سياسة

الرمرمة الثورية

  عثمان جلال

(أيتها الحرية كم من الجرائم ارتكبت باسمك)

                (ماري رولان)

تقول الرواية أن الدكتور الترابي بدأ الحوار حول بناء النموذج الديمقراطي الأمثل مع قيادات القوى السياسية الكبرى من داخل سجن كوبر، وقد أدرك بثاقب حسه ضرورة تغليب البعد الفكري والمدني والسياسي بادي ذي بدء على العسكري، فالانقلاب مهما كانت دواعيه فهو طارئ ومقدر بأجل ثلاث سنوات وفق الخطة الداخلية للحركة الإسلامية ، وإعادة الحياة الديمقراطية يجب أن تتم بقوة دفع من داخل مؤسسات الحركة الإسلامية، ومن الاجتماع السياسي في الفضاء الوطني العام.

كما تعلمون رفضت قيادات القوى السياسية هذا المنطق وقرروا منازلة الإنقاذ باسم الجهاد المدني، والانتفاضة المحمية، والبعض ابعد النجعة واختار جيش التحرير. وعند وصول الصراع أشده داخل الحركة الإسلامية بين تيار إعادة الديمقراطية، وتيار استمرار حالة الطوارئ الانقلابية، أراد الدكتور الترابي محاصرة التيار الانقلابي بالضغط عليه عبر مؤسسات التنظيم السياسي الحاكم، وإقناع القوى السياسية المعارضة اهتبال رخصة الحرية بعد إجازة دستور 1998 وتشكيل رافعة ضغط لاستعادة الديمقراطية، ولكن القوى السياسية اختارت استمرار المعاندة والمنازلة، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية نيفاشا وتوابعها في القاهرة واسمرا وابوجا والدوحة وافضت جميعها لاقتسام السلطة والثروة مع المؤتمر الوطني ولم نشاهد لهذه التنظيمات نشاطا فكريا وسياسيا وتنظيميا يصب في صالح المشروع الوطني الديمقراطي، وفي تعزيز مأسسة ودمقرطة الأحزاب السياسية فهكذا حراك يعني ضخ أجيال قيادية جديدة وهذا يتعارض مع مصالح حراس معبد الأحزاب السياسية الكلاسيكيين.

أيضا دفع الدكتور الترابي في انتخابات 2010 مبادرة تشتيت الأصوات في الجولة الأولى للانتخابات ثم تكتل كل القوى السياسية المعارضة خلف مرشح واحد لمنازلة مرشح المؤتمر الوطني في الجولة الثانية، ورغم نجاعة الخطة الا ان خلافات المعارضة احبطتها على النحو الذي تعلمون.

ايضا نقضت القوى السياسية المعارضة عهدها الموثق مع الإسلاميين (المؤتمر الشعبي)، عندما ظنت أن النظام أوشك على السقوط في انتفاضة 2013م.

عندما طرح الرئيس السابق عمر البشير مبادرة الحوار الوطني في بداية العام 2014،رأى زعيم الإسلاميين الدكتور الترابي أن قوة المبادرة وحصانتها من الردة وتحقيق غاياتها النهائية في السلام والوفاق الوطني والتحول الديمقراطي المستدام يكمن في توافق وتشكل كل القوى السياسية الوطنية في كتلة تاريخية حرجة، ولكن القوى السياسية المعارضة اختارت أيضا السباحة عكس التاريخ

هذا التحليل والنتائج ينم عن وعي التيار الإسلامي الوطني بأن إنجاز الثورة والتغيير ، وصناعة المشروع الوطني الديمقراطي المستدام لن يتحقق إلا بالحوار، والوحدة الوطنية والشراكة الوطنية الشاملة، بعيدا عن عقلية وسلوك الاستقطاب (هم ضد الديمقراطية) في مقابل (نحن مع الديمقراطية).

على النقيض من هذا الوعي تقف القوى السياسية المعارضة في كل اطوارها وتجلياتها، فقوى الحرية والتغيير اختزلت الثورة في ذاتها، وتعاهدت على إدارة المرحلة الانتقالية بكفاءات مستقلة، ثم ارتكست بها إلى محاصصات ومغانم، ثم نقضت الوثيقة الدستورية وهي في صراع الرؤى والتكوين،ثم أصاب هذا التحالف داء التشقق الذاتي،  وسيمدد الفترة الانتقالية لما يقارب العهدة الانتخابية الكاملة لتهيئة المسرح السياسي لإعادة تدويرهم في الحكم عبر الرافعة الديمقراطية القادمة. والأخطر اثارته للقضايا الهوياتية، والدينية والايديولوجية، والتي ستقود لحالة اضطراب وانقسام حاد في المجتمع  هكذا سلوك سيجرف مشروع الثورة من (المدننة)اي المدنية إلى (الدكتاتورية)، أو الحرب الأهلية وتفكيك السودان.

الثورة رواية أخلاقية وتغيير بنية ذهنية وسلوكية، ولكن تعاطي قحت مع قيم الثورة ينم عن حالة (رمرمة ثورية)، والرمرمة هي التهافت على الفتات المتساقط من المائدة دون توقي قذره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق