم يقصفون المدنيين العزل”.
إنّها تجيب بكلامها عن بعض تساؤلاتي الكثيرة المتهاطلة على ذهني تهاطل القصف المتكاثف، إذ فهمت منه بأنّ القصف معناه الحرب، وأنّ هناك من يريد تدميرنا وتدمير وطني الذّي طالما حلمت برؤية جماله، لهذا أما مرعوب من أن أموت قبل أن أراه، فقد أصبت بعدوى الخوف التّي تملّكت أمي حتّى أنّها لم تعد تقو على السّير…وتجّر قدميها جرّا… وهي تستند على حيطان مباني مدينتي الصامدة لحدّ السّاعة صمود أمّي وعنفوانها، غير أنّي أشّك في أنّ هذا القصف سيعتقنا ويحترم صمودنا.
نحن نسير ونلهث من التّعب، وأمّي تنظر يمنة ويسرة…حتّى خرجنا للشّارع الرّئيسي وسط الغيوم الدّخانية السّوداء…سواد قلوب هؤلاء…وأمي تردد: “رحماك يا ربّ ليس لنا سواك”، ففهمت من دعائها أنّه لا حاميَّ لنا اليوم من القصف غيره، وبدأت أشعر بالاختناق بسبب الدّخان الرّابض على صدر أمي…وحبل المشنقة يضيق حوالي عنقي أكثر فأكثر…فيزيد من اختناقي ويجعلني في جحيم لا يطاق…لهيبه بلهيب سيل القذائف الجارف وكأنّه أبرم معاهدة تحالف مع هؤلاء ضدي…فاجتمع الجميع على تنفيذ حكم الإعدام فيّ دون أي ذنب يُذكر.
تنهّدت أمي تنهيدة عميقة، شقّت بحسامها طريقا بين جحافل الدّخان الغاشم، وحسّست علي منشدة لحن ألم أزلي يردّد قصيدة اصطبار يائس مطلعها: “لا تخف حبيبي…سنجد مخبأً…وهناك سنكون بأمان”…فاعترتني نغمته الحزينة…المنتهية بغصة تذبح بخناجرها حبال صوت أمي…وتهيّج معها شجوني، فتجاوبت معها بسرعة المذبوح الذّي يسعى للفرار من يد ذبّاحه، وأجبتها بنداء حدادي: “عن أيّ أمان تتحدثين أماه…إذا لم يكن بإمكاني التّمتع بحدائق أزهاره حيث أنا في ملكوتي الخياليّ الوردي…فكيف لي به حيث أنت…في دنيا ليست كما كلمتني عنها أبدا…أنا لا أرى لها الآن جمالا ولا أحلاماً وردية…بل كلّ ما أعيشه فيها حاليا هو القصف… الحرب… ومشاعر كره ظلامية تقتل بسمومها كلّ جميل فيّ”.
شعرت أمّي بحزني فوقعت أرضا، ووقع غطاؤها بل درعنا من على رأسها وهي تصرخ باكية: “يا الله”…فصرخت من ورائها: “فداك روحي أمّاه…لا تتعبي نفسك بالصّراخ…قد صمّت الآذان عن سماع صراخك…وزاغت القلوب عن الإحساس بوجعك…ما عليك إلا برباطة جأشك…فقد عهدتك شامخة شموخ جبال بلادي…فلا تتخاذلي أمّاه…أنت رمزي ومددي…التقطي درعك رجاءً واستمرّي في المسير”، فأجابتني والدّموع تنهمر من سواقي عينيها الساحرتين: “ما باليد حيلة حبيبي…بذلت كل ما في وسعي لإنقاذك…إلاّ أنّي أنزف حدّ الموت…والظّاهر أنك لست محظوظاً كفاية كي تولد لتراني…ترى الحياة…وترى وطنك وتستنشق هواءه … وتمشي فوق ترابه…وتدافع عنه أمام هؤلاء”، فأجبتها والثّوب الملكيّ الأحمر القاني يكسوني من قمّة رأسي إلى أسفل قدميّ: “لا لوم عليك اليوم أمّاه…إنّه حظيَّ العاثر…فكفكفي دموعك لأنّي لا أطيق رؤيتك تبكين…ولا تستسلمي بل قاومي حتى الرّمق الأخير”.
هبت من سقطتها، وانتفضت بكلّ شموخ بعد أن رمت عن نفسها وهن الخوف والألم، متوّجة بإكليل من باقة تضحية حمراء…نُقشت على بطاقتها البيضاء… بأحرف سيقت من فردوس الخلد…عبارة تتلخّص فيها كلّ معاني الحياة وقالت: “أحبك بنيّ…وسأستميت في إنقاذك”، فنسفت هذه العبارة كلّ ترسانات الخوف التّي كانت تهدد كياني، ولم تبق لها أثرا…إذ ما عدت أولي أهمية لا للخوف…لا للقصف…لا للحرب… ولا حتى للموت، بل أضحى همّي منصبّا في أن تنهض أميّ من جديد، وتذيب بمشعل التّحدي الملتهب في بريق عينيها جليد الخوف الرّابض على جسدها، فتسري في عروقه حِمم المقاومة المستنهضة للهمم، كي تدفعنا للسير معاً في طريق الصّمود لقهر الكره القاتل…هذا الوحش الأزلي…غول الأساطير القديمة والجديدة الذّي يدمّر كل معاني الجمال في الحياة.
هاهي أمّاه، كما عهدتها، في قمة عنفوانها، تُمسك بدرعها وتسعى للنّهوض، وأنا أشجّعها بعلم الإرادة، وأردّد لها شعاره السّرمدي: “أنت وطني أمّاه…فلا تستسلمي”… فقامت…وقامت معها قوّات الشّجاعة تقدّم لها تحية إجلال وإكبار؛ فخطت أمّي الخطوة الأولى…ثمّ تلتها الثانية، وما إن راحت تخطو الخطوة الثّالثة حتّى تمزّق غشاء السّماء من فوقنا، وأطلّت منه جمرة كره وحشية، تعدو بصهيلها وتسابق الزّمان، وتتسارع مع خطى أمّي حتى حطّت في ومضة عين، ودون استئذان، بين قدميها واحتلّت المكان…مستبيحة حرمته…ثمّ فجرته بكلّ استهتار واستهزاء…معلنة انتصارها بدوي هستيري…غنّت به نصرا مزيفا…شعاره الكره والدّمار ؛ وهنا فاضت روحينا إلى السّماء، فتعانقتا وهما تتحررّان من قيود الخوف والألم، وانطلقنا بحرّية لا مثيل لها في بُعد لا مكان فيه لا للظلم…لا للقصف…ولا الحرب، بل كل ما هنالك سلام في سلام، ورجعت إلى سباتي العميق.. لكن هذه المرّة ليس للحلم بأعجوبة الحياة، فما عشته فيها كفاني منها، بل عدت إلى نومي للحلم بأن يتحقق السّلام فيها يوماً، وقبل ذلك سألت أمي السؤال الأخير: “أتراه سيتحقق حلمي يوماً يا أمّاه؟!”.
اللوحة للتشكيلي السوداني:الأستاذ طارق نصر

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. براعة الحبكة و جمال السرد جعلا عيني تسابقان عقلي و وجداني في الركض وراء الحروف بدون القدرة على التوقف حتى نهاية القصة.
    كاتبة متمكنة مالكة لزمام أدوات الكتابة تماماً.
    شكرأً على هذه القصة الجميلة الحزينة.

    1. كل الشكر لك سيدتي..تعليقك نابع من ذوقك الرفيع .. ويشرفني أن تكون روايتي قد نالت اعجابك رغم ما فيها من ألم وحزن.

  2. حبكة وكونودراما عاليان… الاشتغال الفلسفي واضح جدا.
    والتشويق حاضر بقوة.
    سعدت بالقراءة وتمتعت بالتجاذبات التفسية وبالقيم المفعَّلة.
    أحسنت دكتورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق