ثقافة وفنقصة قصيرة
أخر الأخبار

في القبر السر المكنون (1)

قصة واقعية

د. إسماعيل محمد النجار

الحلقة (1)
︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾

**دراسة خالد وزينب وزواجهما:

خالد وهيب الصياد، وزينب سميح الموردي، نشآ وترعرعا في قرية الخربة، ودرسا في مدرسة المعارف الابتدائية، والإعدادية والثانوية بقرية الأملوك المجاورة لقريتهم، يقطعان المسافة ذهاباً وعودة بين القريتين مع بعض طلاب القرية مشياً على الأقدام، وارتبط خالد وزينب بعلاقة قوية، بحكم الجوار في المنزل والحقول الزراعية، وتقارب أعمارهما، وصلة القرابة بين أسرتيهما، وغالباً ما يترافقا في سيرهما للمدرسة والعودة، ويتبادلان الطعام والماء وحاجات المدرسة، تحكمهما علاقة احترام وثقة، وحب عذري متبادل في داخلهما، وإن لم يفصحا عنه، ولدى أسرتيهما قناعة ورضىً لارتباطهما.
وعند انتهائهما من الثانوية العامة، حرصت أسرتيهما على مواصلة دراستهما الجامعية في صنعاء، على أن يسكنا في السكن الجامعي، ويلتحقا بكلية الهندسة، ليختار خالد قسم الهندسة المعمارية، بينما اختارت زينب القسم الإنشائي، وظل كل منهما ينتبه ويتفقد الآخر، ليعطيا بعضهما الأكل ومحتاجاتهما الهندسية، ويقوم خالد بتأمين كل محتاجات زينب، ويسافرا عند الإجازة لقرية الخربة، ويعودا عند الانتهاء لصنعاء لمواصلة الدراسة.
وفي سنة ثالثة، اتفقت الأسرتان على ارتباطهما، ما دام وهما في حالة لقاء وتواصل مع بعض، ولم يبق إلا أن يتزوجا، ويدرسا في منزل واحد، وأن يؤجلا موضوع الإنجاب حتى الانتهاء من دراستهما الجامعية.
وفي الإجازة الصيفية لسنة ثالثة، احتفلت الأسرتان مع القرية والقرى المجاورة بزفافهما، وعادا لصنعاء بعد انتهاء الإجازة، ليستأجرا منزلاً قريباً من الكلية، مكوناً من غرفة وصالة صغيرة، وحمام ومطبخ صغيران، ليعيشا ويدرسا، ويسافرا في الإجازة لقرية الخربة لقضاء إجازتهما مع أهلهما، وعند اقتراب السنة الدراسية يعودا للدراسة، حتى حصولهما على البكالوريوس وبدرجة امتياز، وبحثا عن عمل في صنعاء، على وظيفة في وزارة الأشغال صباحاً، وفي مكتب هندسي خاص مساءً.
وبعد سنة، وصلا لقناعة نقل عملهما للحديدة، وحصلا على موافقة الوزارة لنقل وظيفتهما لفرع الأشغال في الحديدة، وفتحا مكتباً هندسياً، ووظفا بعض المهندسين من تخصصات مختلفة، وعدداً من الفنيين، ليشتهر مكتبهما الهندسي في الحديدة، وتولى التخطيط والتنفيذ لمشاريع هندسية كبيرة، وحصلا على مبالغ مجزية، ليبنيا خلال عام عمارة مكونة من ثلاثة أدوار، قريبة من الساحل، وأنجبا ولدهما الأول (كريم)، وعاشا حياة كريمة، على الرغم من مجهودهما في العمل صباحاً ومساءً، ويسافرا بين الوقت والآخر لقرية الخربة، لقضاء إجازة لبعض الأسابيع مع أهلهما والعودة للحديدة.
وعند بلوغ كريم سنةً من العمر، حملت زينب بمولودها الثاني، ووضعته، وسمي (أكرم)، وبعد ثلاث سنوات، توسعت أعمال المكتب، وعينا محاسباً وحارساً للمكتب الهندسي، يثق به خالد وزينب ثقة مطلقة، بل ويستعينا به لقضاء مشاويرهم، وإحضار سيارات الأجرة في حالة سفرهما أو تنقلهما.
وفي يوم الأربعاء، نصح المحاسب منذر المهندس خالد وزوجته، أن يأخذا مبلغ الخمسة ملايين، التي تكدس في الخزانة للبنك، أو مكان آمن، ليرد عليه المهندس خالد: إنه بحاجة للمبلغ لتوظيفه في بناء منزلين لأسرته وأسرة زينب ليتوسعا، على أن يحتفظا بملحق خاص في المنزلين، وأنهما سلما المخطط للمهندس، ولم يبق إلا أن يأخذ الخمسة ملايين كدفعة أولى، ويبدأ التنفيذ.
فكر خالد وزوجته أن يلتقيا بالمقاول في القرية، ليسلما له مبلغ الخمسة ملايين كدفعة أولى وينفذ، واتصلا بالحارس (فريد)، وطلبا منه احضار سيارة سائقها مضمون، ليأخذهما مع ولديهما: كريم وعمره سنتان ونصف، وأكرم سنة ونصف، لقرية الخربة، ليحضر فريد شخصاً لقبه: (الغول)، يقود سيارة مرسيدس دفع رباعي نظيفة، الساعة الخامسة فجراً، وأخذ خالد وزوجته وولديه، إضافة لمبلغ الخمسة ملايين في إحدى الحقائب، وحقيبة أغراضهم، ليركبا مع ولديهما النائمين، ويأخذ الغول الحقيبتين للسيارة.
وتحركت السيارة بسرعة كبيرة، والسائق الغول مرتبك، وفي حالة قلق، وتفاجأ خالد وزوجته خروجه عن الطريق المألوف، ليسالا عن سبب الخروج، ليرد ويستسمحهما مروره لأحد أقاربه على بعد اثنين كيلومتر، حاولا منعه، ولكنه ترجاهما أن يأخذ فقط ربع ساعة من وقتيهما، ليأخذ نصف ساعة، حتى وصل لمكان خالٍ وقريب من الساحل الرملي، وأوقف السيارة، وأخرج الرشاش من تحت مقعده، وطلب منهما الخروج، وإلا سيطلق عليهما النار.
وخاف خالد وزينب على الطفلين، وخرجا، وأخذهما مسافة مئتي متر، وأطلق الرصاص في رأس خالد، ليرديه قتيلاً، ليصحا كريم، ويشاهد والده يتحرك على الأرض، ووالدته تصرخ وتترجى الغول أن يأخذ المبلغ الموجود ويتركها، رحمة بالأطفال، ولكنه رد عليها: من أجل أن تبلغي الأمن؟ وأطلق الرصاص في رأسها أيضاً، وخفض كريم رأسه خوفاً، وتظاهر بالنوم، بينما ظل أكرم في حالة نوم، أخرج الغول أدوات الحفر، ليحفر حفرة تسع لجثتين وبسهولة وبسرعة؛ لأن الأرض رملية، ودفنهما وكريم يرفع رأسه بين الوقت والآخر.
وعاد الغول للسيارة، وحمل الولدين ووضعهما تحت الشجرة الوحيدة في المنطقة، ليلقيا مصيرهم المحتوم موتاً من العطش والجوع، وما أن تحركت السيارة وغاب صوتها، رفع كريم رأسه، ليصرخ ويبكي بقوة، ليصحى أكرم ويبكي أيضاً، وظل الطفلان تحت الشجرة لفترة أربع ساعات، وتحرك كريم باتجاه البحر ليشرب الماء، وأخذته الأمواج على الساحل الرملي لمكان بعيد، بينما أخذ أكرم يحبو ويتوقف لمسافة كبيرة، حتى الساعة الخامسة مساءً، ومن حظه وصوله على عائلة أخذت وضعية الاستراحة من السفر لتتناول الطعام، وتفاجئوا بوصول الطفل، ليقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من أين أتى هذا الطفل؟! ليأخذ الماء ويشرب، ويتصبب عرقاً، ثم أخذ يأكل بشراهة، والجميع يتناقشوا في موضوعه، وقال البعض: نأخذه ونذهب. وردت الجَدَّة: علينا أن نتتبع مكان سيره لنصل لأهله. وأخذوا السيارة، وتتبعوا أثر الحبو، ووصلوا للنهاية، ولم يجدوا أحداً، ليقول رب الأسرة (سفيان): هناك آثار رمل دفن. ليحفروا ووجدوا الجثتين، لتقول الجَدَّة وهي مرعوبة: أعيدوا الدفن. واقترحت زوجة سفيان أن يتركوا الطفل، حتى لا يدخلوا بمشاكل، ورفضت الجَدَّة والأولاد، وأخذوا الولد دون إبلاغ الجهات الأمنية؛ خوفاً لما قد يلحق بهما من اتهام بالقتل، أو تأخير سفرهما، وأخذوا الطفل وواصلوا طريقهم.

** مصير أكـــــرم:

قررت العائلة العودة للحديدة، وإلحاق أكرم بجواز سفيان، رب الأسرة والابن الأكبر لها، واعتبروا أكرمَ أحد أبنائهم، وغير اسمه (عباس سفيان التركي)، وأعادوا ترتيب برنامجهم للسفر إلى السعودية.
ظل أكرم يبكي طيلة الوقت، ويكرر كلمة: (ماما، بابا، كريم)، وارتبط منذ اللحظة الأولى بأم سفيان، يلازمها طيلة الوقت، وينام بحضنها، وكلما كبر ينفعها، ويصغي لها، وينفذ كل توجيهاتها، وحرصت الجَدَّة على تربيته وتعليمه كأحد أولاد ولدها سفيان، فقد تعلم أبجدية اللغة، وقراءة القرآن وحفظه، حتى بلغ ست سنوات من عمره، لتدخله المدرسة، وعند مرضها يصاب بحالة من الخوف والرعب أن يحدث له شيئاً، ويلقى مصيراً مجهولاً؛ لشعوره أن أولاد سفيان وإخوانه يغبطونه لحب وعطف جدتهم، والامتيازات التي يحصل عليها، وأن جدتهم تأخذ من آبائهم مبالغ مالية، وتعطيها لعباس، وتشتري له الملابس، وكل ما يريد، وأنهم أحق بها، ومما يزيد حنقهم، عدم سماع عباس لتوجيهات آبائهم، عدا الجَدَّة، وأناقته ودراسته في مدارس خاصة، وفي دراسته مثابراً يحصل على الأول في المدرسة، ليحقدوا عليه حين يضرب الآباء به المثل، ومقارنتهم بعباس.
وتكرر في الفترة الأخيرة مرض الجَدَّة، ودخولها في غيبوبة، لتجمع أولادها لأكثر من مرة، وتحملهم أمانة عباس في رقابهم، وأحضرت المصحف، وأقسموا بأن يكون عباس كأحد أولادهم، ولا يميزوا بينهم، وأن ينال نفس الحقوق التي كانت تعطيه، ويمنعوا أذى وكيد أولادهم عنه، واختارت ابنها الأوسط رجب، الأكثر طاعة لها، أن يحتوي عباساً بالرحمة والحرص عليه، وأن يظل حب عباسٍ قائم، وقالت: إن رجباً جدير بحمل الأمانة، على الرغم من ضعف إمكانياته المالية، وقلة حيلته، حتى إذا توفت تكون قد اطمأنت على مستقبل عباس.
وظل عباس يلازمها، ولا يتركها دقيقه خلال فترة مرضها، حتى وافتها المنية، وهي تُحَمِّل ذِمَّة أولادها عباساً، ليهتموا ويرحبوا به جميعاً، وألزموا الأولاد العطف عليه، وحاول كل منهم أخذه واعتباره مصدر رزق، وألح سفيان أحقيته بأن يبقى عباس معه، واعتبره مصدر رزق وأجر له، قائلاً: لقد رفضت والدتي، ولم تقبل الإقامة مع عباس إلا معي. وأقنعه إخوانه أن عباساً ووالدته اختارا رجباً، ليتفق الجميع على مساعدة رجب في تربية وتعليم عباس، وطغى على عباس الحزن على والدته الذي ربته، ويزوره عمه سفيان باستمرار، ويتفقد عباس المكان الذي سكن مع أمه أو جَدَّته، والذي يحن إليه.
وتعرض عباس لمضايقات من أولاد سفيان، لإشعاره أنه دخيل على الأسرة، على الرغم من ضغط والدهم عليهم، لم يستطع رجب تحمل تكاليف صرفيات عباس؛ لتقصير إخوانه، وشعر عباس بالوضعية، وفكر أن يعمل مع عمه رجب، ويكسب ويدرس.
حافظ عباس على تفوقه الدراسي، وبذل مجهوداً كبيراً في المحل الصغير لعمه رجب، وطوره، وفتح بعد ذلك مكاناً أكبر لبيع المواد الغذائية، واكتسب خبرة غير عادية، وما أن كبر أولاد رجب، تعرض عباس لمضايقتهم، وحاول إقناعهم إذا كانوا قادرين على إدارة تجارة والدهم، ليس لديه مانع أن يترك المحل، وكشف لهم حصوله على العديد من العروض، وفي أكثر من مرة يستهجنوا كلامه، واضطر للاعتذار لعمه رجب، وترك المحل دون أن يبين السبب.
حاول عمه رجب ثنيه وإلزامه بالبقاء، وذكره بوصية والدته زبيبة، وأنه على استعداد أن يطرد أياً من أولاده إذا تعرض للمضايقة، ولكنه أصر على الاعتذار، واتصل رجب بجميع إخوانه، وأخبرهم أن عباساً يرغب بمغادرة المحل، وحاولوا معه أن يبقى أو يعمل معهم، وعرض عليه سفيان نسبة من الأرباح، ولكن عباساً وجد أن خروجه وابتعاده عن أسرة التركي ضرورية؛ لتظل العلاقة قوية.
أخذ عباس وقتاً بعد مغادرته، واستغلها فرصة للتحضير لامتحانات الثانوية العامة، وكرس وقته ليلاً ونهاراً للدراسة، واستأجر غرفة مع حمام بالقرب من محل رجب، وظل الجميع يزوروه بين الحين والآخر لمساعدته على تجاوز الامتحان، ليدخل بهمة وثقة عاليتين، وحصل على معدل 94%، تؤهله لتحقيق رغبته دخول كلية التجارة قسم محاسبة، والتحق بالكلية، وعمل مع أحد المستوردين للمواد الغذائية من الخارج بمبلغ عشرة آلاف ريال سعودي، ونسبة 2% من ربح المبيعات، ليثير استغراب والداه سفيان ورجب.
وبمجرد استلامه عمله، بدأ دراسته، وحقق نجاحاً متوازياً، ولم تمض فترة السنة إلا وقد حقق نسبة كبيرة من المبيعات والأرباح، والكثير من التسهيلات التجارية المميزة للشركة التي يعمل بها، وفتح مجالاً لتطوير علاقة الشركة مع الصين والهند، وأصبحت الشركة من أكبر الشركات المستوردة في السعودية.
وبعد تخرجه من كلية التجارة، واصل دراسته العليا للماجستير والدكتوراه، وحصل على الإقامة الدائمة في السعودية، وعين بعد فترة مستشاراً للشركة، وتعاقد مع وزارة التجارة السعودية كمراجع حسابات، ساعده ذلك في فتح مكتب استشاري محاسبي وتجاري، لتتجه إليه كثير من الشركات والمؤسسات التجارية، ولمع نجمه، واشتهر مكتبه.
تزوج خلال الفترة على إحدى زميلاته بالدراسة، سورية الجنسية، بعد أن شرح لها وضعه، وتفهمت، بل وأحبته، واختارته دون غيره، وقدم الكثير من التسهيلات لوالده سفيان وإخوانه وأولادهم، وتوطدت علاقته بهم أكثر، ليساعد أولادهم في فتح محلات تجارية، ودعمهم مالياً، وسهل مهمتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق