سلايدر

معمار الرواية وبناؤها (الجزء الثاني)

مع الأديب عماد البليك

د. محمد بدوي مصطفى

< إنّ محصول عماد البليك من الأعمال الروائية التي نشرت في العديد من دور النشر العربية والعالمية يفوت العشرين رواية (إن لم أغال) هذا ما نشر على الورق من قبل دور نشر في الوطن العربي. لكني لاحظت أخيرًا ميولك لكتابة الأدب في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف الالكترونية فما سرّ ذلك، هل هي ميول حديثة لك أم هو نوع من التحول التدريجيّ إلى هذا النوع، أو ربما هناك أسباب ودواعي أخرى لم تخطر لي ببال … أفتنا في رؤيانا هذي؟

> أنا أؤمن بأن المستقبل ينفتح باتجاه النشر الإلكتروني، كما أؤمن بأن الكتاب يجب أن يكون متاح بالمجان للجميع لو أن ذلك كان ممكنا، هذا يعني أنه لابد من جهات داعمة لهذا العمل. بالنسبة للنشر في مواقع التواصل والصحف الإلكترونية من قبل، بل والمدونات وقبلها المنتديات التفاعلية التي كانت ظاهرة قبل عشر سنوات، كل ذلك تقتضيه ضرورة العصر والتفاعل الإنساني، بحيث تستطيع أن ترسل الرسالة إلى المتلقين أو المستقبلين لها، تخيل أن كاتب مع ظهور المطبعة يرفض أن ينشر كتابه بها ويصر على النسخ باليد، هذا غير معقول قطعا. بالمناسبة كان ثمة آراء ضد المطبعة عندما ظهرت في العالم الشرقي في البدايات، في بدايات القرن التاسع عشر، هناك من اعتبرها مدعاة لنشر الكفر البواح، دائما هناك عقلية تتأخر، لكن في النهاية تصبح هذه الوسائط عادية ومنتشرة. يمكن أن أضيف بأن النشر التفاعلي والإلكتروني سريع من حيث الوصول للقارئ وكونه لا يكلف كما الكتاب، ويتيح أيضا التفاعلية في الحصول على الردود والتعقيبات من القراء، بما يسمح للكاتب أن يطور أفكاره من خلال هذا الـ “فيد باك” المباشر، في زمن سابق كان هذه الشيء يحصل إما في ندوات جماهيرية أو فعاليات يكون الكاتب فيها حاضرا ليستمع لجمهوره، أو ما يكتب في مقالات في صحف ومجلات، كل ذلك يظل محصورا وضيقا لدى أناس بعينهم أو نخبة، أما حاليا فالعالم يتغير فعليا في عمليات التلقي والاستقبال والمراجعات.

< كنت أتابع أعمالك في مواقع التواصل الاجتماعي عن كثب ودخلنا عدّة مرات في حوارات جريئة وحميمة حول الأدب والتاريخ والفلسفة، وكنت أقول لنفسي، اسمح لي بهذه الجملة: “هذا الرجل مجنون”. أقصد هاهنا الكم الهائل من المنتوج الإبداعي الذي يرى النور، حقيقة شيء مذهل ولا أريد أن أسهب في الشرح، فالفكرة ربما قد وصلت. على كل يا سيدي الكريم، لقد كتبت الكثير المثير وتطرقت لمحاور مختلفة وقواعد سردية متعددة، وزوايا سردية متباينة ومثيرة، ففي هذا الكم الهائل من هذا الإبداع الأدبي الخارق للعادة، ما هي أحب رواياتك إلى نفسك وما هو السبب؟ وما هو نوع الرواية الذي تجد فيه راحتك ومتعة الاسترسال (تاريخية – سيرة ذاتية – خيالية الخ.)؟

> أنا أحب كل كتبي، هم كأبنائي، لكن هذا الحب فيه نوع من الحذر، هذه إجابة تقود من جانب آخر أن ثمة شيطان يتلبسني أحيانا فأقول إنني أكره كل ما كتبت، لأن ما أبحث عنه لم يكتب بعد، حيث تظل عملية الكتابة مسألة بحث مستمر لأجل العثور على غاية غامضة ومستعصية لا نعرف كيف نصل إليها. لكن لأقول لك أنا أحب روايتي الأولى “الأنهار العكرة” أعني الأولى نشرا، وليس الأولى كتابة، فالأولى كتابة اسمها “حصاد” ونشرتها في دار نشر وهمية صنعتها بنفسي في بيتنا، صنعت لها غلاف، وكنت أكتب الروايات كما لو مجهزة للطباعة يعني احتفظ بنسق تصميمي لها في الكراسة. وهي سيرة مختلقة ليافع يذهب لمدرسة داخلية في مكان معزول قريب من الصحراء ليكتشف أصدقاء وعالم جديد، وهي مأخوذة من سيرة مفترضة لي حيث كان لي أن أذهب لمدرسة خور عمر آنذاك للدراسة، لكن العائلة رفضت، قال لي أبي رحمه الله ” إذا كنت ستدخل الجامعة فستدخلها من أي مدرسة”، يعني أن الأمر يتوقف عليك. أيضا أحب روايتي “شاورما” كذا “دماء في الخرطوم”، بذات اليقين الذي يشعل الشك.

أما متعني في الرواية فأنا مغرم بالخيال الذي قد يكون له صلب أو جذر في الواقع، لكن يظل خيالا صرفا، كتبت عن أماكن لم أزرها وعن مدن لم أتعرف عليها إلا في خيالي، بظني أن الكتابة اكتشاف وأننا نكتب عن الأشياء التي لا نعرفها وليس عما نعرف كما يقول عيسى الحلو، فالكتابة هي سبر لأغوار غير مرئية وعوالم غير مدركة، ماذا يفعل الكاتب وهو يكتب عما يعلمه سلفاً؟! أين التحدي والجرأة والحرج؟!

بالنسبة للسيرة الذاتية قد أقوم بتوظيفها لكني لا أنقلها، أنا أكتب عن الخبرة الفلسفية والجمالية لي في العالم، وليس عن حكاياتي وقصصي وعلاقاتي مع الناس، أو الشخوص الذين تعرفت عليهم، بمعنى آخذ عصارة تجربتي مع البشر، ما هي المفاهيم والقيم التي تعلمتها منهم، لا تهمني الحكاية ولا الحبكة، يهمني المفهوم النهائي، ونحن نعيش في عصر انتهت فيه الروايات التي تقوم على الأبطال والشخوص بوصفهم مركز الرواية، اعتقد أن الرواية الحديثة الناجحة، أو  ما بعد الحديثة، بالأحرى، هي رواية تقوم على فكرة جمالية أو فلسفة معينة تحاول أن تختبرها وتكتشفها وتضيء الأسئلة حولها، لن نقول تقديم الإجابات.

< كما تعلم أنه في الحقبة الأخيرة انتشرت منصات النشر الذاتي على شبكة الإنترنت وشهد مجال الابداع الأدبي لا سيما مجال كتابة الرواية والقصص القصيرة تحولات كبيرة وواعدة تتيح الفرصة لعدد أكبر  من رواد الأدب لتحقيق أمنياته في الكتابة والنشر على حد سواء، لكن ورغم ذلك لا يزال نشر الروايات على الطريقة الكلاسيكية لدى دور نشر متاحًا ومنتشرًا أيضًا، لا أعرف إن كان أكثر انتشارًا من الكتابة على المنصات الإلكترونية، فهل   ظهور منصات النشر الذاتي عبر الإنترنت هي ستكون مستقبلًا بديلًا للنشر الكلاسيكي لدى دور النشر، ما هي رؤيتكم لهذه القضية؟

> على المدى القريب لن يحدث ذلك ستظل الدور الكلاسيكية مهيمنة، فالناس لا تزال تنظر للكتاب الورقي بإعجاب حتى في الغرب، هناك علاقة محسوسة وحميمية تنشأ بين القارئ والورق، قد لا تجدها في النسخ الإلكترونية. برغم ذلك فالتاريخ يتجه للأمام لا يتراجع، ومن الصعب أن نحكم على النتائج النهائية الآن. النشر الذاتي سيكون كبيرا، لكنه سيعاني من مشكلة الفرز والتمحيص لأن أي شخص يظن أن عمله مكتمل ورائع، هذا يعني أننا لا زلنا في حاجة إلى دور نشر حتى لو إلكترونية، أو أن يمر النشر الذاتي بمراجعة من نوع ما، حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى كما في السوشلميديا في الوقت الراهن.

< تحدثنا في الجزء الأول عن تطور كلمة أدب وعن أهمية الأدب بصورة سريعة فهل تعتبر الأدب من العوامل الأساسية في رقيّ الشعوب وهل هو كما أعتبره أنا “سيزموغراف” لقياس الاضطرابات داخل مجتمع ما؟ وما فائدة أن نقيس اضطرابات مجتمع ما بحصته أو ما ينتجه من أعمال أدبية؟ وكيف تقرأ حالنا وحال الأمّة العربية في هذا السياق؟

> الأدب هو فن وقياس حقيقي لرقي الشعوب وتطورها، لأنه يعبر عن تطور بنية الخيال والنظرة للحياة والنقد الذاتي والمراجعات، فالأديب هو إنسان يبحث عن مدينة فاضلة قد لا تحقق ذات يوم، لكنه ينافح من أجل الانتصار للقيم الجميلة والمعنى داخل اللامعنى. هذا هو جوهر الرسالة الأدبية إن وجدت. بهذا فالأدب يصنع التقدم من خلال تغذية الوعي وعقلنة المجتمعات وحفزها للتخييل المستقبلي.

نعم هو مقياس للزلزال والهزات الصغيرة، أي سيزموغراف ذلك الجهاز الذي يقيس الهزة الأرضية، ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأدب سيكون أداة اجتماعية أي تخلق التطور الاجتماعي وتعمل على تخليق فضاءات الوعي الجديد الذي ينقل الإنسان من مرحلة لأخرى، فعبر التاريخ البشري لم تنهض الحضارات إلا على جسور   المعرفة والعلم، وعلى رأسها الفنون والآداب، كما رأينا كيف حصل التنوير في أوروبا استنادا على الأرضية التي صنعتها فترة عصور النهضة ومن قبلها الحضارة اليونانية. إذن هو يبصر المسارات ويعدلها عبر البحث عن الأفضل، فالخيال الإبداعي يقوم على رؤية الشر قبل الخير، والقبح قبل الجمال، ومن داخل تشخيص الشيطان يولد الملاك الجميل.

هذا يعني أن الحصة الأدبية التراكمية والعددية تعطي مؤشرا على التقدم في المجتمعات، نحن في البلدان العربية وفي السودان تحديدا لا يزال إنتاجنا المعرفي عامة ضعيفا، كم كتاب تصدر سنويا؟ هي تظل قليلة قياسا لما يفترض، واستنادا إلى الخلخلة المطلوبة لإحداث التثوير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أي نقل المجتمع إلى فضاء معرفي وإنساني جديد ينهض به وينقله إلى مصاف الحداثة والازدهار المنشود. والإنتاج قد يكون فيه الصالح والطالح، لكن التاريخ يغربل الأفكار وينتصر للشيء الأكثر جدارة بأن يبقى ويعيش للمدى الطويل، لا فكرة ولا كتاب يصلح للأبد، فكل فكرة أو كتاب هي وليدة عصرها وسياقها الثقافي والتاريخي، مع تقدم الزمن قد تنفى أفكار وتولد غيرها، لكن يمكن الإشارة إلى أن قيم إنسانية خالدة على مر العصور، هي التي يمكن أن تحملها الكتب التي تستطيع أن تعيش لقرون طويلة كبعض المدونات الموروثة منذ قدم التاريخ البشري كالملاحم الإنسانية القديمة والمدونات المقدسة، نعني تلك القيم التي لها طابع الاحتفاء بالإنسان والأخلاق والتسامح والتعايش والمحبة بين بني آدم.

أما بالنسبة لحالنا وحال الأمّة العربية في هذا السياق، فحدث ولا حرج، كما يقال. فنحن نعاني من ضعف البنى الذهنية التي تستطيع أن تقودنا إلى التحرر الكبير الذي يصنع التقدم، لدينا إشكالات معشعشة في العقل تتعلق بطريقة التفكير السديد والنقد الاجتماعي وعناصر البناء الخلاق والخيال العلمي والمعرفي، كل ذلك سببه أن التراث لا يزال يهمين على المعاصر، لهذا فطريق الإصلاح أو التجديد يتطلب جهدا جبارا، لنقدر على الاندغام في اللحظة الإنسانية والعالمية في العالم اليوم على الأقل، برغم أن العالم بشكل عام ليس على ما يرام، ويتطلب مراجعة في كثير من الأنساق الإنسانية. لكن على الأقل أن ندرك أول الطريق.

< هل الأدب مرآة لمجتمعاتنا وإذا كان الأمر كذلك، ما هي الخلاصة فيما يخص الدول العربية بما فيه البلد الذي نشأت وترعرعت على ترابه؟ وما هي العبر التي يمكن أن نستخلصها في هذا السياق؟

> نعم الآدب مرآة اجتماعية كما سبقت الإشارة فهو كاشف للخلل البنيوي في النسق الأخلاقي والقيمي وفي بنى التفكير والخيال والقدرة على الإنتاج، والدافعية لبناء الحياة الأفضل بشكل عام. أما فيما يخص البلدان العربية ومنها بلدنا السودان، فالحال يغني عن السؤال، كما ذكرت فإن ثمة الكثير مما يتطلب الاشتغال عليه، ويجب أن نبدأ ولا نتأخر، علينا أن نجري مراجعات عاجلة للذهن وطرق المعرفة واكتسابها والتعلم. أما العبر المستخلصة فتتلخص في أن نعيد رد الاعتبار للأدب بوصفه بوصلة للنماء صناعة وإيجادا ومن قبل رؤية للمشكلات وتبصر الخلل، هذا لا يتم بشكل كبير أو شاسع الأفق، لأن الأساس المعرفي عند كثير من الكتّاب ضعيف أو هش، والبعض يكتب وهو لا يعرف ماذا يريد، ولا توجد مشاريع رائدة وعظيمة لها الجسارة المطلوبة لإحداث التحولات الاجتماعية العميقة، يعني أن أدبنا يمس السطح ولا يذهب إلى الجذور فقلع الفساد الأخلاقي والفساد الروحي والتبعات المتعلقة بذلك على مستوى المؤسسات سواء الاجتماعية أو مؤسسات السلطة الخ.. كل ذلك يتطلب كاتب شجاع ونادر، وقبل ذلك معرفة شاملة واستبصارية لا تحدق في الراهن فحسب، بل تذهب للبعيد جدا، تخلق ما يعرف بالاستشراق المعرفي – ليس الاستشراق المعروف اصطلاحيا – أي الذي يأخذ معناه من فكرة الشمس بإشراقها وقدرتها على منح الحياة والحيوية للكائنات على هذه الأرض.

< هل يمكن أن نقارن التمدن الذي حدث في القرن العشرين والواحد وعشرين في دول العالم المتقدمة بآدابها؟ كيف يمكن أن نفسر هذه المعادلة الجدلية؟ وهل نمت هذه الآداب وتطورت أيضًا مع تطور مجتمعاتها في طريق التنوير وإلى القمّة؟

> بالطبع، فالفنون والأدب هي تجلٍ لسياق اجتماعي ونماء فكري ومعرفي وعلى كافة الأصعدة، لا شيء يولد من الفراغ، في البنى العميقة للمجتمعات سوف نجد كل شيء حاضر وموجود. أوروبا أو الغرب عامة في القرن الماضي وهذا القرن الجديد تعيش تمدناً وحداثة وما بعدها، هذا لم يحصل جراء جرة قلم، بل هي رحلة طويلة بدأت منذ فجر الحضارة اليونانية إلى اليوم مرورا بالنهضة الأوروبية وعصورها كذلك التنوير الأوروبي والثورة الفرنسية إلى التجربة الأمريكية، كل ذلك كان اختباراً أو مختبرا ليس بالسهل، ولا ننسى تجربة الحروب الأوروبية والطريق إلى تشكيل أوروبا والغرب الحديث، فالحرب العالمية الأولى والحرب الثانية، ألقت بظلالها على تشكيل الأدب والفن والمعرفة في كل المجالات الإنسانية من الفلسفة إلى علم النفس والفنون والأدب. وقد أشار ميلان كونديرا لذلك إذ يعتقد بأنه ربما لو لم تحدث الحربان لما وصلت أوروبا إلى سياقها الحديث اليوم.

إذن هناك علاقة طردية بين طريق الأنسنة والتحضر والتمدن والفنون والآداب ومساءلة العقل فلسفياً بشكل عام، وهذا ما يجب أن نتعلمه، حتى الحروب يمكن أن تعلمنا أن السلام هو الخيار الأفضل للعيش وأن النهضة يمكن أن تقوم على أثر الدمار، بحيث يستفيد الإنسان من تجربته في كل الظروف والأحوال، حتى يهزم ضعفه وتوحشه ليتحول من حيوان كاسر إلى كائن مؤنسن قادر على صناعة الخيارات الأجمل للعالم والوجود. يمكن القول إذن بأن هذه الطردية تعني في كل الأحوال يندفع الأدب ما معركة الإنسان ضد اليومي والعادي كما التاريخي وطويل الأزل، لأن سؤال الأدب لا ينحصر بقدر ما ينطلق من اللحظة الراهنة إلا أنه يتحرك بعيدا في كل الفضاءات من الأزمنة والأمكنة.

< دعني أطرح هذا السؤال من زاوية أخرى: هل هنالك أسباب وجيه في العلاقة الجدلية بين التطور المادي والمعنوي لأمّة ما في حقل الأدب؟

> نعم سياق الجدل المادي والإشكاليات الإنسانية على صعيد المعاش والروح من قبل وعلاقتنا بالوجود عامة، كل ذلك له انعكاس على التشكيل الأدبي والرؤى التي نصنعها حول العالم والحياة من حولنا، بما في ذلك النسق الاجتماعي. فالأدب يريد منطقة يشتغل عليها وهو يراها دائما في الفراغات وفي جهات السؤال والعزلة والانكسار وغياب الحضور، وقد لا يكون الأديب هنا باحثا عن معنى رساليا لكنه في نهاية الأمر يقدم لنا بوصلة للحياة وهذا واضح في فنون الرواية مثلا في أوروبا إذ أنها تعبر لنا عن الحراك الاجتماعي خلال عدد من القرون التي شهدت ازدهار هذا الفن الحديث.

في جانب آخر ثمة من يرى أن الازدهار أو الرفاهية يجب أن توقف المشكلات بالتالي تعطل الإبداع والتفكير الخلاق، وهذا ليس صحيحا. لقد درج الناس على القول إن الإبداع تولده المعاناة، قد يكون معنى ذلك بالشكل المباشر أنك تحتاج لتجربة لكي تكتب عنها، أو أن ما نعيشه سنكون أكثر قدرة على التعبير عنه ونحن نكتب، غير أن المعنى الأبعد من ذلك، بظني أن المعاناة تشير هنا إلى الذهن كيف له أن يكتشف ويختبر ويغامر، إنها ليست معاناة مادية فقط كما يخال، بل هي معاناة السؤال والتفلسف والحضور المعرفي. بهذا فإن الرفاه المادي أو التمدن لا يغلق باب الأدب والفن بل يفتحه لمزيد من الرغبة في الاكتشاف، وهذا طبيعي أن الحياة الإنسانية رحلة مستمرة من الأسئلة والبحث عن الإجابات، ومن خلالها تتولد المزيد من الألغاز، وهكذا. ما يعني أن رحلة الكائن في هذا العالم هي رحلة لا تقف عند حد، وهذا استمر منذ إنسان الكهف إلى اليوم، كما أن الإنسان الحديث استطاع أن يعظم من التخيل ليقطع خطوات سريعة في إعادة ابتكار المكان وتشكيل الفضاءات والأمكنة من حوله. نحن نعيش في عصر صار فيه العالم أكثر بساطة وتعقيدا في ذات الوقت، كل ذلك يرجع لفضل الأدب والفن، أي بمعنى أبسط الخيال الرحب الذي يرغب في أن يرى عالما جديدا دائما، يبصر الأجسام في الصخور فينحتها، ويرى المدن والبنايات في الأرض الخلاء يتصورها ثم يصنعها، ويحلم بالسفر للقمر فيحدث ذلك كما في رواية “أوائل الرجال على القمر” للكاتب الإنجليزي هربرت جورج وصدرت عام 1901م، هكذا الأدب يعبد الطريق ويرسم لنا التصورات الممكنة لعالم لم يحدث بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق