سياسة

الثقافة والنظرية السياسية للثورة كضامن للتغيير

د. وجدي كامل

تتعدد التفسيرات لحالة الاضطراب العام، والأزمات الضاربة بطول البلاد وعرضها وما تمثله عيانا بيانا من شقاق وتشقق ادى  لموت الدولة السريرى الماثل امامنا بانقطاع عمل مؤسساتها وادوارها في تقديم الخدمات المتصلة بوظيفتها.                      وتنزع اغلب الاتجاهات التحليلية لتفسير الأزمات بوصفها اولا كأزمة وطنية واحدة. وهو وفي افضل الاحوال يمكن نعته بتوصيف النتيجة ، اكثر منه  استخراج النتائج من دراسة ومراجعة مكونات وعلاقات الظاهرة المزمنة التي تشي الى تعدد اشكالها وتنوع مراكزها غير المحدودة.

فعند التحليل لماهية واسباب الأزمات الوطنية سنجد ان ثمة عوامل تم استبعادها وعدم ايلائها الاهمية القصوى المطلوبة للتوصيف الدقيق.

 واذا كانت ثمة اسباب تاريخية وبنيوية معقدة اودت الى الاشتباك الراهن وتسويق الازمات فان السوق السياسي، او بالاحرى سوق الثورة نفسها، ومكونها، والامزجة السياسية، والمصالح المتلاطمة في محيطها، وضمن علاقاتها السياسية بالمؤسسات والقوى ذات العلاقة فهى ما تعد  المركز المتحكم في الازمات.

فالمؤسسات والاحزاب والقوى المنتظمة داخل اطار العلاقة بالثورة وفي واقع الامر ليست على ثقافة سياسية واحدة،  ولا تجمعها النظرية السياسية المشتركة للثورة بسبب طبيعة ونسبية الارتباط ، كما تناقض المصالح التي تحكمها بما ترجوه من استحقاقات من نتائجها والتي يتهم فيها الاقتصاد الحزبي ورغبته القديمة الجديدة الجامحة الطموحة لالتهام الاقتصاد العام، او عدم الانقطاع عن التغذية من ممتلكاته الوطنية.

فاقتصاد الدولة لدى بعض الاحزاب ليس اكثر من الاقتصاد الحزبي المستقبلي والغنيمة المستحقة لغطاء قانوني.                                                                  فالثقافة والنظرية السياسية للثورة تشكل محورا مفاهيميا استراتيجيا لعمل ونشاط عقلها بما يشكله من ميكانيزمات وآليات مفتاحية للتغيير الرامي للتخلص من البناء القديم في ابعاده ووظائفه الكلية.                                                                                       وبالنظر الى طبيعة الاشتباك الناشب بالراهن السياسي نجد انه ليس اكثر من المظهر الخارجي لصراع طبائع للمقاومات والمعارضات التي عبر عنها افراد ومثقفون وطنيون ديمقراطيون كنا مؤسسات حزبية وسياسية تنوعت بين مواقعات ثقافية مكتومة لم تتسن لها الفرصة للخروج للعلن بنحو شعبي ويقودها او قادها بتعبير اوضح وادق عدد من اصحاب الفكر والرؤيا المخالفة للفكر الديني الممثل في تجربة الاسلام السياسي والمقاومات السياسية التي ابدتها وتبديها الاحزاب في صراعها  على السلطة مع الانقاذ . فالمقاومة الثقافية تقرا المعركة مع الانقاذ في محتوى وتضاريس خطابها الثقافي العام الذي فرضته كاسلوب حياة بالهام تاريخي من قوانين سبتمبر سيئة السمعة وباستثمار لقوانين القمع المنتجة تحت غطاء الدولة الاسلاموسياسية والذي على راسه كان الخطاب السياسي بالغ المراوغة الذي استخدمته لادامة حكمها بدوغما وبراغماتية بائنة .

اما المعارضة السياسية والتي ابدتها جملة الاحزاب في مكافحة الانقاذ فقد اهتمت بالنقد السياسي للاداء دون توفير دراسات معمقة في نقد المحتوى الثقافي لسلطة الاسلام السياسي فاهتمت اكثر بنقد ورفض السياسات المتبعة والانفراد الاحادي بالسلطة الذي لا يتيح للاخرين المشاركة ( مشاركتهم هم والاخر هو هم في الناتج النهائي).                                                                                                      ولا غرابة في ان الانقاذ قد خبرت التعامل مع اصحاب ومؤسسات المعارضة السياسية في هذا الجانب فاكثرت من مراضاتهم بالوظائف والوزارات وفتح  او ترك الباب ولو مواربا احيانا لاشراكهم ولو برمزيات محدودة في  الريع الاقتصادي والامتيازات المغتصبة.

غير ان افراد واصحاب المقاومة الثقافية السياسية الراديكالية قد تم استبعادهم منذ البداية ومواجهتهم بأقسى سبل ووسائل الاقصاء ومعاقبتهم بالسجن والقتل والاغتيال والتشريد واجبارهم على النفي احيانا برميهم على ارصفة المهاجر  بسبب موقفهم النقدي للمتن والاصل  للثقافة والنظرية السياسية الحاكمة بخطاب سياسي يتدثر الدين بفكر براغماتي وضعي وراسمالي طفيلي. ان طبيعة ثورة ديسمبر المجيدة بشعاراتها ومطالباتها وتفاصيل موجهاتها ومواجهاتها  واستمرار نسخها اليومية للسنة الثالثة تقريبا تغدو وبلا منازع طبيعة ثورة ذات حمولات ثقافية ثقيلة واستثنائية للغاية وذات مطالب خاصة لاحداث التغيير الثقافي وتغيير العقل والتفكير السياسي. ونسبة لعدم الجاهزية البنيوية للاحزاب والمنظمات السياسية للعمل بالقراءة الثقافية للثورة (ومنهم من شكل فعليا مركزية الحرية والتغيير) فقد غدت الثورة بسبب ذلك، وفي تطور الصراعات بين المؤسسات السياسية القائدة لعملياتها ثورة  غريبة عن محتواها وغير مبذولة الفهم والتفهم للكثير من القوى ذات الادعاء بالاتصال باهدافها الامر الذي انتج توصيفا شائعا للصراع باعتباره صراعا بين القوى المطالبة بالتغيير الحذري (الهبوط الخشن) والقوى المطالبة بالتغيير النسبي الجزئي (الهبوط الناعم) بينما هما وجهان لعملة واحدة كونهما مؤسسات سياسية بالغة الاستهانة بسؤال القضاء على تجربة الاسلام السياسي في منابعها النظرية وهى ما كان يستحق انجاز الثقافة والنظرية السياسية للثورة. وبالرغم من وجاهة واصالة موقف النقد للنظرية السياسية للانقاذ كاسلوب حكم للاسلام السياسي الا انه قوبل بالتجاهل المتعمد وكيلت له المسميات والاتهامات التي لا تزال ترحل كمفاهيم ضارة لميدان عمل لجان المقاومة ومتن عقلها. ونعني بذلك سب الفكر النقدي والنقد النظري الثقافي وتصوير ان التغيير يتم بضربة لازب ولا يتم بمساهمة ومشاركة مراكز البحوث والمثقفين الضالعين في التخطيط السياسي باعتماد على دورهم في صناعة السياسات وليس ابلغ عبارة تكررت وتتكرر في لغة اجتماعات الاحزاب والحرية والتغيير كعبارة القصة دي ما عايزة تنظير او الموضوع ده ما داير مثقفاتية او خلونا من كلام المثقفين ده!!). هنا نستطيع تلمس مبنى ومعنى المأساة وجريان مائها من افواه من يصنفون بقادة وقيادات التغيير كونهم اعداءا  للتفكير النقدي الحر الذي يحول السياسة الى اداء اجرائي حركي خال من المعاني الثقافية العظيمة للثورة الرامية لاحداث القطيعة الثقافية مع الماضي والتخلص من الميراث غير الحميد. فمن ثقوب هذا العقل او ان شئنا العقليات التي عرفت وتعرف السياسة كسياق اجرائي غير مدعوم بالفكرة  يدخل غرباء الثورة والانتهازيون باستسهال مطلق للممارسة السياسية بتعريفهم لها بانها الموهبة على التامر والقدرة على طق الحنك ويا ثورة جاك كل الشر من الشباك وبالاحرى ارتد من الباب مرة اخرى. تلك المفاهيم وحملتها من اعداء التفكير العلمي والثقافي هى من تهز مركب الثورة وتعمل على غرقها بادعاء زائف بالسياسة والعمل السياسي – وتلك  هى القوى المضادة لاحداث التحول الديمقراطي باستدعاء مخلص لعقلية الانقلابات العسكرية حتى تنشط وترى عملها. ان استسهال العمل السياسي وتصويره بانه عمل من لا عمل له غالبا ما افسد على المجتمعات السودانية ( الشعب او الجماهير كاختراعين سياسيين للعقل السياسي) الحياة الكريمة الفاضلة ومنعها من تحقيق التطور والانخراط في مهام التنمية والحكم الديمقراطي.

هنا ينبغي القول بان تلك العقلية هى من تصور ان الديمقراطية السياسية عن طريق صناديق الانتخابات الداعمة والمدعومة بالمال السياسي وخلق مراكمتها هى نهاية المطاف لبلوغ ساحل الرفاه والتنمية المستدامة.                                                                    ان المصلحة الحيوية للثورة تجد تعبيرها في احداث التغيير بمنظومة الافكار الثقافية السياسية للانقاذ، وفي هذا يقوم الواجب بتربية ورعاية ممثليها لما تبديه من تعبير عميق وعادل لموضوعات التحول الديمقراطي الثقافي للمجتمعات السودانية في الاطراف وغيرها كمستفيد اساسي من الثورة ولاعب متقدم في تفجيرها. فلا تنوب عن المجتمعات الا المجتمعات في مهام النهوض والنهضة. ان الانهماك والعمل بشغف ومتعة من اجل تركيب وانشاء ثقافة ونظرية الثورة النظرية  كعملية واهداف ترى العدو الاساسي الذي تفجرت ضده نسخها وحلقاتها. فالعدو الاساسي ليس بالطبع اولئك المعتقلين السياسيين القابعين بسجن كوبر، كما ليسوا هم مئات او الاف السودانيين ممن انتظموا في عضوية المؤتمر الوطني واجهزته العسكرية والامنية والذين اوسعونا نهبا ومذلة طيلة الثلاثين ونيف سنة الماضية باشخاصهم وشحمهم ولحمهم فقط، ولكنها الافكار- الافكار الثقافية السياسية التى كونوها ووظفوها لتدمير الدولة وسرقة ثروات المجتمعات السودانية بما وضع البلاد في النتيجة على شفا حفرة من الفناء والدولة من الموت الفيزيائي .

وبالنظر الى جوهر تلك النظرية كما الثقافة السياسية لحكم الإسلام السياسي سوف لن نالو جهدا في فهم انها الصيغة الخفية للاستعمار المحلي البغيض الذي لم يات بنظرته وبنظريته من الفراغ بل من تسلسلات وسلاسل تاريخية تتعلق بتأجيل المواجهات مع العقل الثقافي الادب سياسوى الذي حكم البلاد منذ الاستقلال فكان ما فعلته طيلة التاريخ السياسي ما بعد الاستقلال بمثابة التأجيل الواعي المنظم لموت لا محالة قادم اذا لم يقم للثورة عقل ينتبه لواجباته و لمهامه في مهمة انجازه للتغيير.

ان تأسيس عقل للثورة ونظرية سياسية تعمل على الاطاحة بالبناء القديم وفق تصورات ونظم تستهدف مكافحة تمدد وتناسخ سلطة الاسلام السياسي كمتهم من الدرجة الأولى عن تسميم عافية الاقتصاد والسياسة (نفسها) بات من اهم مسؤليات المرحلة الراهنة. ان عدم قيام ذلك هو ما يقود الى ترويج التفسيرات التي تذهب الى ان عدم وحدة (قوى الثورة) هى الغائب الاعظم والمسؤول الحقيقي عن فشل المرحلة الانتقالية ( على الاقل حتى الان) دون فحص كاف لمفهوم قوى الثورة نفسه وقياس علاقات (قوى الثورة) بالثورة نفسها في فكرتها وأهدافها وتاسيس نظريتها السياسية ذات المصلحة في تفكيك الانقاذ ثقافيا جنبا الى جنب مع انواع التفكيك الاخرى. وللابانة لا بد من تقديم  سؤال مهم وحيوي كسؤال هل هنالك بالفعل قوى ثورة؟ ان اطلاق هذا المسمى او المصطلح يرمز الى علاقة عامة بالثورة دون ان يوفر لها الغطاء المشترك والوحدة الافتراضية المضمرة؟ واذا افترضنا جدلا بان هنالك قوى كهذه فهى قوى سياسية تغلب على معظمها رغبة ونزعة التغيير السياسي دون مستحقات تغيير ثقافي في بنية التفكير السياسي. من هنا فان اشتراك تلك (القوى) في العلاقة (العامة) بالثورة لهو اشتراك ومشاركة تحمل اسباب فنائها اذا لم توحدها نظرية سياسية واحدة تصع عدوها الاساسي ممثلا في الاسلام السياسي نصب اعينها وتبدا في تصويب اسلحتها الثقافية ضده من موقع السيطرة على الميدان الذي كان بالامس لها وبات الان مبحوثا عنه في ظروف اقل ما يمكن وصفها به بانها ظروف واوضاعغير امنه ومعادية واشد تعقيدا.

ورغم كل ذلك فقد حانت اللحظة التي تحتاج الى توجيه مساءلات مهمة  وجريئة وشجاعة ل (قوى الثورة) عما تريده بالفعل وليس القول من الثورة. هل تريد التغيير بمفهوم التعديل للمنظومة السياسية الفوقية بغرض الاحلال ووضع نفسها كبديل دون الالتزام بمحتوى فكرة الثورة كعملية هدم مستمرة للقديم وانتاج البناء الجديد الذي ينفي ما قبله؟ ام انها صاحبة برامج ورؤى منتجة لاوضاع نظرية وعملية بديلة تلبي حاجات وتطلعات المستقبل؟.                                                                                            هنا نحتاج الى اجابات تساعد على ازاحة اذى المشهد المضطرب لمعرفة ان منظومة حكم الاسلام السياسي لم تحكم من فراغ بل بإعانات متبادلة وعون نظري وفكري جمعها مع بعض ( قوى الثورة) المتماهية حاليا مع شعاراتها.

فما يستوجب الفهم حاليا وبصفة نشطة يتمثل في ان المعركة التي تبدو في راس جبل جليدها بين الثورة واصحاب المصالح الملتحقة مع اصحاب المصالح المتجذرة في اقامتهم لحكم الكليبتوقراطية فان جوهر المعركة التى على مجتمعات ومنظمات ولجان مقاومات خوضها هي معركة كتابة أو تأسيس نظرية ثقافية وسياسية مضادة للاسلام السياسي وحلفائه الذين يعرقلون سير الثورة ويضعون المتاريس امامها بغية الحفاظ على المصالح التاريخية واستعادة سلطة الامتيازات التي اخذت منهم. انه المجتمع السياسي الخفي الغميس المتحالف مع سلطة الاسلام السياسي بمساهمتهم في بقائه وابقائه منذ منازلات الدستور الاسلامي باواخر الستينيات الى قوانين سبتمبر التي كسرت التطور المدني للبلاد واستباحت مفهوم وثقافة الشراكة المتساوية في المواطنة والحقوق والتي وفي نتيجة منع اكتسابها والتجريد الدموى للمجتمعات السودانية من حق نيلها تمكنت من اطلاق ثورتها عبر اجيال جديدة سحقتها ابادة النظرية السياسية للاسلام السياسي عبر  مؤسساته السياسية رالاقتصادية والعسكرية وشخوصه الذين يعودون اليوم من النافذة لاعادة عجلة حكمهم الكئيب البغيض الذي لولا ارتكاب الهفوات وادمان مراكمة الاخطاء التي تكره الثقافة والعقلانية والعقل ونتائج البحث العلمي بعدم العمل على تكوين  الثقافة والنظرية السياسية للثورة لمًا تثنى له اخراج راسه من جديد ابدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق