سياسة

أثر التطبيع السوداني – الإسرائيلي على الأمن القومي المصري -5-

(أبحاث المركز الديمقراطي العربي)

ثانيا التحركات السياسية:

تعتبر القاهرة أن السودان هو العمق الإستراتيجي لمصر جنوبا، لذلك فإن ما يجري في هذا البلد الذي يمر عبره نهر النيل قبل أن يصل إلى الأراضي المصرية يشكل أهمية كبرى بالنسبة إليها.(40) ومن هنا فقد أعربت القاهرة بعد الاطاحة بنظام البشير من قبل الشعب السوداني عن “ثقتها الكاملة في قدرة الشعب السوداني الشقيق وجيشه الوطني على تجاوز المرحلة، إذ تضمن بيان لوزارة الخارجية المصرية تتابع مصر عن كثب وببالغ الاهتمام التطورات الجارية والمتسارعة التي يمر بها السودان الشقيق وتؤكد دعم مصر الكامل لخيارات الشعب السوداني الشقيق وإرادته الحرة في صياغة مستقبل بلاده وما سيتوافق حوله الشعب السوداني في تلك المرحلة الهامة.
كما أن أول زيارة للبرهان خارج السودان منذ إطاحة الرئيس السابق عمر البشير كانت لمصر، بعدما عقد الرئيس المصري قمة تشاورية حول الأوضاع في السودان في حضور بعض الدول الافريقية في 23 أبريل 2019 لمناقشة تطورات الأوضاع في السودان، وقد حضر هذه القمة نحو 13 رئيساً ومسؤولاً أفريقياً رفيع المستوي. (42) وقال الرئيس السيسي خلال تلك القمة إن الحل سيكون من صنع السودانيين أنفسهم، عن طريق حوار شامل جامع، بين القوى السياسية المختلفة في السودان، يؤدي إلى التوصل إلى حل سياسي توافقي ويضع تصوراً واضحاً لاستحقاقات هذه المرحلة، ويقود إلى انتخابات حرة ونزيهة، وأضاف نحن كدول جوار للسودان ودول تجمع ايغاد وكشركاء إقليميين، نتطلع لتقديم العون والمؤازرة للشعب السوداني، وصولاً إلى تحقيق الاستقرار والرخاء الذي يتطلع إليه ويستحقه.
وتجدر الإشارة الى أن الرئيس الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قام بزيارة إلى الخرطوم في يوليو 2018 أثناء حكم الرئيس الأسبق عمر البشير، في أول رحلة خارجية له بعد إعادة انتخابه في رئاسة الجمهورية، وقد مثلت هذه الزيارة تحولاً في مسار العلاقة بين البلدين، بحيث أسهمت في نزع التوتر الذي ساد العلاقة بين القاهرة والخرطوم في السنوات الأخيرة، وتبنّي سياسة التقارب بينهما، وتَمحور التفاعل الإيجابي الأخير بين البلدين حول سد النهضة وتسكين النزاع الحدودي، إضافة الى تجنب الصدام في الصراعات الإقليمية، وكذلك العمل على تزايد وتيرة مشاريع التنمية المشتركة.
وربما يكون من اللافت على المستوى السياسي أيضا أثناء زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الى السودان في أغسطس الماضي، هو الانتباه إلى ملف البحر الأحمر في علاقات البلدين، ذلك أن أمنه يتطلب تنسيقاً بين القاهرة والخرطوم، بما يلبي المصالح المشتركة لهذه للدولتين، خصوصاً مع وجود مشروع الحزام والطريق الصيني المار بالبحر، الذي يتطلب وجوده تنسيقاً بين الدول المشاطئة للبحر الأحمر بحيث تكون الاستفادة من موانئها في إطار هذا المشروع، أو حتى مشروعات شركة دبي للموانئ تكاملياً وليس تنافسياً بأهداف تقليل حدة المنافسة الاقتصادية الإقليمية وتهدئة الصراعات البينية التي يستفيد منها فقط المستثمر أو المستفيد بالحصول على الخدمات المطلوبة في الموانئ بأدنى الأسعار، ولعل السياسات التي مارستها إثيوبيا في القرن الأفريقي من إشعال التنافسية بين دول البحر الأحمر لمصلحتها، دون الاعتداد بمصالح أشقائها الأفارقة لهي خبرة لا بد أن تؤخذ في الاعتبار.

ثالثا التحركات العسكرية:

أجري سلاح الجو السوداني والمصري، تدريبات جوية مشتركة، وذلك بعد نحو أسبوعين من زيارة قام بها وفد عسكري مصري رفيع المستوى إلى الخرطوم، وانطلقت بقاعدة “عوض خلف الله بمروي” السودانية، فعاليات المناورات الجوية “نسور النيل 1″، ومع اكتمال وصول القوات المصرية المشاركة، من المنتظر أن تختتم الفعاليات التي تشمل عددا من التدريبات والتمارين الخاصة بإدارة الأعمال الجوية المشتركة، إلى جانب استخدام أسلحة الجو المختلفة، في التاسع عشر من الشهر الجاري.
وتأتي هذه التدريبات بعد زيارة قام بها رئيس أركان الجيش المصري، محمد فريد حجازي، للخرطوم مطلع نوفمبر الجاري، وإجراء مباحثات عسكرية بين الجانبين، تم الاتفاق خلالها على التوسع في مجالات التعاون العسكري من دورات تأهيلية وتدريب مشترك، ليشمل كافة التشكيلات البرية والجوية والدفاع الجوي والبحرية.
ومن المقرر أن يشهد التدريب تنفيذ العديد من الأنشطة والفعاليات من بينها تخطيط وإدارة أعمال قتال مشتركة بين قوات البلدين الجوية، وقيام المقاتلات متعددة المهام من الجانبين بالتدريب على تنفيذ عدد من الطلعات الجوية الهجومية والدفاعية على الأهداف موضوع التدريب، وتدريب قوات الصاعقة على أعمال البحث والإنقاذ القتالي
وتجدر الإشارة الى أن من شأن هذه المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة بين مصر والسودان أن تعزز التقارب بين البلدين، وتنذر بمزيد من التعاون على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية فيما بينهم وتأتي هذة التحركات المصرية التي تسعي لتوثيق العلاقات العسكرية مع السودان بعد عملية التطبيع السوداني الاسرائيلي وذلك في ظل ادراك ووعي تام من جانب الادارة المصرية بالمستجدات التي تطرأ على الساحة الاقليمية.

مقترحات للتقارب المصري مع السوان :

سنقدم كمجوعة من المقترحات التي تعمل على خلق دوائر للتوافق والتقارب فيما بين الموقف المصري والسوداني، والعمل على الاستفادة من قدرات السودان باعتبارها أحد أهم دول حوض النيل وذلك من خلال الاتي
1 – اعتماد أسلوب دبلوماسية التنمية، عبر اقامة عددا من المشروعات الكبرى في السودان، وزيادة الروابط الاقتصادية والتجارية بين البلدين، كما تمتلك السودان ملايين الأفدنة الخصبة التي تحتاج إلى الاستثمار، والتي تجتذب إليها دولًا خليجية كالسعودية والإمارات والكويت. يمكن لمصر أن تستغل كل هذه الأراضي الخصبة في إنتاج غذائها بشكل آمن ومستمر ويضمن لها ولاء الخرطوم خاصة فيما يخص أزمة السد.
2– تنمية وتطوير عناصر القوة الصلبة والناعمة التي تمتلكها مصر، فالقوة الصلبة التي أبرز عناصرها القوة العسكرية والقوة الاقتصادية يكمن استخدامها لإقناع الآخر يتغيير مواقفهم عبر محاولات الإقناع “الجزرة” وحتى “العصا”، وعناصر القوة الناعمة أو القوة غير الملموسة كالثقافة والعقيدة والمؤسسات ذات الجاذبية والإغراء وغيرها من الأدوات يمكن أن تتكامل معا لتمكن مصر من التفاعل مع محيطها الإقليمي وقيامها بدور خارجي فعال ومؤثر.
3– تنمية وتطوير الدور المصري في السودان عبر عدد من التحركات السياسية في الملفات الهامة السودانية، مثل الصراع في دارفور والذي يشكل تحديا وفرصة لمصر للعب دور قيادي كبير فيه وتفعيل دور الوساطة المصرية في هذا الملف لاحداث حالة من السلام والاستقرار في السودان الشقيق.
4 – العمل على تعزيز وتفعيل الدور الثقافي لمصر في السودان من خلال اقامة فروع لجامعة الأزهر في الخرطوم وتبادل المنح الدراسية لزيادة التعاون الثقافي والتعليمي فيما بين البلدين، وهو قامت به مصر بالفعل خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، عن طريق 200 منحة دراسية للطلاب السودانيين في جامعة الأزهر.
5 – إنشاء إطار قانوني مؤسسي جديد يتضمن في عضويته كل دول حوض النيل خصوصاً انه لا توجد سوى اتفاقيات ثنائية تجمع دول حوض النيل وبالتالي قد أثبت الواقع العملي ضرورة وجود منظمة اقليمية تجمع دول حوض النيل تحت مظلة واحدة، وذلك من أجل التغلب على الخلافات القائمة انطلاقا من الالتزام بالاتفاقيات القانونية السابقة ،مع عقد اتفاقيات أمنية وسياسية واقتصادية جديدة لمواجهة أي تدخل خارجي في هذا الشأن.
6 – العمل على كسب النظام الجديد في السودان المتمثل في الحكومة الانتقالية فضلاً عن لعب دور الوسيط بين المجلس الانتقالي بمكونيه العسكري والمدني، والمساهمة في دعم مرحلة التحول الديمقراطي في السودان والوصول به الى بر الأمان حتى إجراء الانتخابات.
7 – تفعيل ما يعرف بدبلوماسية القمة، واعطاء الرئيس دفعة قوية للعمل الدبلوماسي التقليدي لإعادة صياغة العلاقات المصرية الأفريقية عامة والسودانية خاصة، والعمل بقدر كبير من الجدية لتغيير تلك الصورة الذهنية السيئة عن مصر سواء على مستوى الشعوب أو الحكومات بكونها دولة تبحث فقط عن مصالحها.
8 – العمل على استغلال تواجد مصر والسودان معا في مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، لرفع مستوى التعاون والتفاهم فيما بينهم، وتنسيق المواقف السياسية، وتوثيق التعاون الأمني للحد من المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها البحر الأحمر ومواجهة اي نفوذ يسعي للتواجد في تلك المنطقة.

خاتمة:

ساعد الوجود الإسرائيلي في افريقيا على تحقيق مصالحها سواء في الحصول على مزيد من الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي، أو إعادة العلاقات مع دول أفريقية انقطعت منذ سنوات وذلك من خلال التفاعل عبر المجالات السياسية والاقتصادية واليوم نشهد تطبيع العلاقات مع السودان وظهور مستجدات ومتغيرات جديدة على الساحة الاقليمية في تسارع غير مسبوق، الاستراتيجية التي تتبناها اسرائيل لا تقتصر على مجرد التفاعل مع الجهات الرسمية فقط بل السعي للوصول للشعوب الأفريقية والعربية ومحاولتها تغيير توجهاتهم تجاه إسرائيل من أنه كيان محتل للأراضي العربية إلى دولة تسعى لمد يد العون للدول الأفريقية والعربية ومساعداتهم على التقدم والتنمية.
وعلى الرغم من الغطاء الثقافي والإنساني الذي تتستر وراءه نماذج القوة الناعمة الإسرائيلية في أفريقيا إلا أن هذا الغطاء يُخفي وراءه الكثير من الأهداف التي لا تُبشر بالخير للقارة الأفريقية، وتُنذر بتقويض الأمن القومي العربي الذي هو جزء من الأمن القومي الأفريقي ، وهو ما يفرض على الأمة العربية ضرورة التحرك الواعي لتعزيز العلاقات فيما بينهم ووضع تصور استراتيجي لبناء علاقة مميزة مع أفريقيا بشكل عام والسودان بشكل خاص بعد عملية التطبيع الاخيرة.
إذن، لا شك أن مصر لا تزال تنتهج حتى الآن ما يمكن أن أسميه بسياسة النفس الطويل في التعامل مع أزمات المنطقة، وهي سياسة تعتمد في جوهرها على الجانب السلمي والمسار التفاوضي، والحيلولة دون تفاقم الأزمات في منطقة ملتهبة لم تعد تحتمل أزمات جديدة. لكن من الضروري أن أشير هنا إلى أن الالتزام بهذه السياسة يظل مرتبطًا بعامل رئيسي هو عدم وصول أيٍّ من هذه الأزمات إلى تهديد حقيقي للأمن القومي المصري، فمن المؤكد أن القيادة المصرية ستتعامل مع هذا الوضع الجديد بكل القوة المطلوبة. وفي هذه الحالة تظهر أهمية الدور الوطني للشعب المصري الذي يجب أن يواصل تأييده للقيادة السياسية المصرية، ودعمه أية قرارات سوف تتخذها مهما كانت طبيعة هذه القرارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق