خارج الحدود

القضاء الدستوري … من التأصيل المفاهيمي إلى السياق الكرونولوجي وصولًا إلى التنزيل الإجرائي ـ دراسة مقارنة ـ (1)

عبد العالي الطاهري

بالحديث عن « القضاء الدستوري » في سياقَيْه التأصيلي مفاهيمياً من جهة والعلمي الإجرائي من جهة ثانية، نجد أنفسنا أولاً أمام إلزامية تحديد الدلالة والمعنى، خاصة الاصطلاحية منها، حيث يحتمل اصطلاح القضاء الدستوري معنيين : أولهما – عضوي شكلي ، والآخر – موضوعي. فمن الناحية العضوية أو الشكلية: يقصد بالقضاء الدستوري المحكمة أو المحاكم التي خصَّها الدستور – داخل التنظيم القضائي في الدولة –  من دون غيرها برقابة دستورية التشريع (قضاء دستوري متخصص) . ومن الناحية الموضوعية : يعني القضاء الدستوري الفصل في المسائل الدستورية ، وهي المسائل التي تُثير فكرة تطابق التشريع مع الدستور، وبهذا المعنى ينصرف الاصطلاح إلى القضاء في هذه المسائل سواء أُصدر من محكمة دستورية متخصصة أم من محكمة أخرى من المحاكم العادية أو الإدارية أو غيرها ، وذلك طالما تعلق هذا القضاء بالفصل في مسألة دستورية (قضاء دستوري غير متخصص) . وبهذا فإن المعنى الموضوعي لاصطلاح (القضاء الدستوري) أوسع نطاقا من معناه العضوي أو الشكلي ، إذ أنه وفقاً لهذا المعنى الأخير فإن « القضاء الدستوري »  لا يوجد إلا مع وجود المحاكم الدستورية المتخصصة، في حين أن القضاء الدستوري وفقاً للمعنى الموضوعي لا يرتبط في وجوده بمثل هذه المحاكم الدستورية ، إنما هو قائم مع الفصل القضائي في المسائل الدستورية ، بصرف النظر عن الجهة القضائية التي يصدر عنها هذا القضاء .

إنَّ رقابة القضاء الدستوري هي رقابة قانونية تقوم على أساس تدخل جهاز قضائي لإصدار حكم بمدى توافق أو عدم توافق تشريع ما مع أحكام الدستور، وبهذا المنطق فإن عملية الرقابة على الدستورية تدخل بصورة طبيعية في اختصاص القضاء ، فما وظيفة القاضي إلا تطبيق القوانين على ما يُعرض أمامه من منازعات ، وما الحكم في دستورية القانون من عدمه إلا منازعة يختص القضاء ببحثها وهو يفصل فيها وفقاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية، بمعنى أنه إذا وجد أن النص التشريعي الذي يحتج به يتعارض مع قاعدة أعلى منه في الدستور ، فإنه مُلزم بإنزال حكم الدستور واستبعاد تطبيق القاعدة المخالِفة ، فهذا هو ما يمليه منطق العدالة والمشروعية. وتمتاز رقابة القضاء الدستوري بكل ما يمتاز به الجهاز القضائي من حياد وبُعد عن التيارات السياسية وأهواء الأحزاب ، كما أنها تمتاز بوجود قاضٍ متخصص في تطبيق القوانين وله تكوينه القانوني السليم والعميق والتجربة المهنية المطلوبة، وهو أمر لازم لمباشرة هذه المهمة ، فالرقابة على دستورية التشريع مهمة ذات طابع فقهي قانوني متميز ينبغي أن يتوافر في من يتولاها معرفة ودراية بالدستور وهي أمور قانونية بحتة، بالإضافة إلى ما يقدمه النظام القضائي من ضمانات للمتقاضين تتمثل، في الإجراءات القضائية المتبعة مثل علانية الجلسات وحرية الدفاع وإلزام القاضي بتسبيب أحكامه بما يحمي المصالح المختلفة في النزاع المنظور، فضلاً عمَّا يؤكده مبدأ الفصل بين السلطات في شأن استقلال القضاء ، وحصانة القضاة ، وما هو مقرر لهم من ضمانات تُبعد عنهم تدخل السلطات الأخرى ومحاولة تأثيرها على أحكامهم ، وعدم إلزامهم بقبول ما تصدره من قوانين وقرارات تخالف الدستور وتخرج على مقتضاه. فالدستور حين يُحدِّدُ نطاق اختصاص السلطات العمومية (السلطتين التنفيذية والتشريعية)، فإن على تلك السلطات الالتزام بهذه الحدود ، فإذا حدث مثلا وأن تجاوزت المؤسسة التشريعية حدودها فإن السلطة القضائية تعد قيداً دستورياً عليها يقف في وجهها، ويترتب على ذلك أنه إذا ما أصدرت الهيئة التشريعية قانوناً متجاوزةً به سلطتها أو لا يسمح به الدستور، فإنه يُعَدُّ قانوناً باطلاً ، وعلى القضاة المستقلين الذين كَفَل الدستور حيادهم ونزاهتهم أن يعلنوا هذا البطلان ، وهذا البطلان يُعَدُّ نتيجة حتمية لفكرة الدستور الجامد الذي لا يمكن تعديله بواسطة القوانين العادية ، فالقوانين الصادرة عن السلطة التشريعية والتي تخالف قواعد الدستور الجامد تعد قوانين باطلة ، من دون حاجة إلى تقرير ذلك البطلان صراحة في صلب الدستور.

نشأة الرقابة القضائية دستوريًا وانتشارها في بعض الأنظمة الدستورية المعاصرة .

بدأت البذور الأولى لهذه الرقابة في محاكم بعض الولايات الأمريكية قبل نشأة الاتحاد الأمريكي – ” محكمة ولاية New Jersy سنة 1780 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بتشكيل هيئة المحلفين من ستة أعضاء لمحاكمة جرائم معينة مخالفاً بذلك ما استقَرَّ عليه العُرف الدستوري من تكوين هيئة المحلفين من إثني عشر عضواً ، ثم محكمة ولاية Rhode Island سنة 1786 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بجعل النقود الورقية عملة إلزامية لمخالفته لدستور الولاية ، ثم محكمة ولاية North Carolina سنة 1787 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون « اعترف بملكية العقارات المشتراة من بين ما صودر من أموال خصوم الثورة « . إلاَّ أن شعوب هذه الولايات وبرلماناتها لم تتقبل هذه الأحكام التي أصدرها قُضاتها بعدم دستورية بعض قوانين هذه الولايات ، وحدثت بها ردود فعل عنيفة ضد هذه الأحكام، الأمر الذي نتج عنه خوف هذه المحاكم من خوض غمار التجربة مرة ثانية، إلاَّ أنَّ نشأة الدولة الاتحادية الأمريكية وقيامها على أساس اتحادي ، وما ترتب عليه من كتابة الدستور الاتحادي الجامد وتعلُّق شعب الاتحاد بالدستور، كل ذلك قد ساعد المحكمة الاتحادية الأمريكية على إعادة المحاولة لاسيما وأن بعض نصوص الدستور الاتحادي توحي بحق القضاء في ممارسة الرقابة على دستورية القوانين، ومن ذلك نص الفقرة الثانية من المادة السادسة التي تقول ” إن هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة الصادرة وفقاً له، وكل المعاهدات المعقودة أو التي ستعقد في ظل سلطة  الولايات المتحدة ، ستكون هي القانون الأساسي، والقضاة في كل الولايات يتقيدون بذلك ، بصرف النظر عن أي حكم مخالف في دستور الولايات أو قوانينها ” . وكذلك نصُّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة الواردة في بيان الاختصاص القضائي، التي تقول ” إنَّ الوظيفة القضائية تمتد إلى كل القضايا المتعلقة بالقانون أو العدالة ، التي تُثار في ظل هذا الدستور “. وكان حكمها الصادر في قضية Marbory v. Madison الصادر عام 1803 بداية الطريق الذي استطاعت المحكمة الاتحادية العليا أن تُحدد فيه أساس هذا الحق ومداه ، إذ أوضحت أن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون وعند تعارض القوانين فإن وظيفة القاضي توجب عليه تحديد القانون واجب التطبيق، بحيث إذا ما تعارض تطبيق القانون العادي مع نص دستوري تعَيَّنَ تغليب النص الدستوري ، والامتناع عن تطبيق القانون العادي لأن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث في الدولة مما يحتم على هذه السلطات التزام حدود اختصاصها حسبما رسمها الدستور، الذي يُعَد تعبيراً عن إرادة  الأمة صاحبة السيادة العليا، والقاضي عندما يقوم بذلك لا يمارس أكثر من مهمته العادية في ترجيح القواعد القانونية الواجبة التطبيق ، لذلك فقد ذكرت المحكمة الاتحادية العليا في حكمها : أن القانون الصادر من البرلمان خلافا لأحكام الدستور يعد باطلا لا أثر له ، وبالتالي يجب الامتناع عن تطبيقه. وقد استمرت المحكمة الاتحادية العليا وسائر المحاكم الأمريكية في تأكيد مبدأ الرقابة الدستورية، وساعدها في ذلك تطور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تطوراً كبيراً منذ القرن التاسع عشر . واستطاعت المحكمة الاتحادية العليا من خلال التوسع في مفهوم الرقابة على دستورية القوانين، أن تؤدي دوراً أساسياً وخطيراً خلال مراحل التاريخ الأمريكي المختلفة ، وأن تسهم بقسط كبير في تكوين القيم السياسية والاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعَدُّ أول دولة أخذت بفكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فإن هذه الفكرة قد انتقلت بعد ذلك إلى كثير من الدول ، فأخذت بها محاكم بعض الدول على الرغم من عدم وجود نص يعطيها هذا الحق ، ومن ذلك محكمة النرويح العليا سنة 1890 ، ومحكمة كريستيانا العليا سنة 1893 ، ومحكمة أربوباج اليونانية سنة 1904 ، ومحكمة النقض الرومانية سنة 1912، كما نصَّت بعض الدول على هذه الرقابة صراحة في دساتيرها، ومن ذلك الدستور السويسري الصادر سنة 1874 ، ودستور النمسا الصادر سنة 1920 ، ودستور رومانيا الصادر في سنة 1923 ، والقانون الأساسي العراقي الصادر سنة 1925 ، ودستور المملكة المغربية الصادر سنة 1962 ودستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971 ، ودستور مملكة البحرين الصادر سنة 2002.

باب ما جاء في حُجية القرارات الدستورية وأثرها

تعتبر « حجية القرارات الدستورية » الركن الأساس والمرجعي على مستوى التنزيل العملي والإجرائي لمفهوم وآلية « الرقابة الدستورية »، إذ لا تأويل دستوري ولا منازعة دستورية إلاَّ بحجة ودليل قاطع الدلالة والمعنى .

إلى ذلك يَعتبر الفقيه كيلسن أن كل نظام معياري عادة ما يصل إلى نقطة لا يستطيع تجاوزها ،لأنها بمثابة الحافة الخارجية للنظام  وعليه فإن سلطة البرلمان يجب أن تعتمد معيارا أعلى يعطي للقواعد القانونية الصادرة عنها شرعية أكبر، ذلك أن تراتبية القوانين وخضوع أدناها لأعلاها درجة يمنح للدستور مكانته اللائقة بين باقي النصوص القانونية ويبوئه صدارة هذه التراتبية ويسمو به عنها. 

غير أن ضمان هذا السمو واحترام القوانين الأدنى لمنطوق وروح الدستور يستوجب وضع رقابة على ذلك، وإلاَّ فإن التمييز بين القواعد الدستورية وباقي القواعد القانونية سينعدم ويصبح غير ذي جدوى، وهو ما يستدعي خلق هيئة خاصة بمراقبة دستورية القوانين. وتختلف طبيعة الهيئة المختصة بمراقبة دستورية القوانين باختلاف الأنظمة السياسية بين رقابة دستورية قضائية وأخرى سياسية، هذا الاختلاف ليس مجرد تباين شكلي في نوع الرقابة بقدر ما هو تعبير عن توجه فقهي ودستوري عميق بين من يرون أن السماح بإصدار القوانين المخالفة للدستور وحصر إحالة القوانين على أشخاص محددين وعدم إمكانية التصدي للتفسيرات الخاطئة للدستور، لا يُمَكِّن من القيام برقابة دستورية حقيقية وهو ما يعيب الرقابة السياسية، غير أن تغول القضاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية وتبعية قضاة المحكمة الدستورية للقوى السياسية كنتيجة طبيعية لطريقة اكتساب العضوية وكذا تأرجُح الأحكام، جعل من الرقابة القضائية معيبة هي الأخرى.

وإذا كانت التجربة الدستورية المغربية في مجال الرقابة على دستورية القوانين قد أخذت بالرقابة السياسية من خلال الغرفة الدستورية والمجلس الدستوري لاحقا، فإن الدستور الجديد للمملكة جاء بصيغة جديدة كليا تمثلت في إحداث المحكمة الدستورية ، ولأنَّ القرارات الدستورية بحكم طبيعتها تعتبر أحكاما قضائية إن لم تكن أعلى منها درجة، فإنها بذلك تحوز حُجية الشيء المقضي به، تلك الحُجية التي يراها البعض نسبية وفي حدود ما هو معروض على الهيئة المختصة، ويراها جانب آخر من الفقه أنها مطلقة تصدر في مواجهة الكافة، في حين يرى جانب ثالث أن الحجية من أصلها مشكوك فيها. ويُقصد بالحُجية هنا تلك القوة التي يكتسبها القرار باعتباره حكما نهائيا نافذا بقوة القانون والتي تجعله غير قابل للطعن وتفرض على السلطات العمل على تنفيذه، كما أن الفقه الدستوري يختلف حول الأثر المفترض للقرارات والأحكام الدستورية أن تحدثه تبعا لنوع الرقابة وكذا موضوع القرار.وإذا كانت صيغة الرقابة على دستورية القوانين تختلف من نظام دستوري الى آخر بين من يأخذ بالرقابة السياسية وأخرى قضائية، فإن ذلك ينتج عنه ضمنيا فارق من حيث حجية قرارات كل هيئة على حدة، وكذا من حيث الأثر الذي يخلفه القرار موضوع الدراسة.

1. حجية وأثرالقرارات الدستورية في القانون المقارن

تختلف حجية وأثر القرارات الدستورية بفرنسا عن نظيرتها بكل من الولايات المتحدة الأمريكية  والمغرب ومصر، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود أوجه للتشابه بينها.1.1.حجية قرارات المجلس الدستوري الفرنسي وأثرها

تنص المادة الثانية والستون من الدستور الفرنسي لسنة 1958 على أن «  النص الذي يعلن عدم دستوريته لا يجوز إصداره أو تطبيقه وقرارات المجلس الدستوري لا تقبل الطعن بأي طريقة من طرق الطعن و ملزِمة للسلطات العامة ولكل السلطات الإدارية والقضائية ». ويُستشَف من نص المادة الثانية والستون أن قرارات المجلس الدستوري الفرنسي تحوي حُجية مطلقة ولا تقبل الطعن تحت أي ظرف ويُحتَجُّ بها أمام كل الجهات القضائية والإدارية والتي لا يمكن أن تخالف مضمون هذه القرارات. ونظرا للطبيعة القبلية للرقابة الدستورية الفرنسية فهي تتسم بالاستباقية والوقائية ما يسمح بمنع صدور أو تطبيق كل نص يخالف الدستور، كونها (الرقابة) تمارَس قبل إعطاء الأمر بإصدار القوانين أو تنفيذها رغم أن الإحالة لا تمارَس إلا من طرف من يخولهم الدستور هذا الحق وبصيغة اختيارية. وبالعودة إلى نص المادة 62 من الدستور الفرنسي فإن القرارات الدستورية التي تكتسب حجية الشيء المقضي به هي تلك الأحكام التي تصرح بدستورية أو عدم دستورية قانون ما، أي تلك الأحكام التي تكون قد تطرقت للموضوع، دون باقي القرارات والأحكام التي تقتصر على رفض الدعوى لانعدام الصفة أو تجاوز الأجل إلى غيرها من المخالفات الشكلية.. فانقضاء الخصومة في الدعوى الدستورية بغير الحكم في موضوعها يخرج إذا من مجال حجية الشيء المحكوم به في الدعوى الدستورية، لأن هذه الحجية لم تتقرر إلا للأحكام التي فصلت في موضوع الدعاوى الدستورية. ويرى جانب من الفقه أن المادة 62 وهي تتحدث عن حجية قرارات المجلس الدستوري الفرنسي فهي تقصد الحكم في منطوقه دونما حيثياته، ما يجعل الحجية قاصرة على المنطوق دون أن تكون لحيثيات القرار أية حجية، ويرتكز هذا الجانب من الفقه على كون تنفيذ القرارات يلتزم بمنطوق الحكم دون الخوض في الحيثيات. غير أن هذا الرأي مردود عليه فأساس أي حكم أو قرار يكتسي قوة الشيء المقضي به إنما يُستمد من الحيثيات التي يستند عليها، فمنطوق الحكم ليس سوى نتيجة لذلك الأساس الذي بُنيت عليه ولا يمكن فصلها عن القرار لأنها سنده، وبالتالي هي من تُكسبه قوته الإلزامية وبالتالي حُجيته، كما أن التعديلات التي يقترحها المجلس وهو يتطرق إلى دستورية فصول نص قانوني ما، تكون حاسمة لموافقة المجلس على قبول موافقة النص للدستور وبدون إجراء هذه التعديلات من طرف الجهة المصدرة للقانون لا يمكن للمجلس إجازة إصدار النص المعيب.

ويتضح من نص المادة 62 من الدستور الفرنسي أن حجية القرارات التي يصدرها المجلس الدستوري تتسم بالتجريد ولا تمييز في ذلك بين تلك القرارات التي تضفي صيغة دستورية على قانون ما، وتلك التي تُقِرُّ بوجود تعارض مع الدستور، كما أن الحُجية لا تقتصر على القرارات التي تهم اختصاص المجلس بمراقبة دستورية القوانين، وإنما تشمل كل القرارات التي يصدرها المجلس وهو يمارس اختصاصاته الدستورية رغم أن نص المادة62 قَصَر الحجية على القرارات التي تهم مراقبة القوانين، ذلك أن قرارات المجلس الدستوري من حيث بنائها وموضوعها وكذا الهيئة التي تصدر عنها وطبيعتها كونها لا تقبل الطعن أمام أي جهة أخرى.. كل ذلك يكسبها حجية وإن كانت نسبية وتكتسب قوة الشيء المقضي به .

إن الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا ذات طبيعة قبلية وقائية تهدف إلى منع إصدارالتشريعات المخالفة للدستور ونفاذها، ما يجعل القرارات التي يصدرها ذات أثر قبلي يُمنَع بموجبه إصدار النص المطعون في دستوريته.

ويختلف أثر قرارات المجلس الدستوري حسب طبيعة النص القانوني المحال عليه، فحين يتعلق الأمر بعدم دستورية قانون عادي يلزم ذلك كافة السلطات العامة بعدم إصدار هذا القانون، أما إذا تعلق الأمر بعدم دستورية النظام الداخلي للبرلمان فيترتب عنه عدم إمكانية تطبيق هذا النظام مع إلزام الهيئة المصدرة للنظام الداخلي بإدخال التعديلات التي نص عليها القرار الدستوري وإعادة النص القانوني مجددا للمجلس لتأكيد مطابقة مواده للدستور.

وفي ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين لابد من التمييز من حيث الأثر بين القرارات التي تُسقِط القوانين بشكل كلي كونها مخالفة للدستور وبين القرارات التي تمنح الصفة الدستورية للقوانين بشكل جزئي مُستثنِية من ذلك ما بدا لها أنه مخالف للدستور. ففي الحالة الأولى يصدر المجلس الدستوري قراره بعدم دستورية القانون المعني حين يتعارض في مجمله مع مبدأ دستوري، أو حين يكون الهدف من تشريع النص القانوني تقييد الحريات الفردية والجماعية خارج نطاق الدستور.

كما أن المجلس الدستوري يمكن أن يقرر عدم دستورية نص قانوني بشكل كلي حين يجد أن بعض مواده غير دستورية ولا يمكن فصل هذه المواد عن باقي أجزاء القانون.

غير أنه إذا أَقَرَّ المجلس أن بعض مواد قانون ما غير دستورية ويمكن فصلها عن باقي مواده، أجاز القرار إصدار هذا القانون دون باقي المواد غير الدستورية، مع منح السلطة المنشئة للقانون حق تعديل المواد لا ملاءمتها مع الدستور أو التخلي عنها بشكل نهائي. وارتباطا باختصاص المجلس الدستوري بالنظر في مطابقة المعاهدات الدولية للدستور، فإن المادة 54 من الدستور الفرنسي قد منحت المجلس حق منع المصادقة على كل معاهدة غير دستورية، إلا أن الأثر هنا لا ينسحب على المعاهدة كما هو الحال عند دراسة أثر القرارات الدستورية على القوانين والأنظمة الداخلية للبرلمان، وإنما يشمل الأثر إجراء تعديل دستوري ليتلاءم مع النص الدستوري وليس العكس. وفي هذا الصدد يرى جانب من الفقه أن الأنظمة الدستورية التي تأخذ بالرقابة السابقة عادة ما تفرض موافقة البرلمان على الاتفاقية أو المعاهدة، هذه الموافقة تصدر في شكل قانون يُحال على المجلس الدستوري وهو ما يمكن اعتباره رقابة قبلية غير مباشرة على المعاهدة، وفي جميع الأحوال التي يلزم فيها المشرع الدستوري بموافقة البرلمان على المعاهدات تتم الرقابة السابقة إما قبل تصويت البرلمان أو بعده طبقا للمادة 54 من الدستور ووفقا للإجراءات التي نَصَّت عليها المادة 61 منه.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق