ثقافة وفن

إلى د.مليكة العاصمي وذ. حميد منسوم

سادن في معبد اللوحة ناسك في محراب الإبداع

محمد بوعابد

ونحن أطفال علمنا أن جارنا يتخذ من بيته، الذي يتوسط حينا الفقير، مرسما ومصنعا للنحت والنقش، وأنه مبدع هارب من العاصمة الكبرى للوطن، وذلك لأنه كان قد اشتهر هنالك بأعماله الفنية التي كان السادة وعلية القوم بتهافتون على اقتنائها… لذلك كنا في البداية نتسلق الجدار المطل على مرسمه لنراقبه وهو يعمل.. وكم استغربنا له حين لاحظنا أنه عندما  ينجز عملا إبداعيا من أعماله وينتهي منه كان يقف بعيدا عنه بمسافة تكاد توازي في عدد خطواتها عدد ما قضى فيه من ساعات، ويروح في تأمله، وتلمس جوانبه، ساعيا إلى اكتشاف مكامن الجمال فيه، ومتعقبا في الوقت نفسه جوانب النقص التي قد تكون اعترته. وكان كلما اكتشف نقصا اعتبره عيبا فظيعا في ما أنجزه من إبداع، فيقوم بالتالي بتدمير ذلك العمل المنجز، سواء بواسطة التكسير والتشظية أو بواسطة إشعال النار فيه، فإن عمد إلى التكسير والتشظية كنت تجده يفتت تفتيتا تلك المادة التي صنع منها ما صنع، وإن عمد إلى الإحراق كنت تراه يقتعد مكانه مقرفصا أمام الأتون المتقد ويلقمه الحطب الكفيل بجعل النار تزداد توهجا وتأججا، فلا يغادر مجلسه حتى يتحول كل شيء إلى رماد. وفي الحالتين معا كان يجمع ما تفتت وما تحول رمادا، ويدرجه في قالب من صنعه، ليعيده مادة ورقية أو طينية، وهي التي يقوم باستعمالها من جديد، لينجز بها عمله الإبداعي الجديد والمتجدد.

ومنذ اتخذ سكنه بيننا ما كان فناننا التشكيلي، المتمكن من صنعته بحذق وبراعة مدهشتين ومنعدمتي النظير، يعرض لوحاته التشخيصية أو التجريدية، ولا منحوتاته الجبصية أو الرخامية، ولا منقوشاته الخشبية أو المعدنية، ولا مخطوطاته الحروفية والكاليغرافية، في أي رواق ولا في أي معرض جماعي أو فردي… بل كان يكتفي بعرضها في بيته المتواضع، ولا يسمح برؤيتها سوى لنوعين من الناس: للأطفال المتراوحة أعمارهم ما بين ثلاث سنوات وأربعة عشرة سنة، ولكل ممسوس من الكبار بلوثة الإبداع الفني أو بالجذب وحضور مجالس المغنى الصوفي، ومن هذا الصنف الثاني كان يختار أولئك الذين تأتي عليهم لحظات من الذهول عن الوجود فيتواجدون (رقصا أو غناء) في الفضاء العام دونما اعتبار لأي شيء، فقد كان يهديهم شيئا من رسوماته أو منحوتاته، تماما مثلما كان يفعل معنا نحن الأطفال إذ كنا غالبا نخرج من بيته محملين بلوحات مائية شاركنا في رسمها وتلوينها أو بأسمائنا وكنانا التي نقشها لأجلنا على الخشب أو الحجر الجيري…

ويوم أخبره جماعة، ممن يثق بهم ويعتبرهم من محبيه، بحاجة الأطفال اليتامى مع العجزة بأن يشاهدوا أعماله الفنية، ويطلعوا على تجاربه العملية، حمل كل محتويات بيته الفنية: (لوحات ومنحوتات وأسفارا مخطوطة) وجاء بأدواته العملية إلى حيث يقيمون، وعرض عليهم كل ذلك فرحا ومنشرحا… لكن لما بلغ مسامع السادة في البلدة ما قام به اتفقوا مع صاحب أهم وأكبر دار نشر في الوطن، وهو في الوقت نفسه مدير الصحيفة الرائجة والقناة التلفزية الحائزة على أضخم بث، على إصدار كتاب حول الرجل الفنان وتجربته الإبداعية، فالتف حوله جملة من صحافيي وإعلاميي البلدة والوطن يريدون تصويره بين منتجاته الفنية ويرغبون في إجراء حوارات معه، وفي تسجيل نبذ من حياته، كما يودون مساءلته عما يرغب في إيصاله إلى من يتلقون أعماله وإنجازاته، فكان كلما سأله سائل منهم استدار إلى الجهة المقابلة وأطلق ضحكة، أو قام واقفا ثم عاود الجلوس، أو مد يده إلى فنجان قهوته السوداء ورشف منها رشفة… وفي الأخير نهض وتخطى جمعهم، ثم اتجه إلى حيث وضعوا صورته المكبرة في مدخل القاعة وقام بتدميرها وتفتيتها، تاركا شظايا الزجاج وقطع الأوراق مع الخشب هنالك، ثم مضى راكضا نحو بيته، ليغلقه عليه، وكل من دق بابه من بعد كان لا يجيبه. ونذكر، نحن أهل الحي الذي قطن به، أننا سمعناه يومذاك يصرخ داخل غرفته، مرددا:

•أنا لست مادة قابلة للبيع والشراء… ولا هي منتجاتي قابلة للبيع والشراء… دعوني عنكم يا ناس!

***

فناننا التشكيلي المتمكن من صنعته، انبثقت في ذهنه فكرة إبداع صورة غير مسبوقة، فاستعد لذلك بتوفير الفراشي والأصباغ الزيتية، ثم سهر الليالي الطوال منكبا على تخطيط وصياغة ما لمع في ذهنه، وتتابعت الأيام مع الليالي وهو لابث يصبغ ويلون القماش، ساعيا إلى تجسيد ما يترجرج نابضا ومتحركا في خياله على متن اللوحة. ولما برزت ملامح الصورة فوق القماش، إذ تمكن من تحقيق ما كان يرغب فيه، وما كان مجرد فكرة وخيال، وقف أمام تلك اللوحة مبتعدا تارة ومقتربا أخرى، ثم وهو ينظر بإعجاب وشغف إلى ما رسم رفع صوته مخاطبا تلك اللوحة:

•هل أقول: أحبك حبين؟ أم يكفي أن أقول إني أحبك لمرتين… فقد كان حبي الأول لك حين كنت تضطربين في خيالي، وهذا حبي الثاني لك يتحقق حين استخرجتك طوال هاذي الأيام والليالي.

ولبث رسامنا المبدع لا يغادر بيته إلا لماما، وحين يكون في أمس الحاجة إلى ذلك، فقد ظل متعلقا بلوحته تلك، واستمر شغفه بها يزداد ويكبر يوميا، فهي لا تفارق نظره حين يكون موجودا في بيته، ولا تغيب عن خياله حين يغادره. لكن، حدث ذات يوم أن تسلل إلى بيته لص، فاستولى على ما بدا له ذا قيمة وما يمكن أن يباع بأسعار ثمينة… ورغم أنه في البدء استرخص تلك اللوحة التي استقبلته مذ دخل البيت، فإنه بعد تلكؤ وضعها إلى جانب غيرها من الأشياء الأخرى التي قرر بيعها إلى أحد مقتني المتلاشيات. لذلك فحين عاد الرسام إلى بيته صدمه خلوه من اللوحة الأثيرة والتي ظل يحمل لها عشقا خاصا، لكنه في قرارة نفسه ما يئس في العثور عليها، فقد صمم على وجوب البحث عنها في كل مكان يمكن أن تعرض فيه، أو يحتمل أن تصل إليه. وهكذا بقي لمدة غير يسيرة من الزمن يزور كل الأماكن التي كان يتوسم لقاءه بلوحته فيها، وما انفك متشبثا بأمله في العثور عليها، فقد زار كل أروقة العروض الفنية التشكيلية الموجودة في الجهة والإقليم، بل وصل به البحث حتى الجهات الأخرى من الوطن، ثم شرع يزور في كل يوم من كل أسبوع سوقا من الأسواق التي تقام قريبا من بعض الدواوير… وذات أسبوع خطرت له فكرة زيارة دكاكين باعة المتلاشيات والأشياء القديمة، فطفق يدور عليها في كل جنبات المدينة، إلى أن دخل مرة حانوتا حقيرة في سوق منزوية مقامة على أطراف البلدة، بدا أن مالكها يعرض أشياء كثيرة لا قيمة لها (قناني فارغة ومتسخة، عقود عقيق قديمة، كتب مدرسية مستعملة ودفاتر نصف ممزقة، خواتم وأسورة علاها الصدأ، صنيديقات خشبية وعلب قصديرية، أباريق لصنع الشاي وأكواب قهوة مثلومة، فتائل نصف محترقة وأعواد ثقاب سبق إشعالها…)، وفي ركن قصي وشديد العتمة من تلك الحانوت ظهر للرسام التشكيلي جانب من برواز يؤطر ما خمن مفترضا أنه لوحة قريب حجمها من حجم لوحته التي ضاعت منه، كان البرواز بزجاجه مغبرا بقوة، وتعلوه خيوط من نسيج العنكبوت الذي التصقت به أجساد ذباب وحشرات ممتص نسغها، مد الرسام يده إليه مستخرجا إياه من الركن القصي المهمل حيث كان مرميا، فبدت له علائم وإشارات تكاد تصيح به أنه أمام لوحته الفنية المعشوقة من قبله، والتي ظل لزمن يبحث عنها في كل الأماكن… هي ذي لوحته البديعة التي تملكته وقد علاها الغبار الكثيف، وبدت على متنها بعض الجراح والتشوهات الطفيفة الناجمة عن عدم العناية حين كانت تتقاذفها الأيادي كأيما شيء بخس ورخيص. فما كان من فناننا المبدع سوى أن نفخ في الغبار يروم إزالته، فتطاير حواليه وهبط سخامه على وجهه وأطرافه، ثم مد يده إلى اللوحة يمسح عنها ما علق بها فالتصقت بها خيوط شباك العنكبوت. وبعد حمله إياها، سار وسط تلك الحانوت الحقيرة باحثا عن صاحبها. وفي ركن قريب من مدخل الباب ظهر له رجل قزم قميء، تملؤ وجهه البثور والتقيحات، وتفوح منه روائح مختلطة: رائحة سجائر رديئة، ورائحة خمرة امتزج فيها الكحول مع الخل، ثم رائحة سردين مشوي متبل ومبهر وكثير من الثوم المفصوع*… وكان صاحب الحانوت هذا يقتعد كرسيا خربا ومتسخا، تظهر عليه العديد من البقع الحمراء والصفراء والسوداء تسبب فيها ما تساقط عليه من أصناف الأكل والشرب… وما إن رأى البائع القميء الرسام التشكيلي حتى بادره سائلا إياه بصوت حاد كصوت ناي مخروم تهددته النيران وما أصلحته:

•ما ذاك؟

فأظهر الرسام اللوحة التي كان قد برع في رسمها، وسرقها منه اللص، ثم قال:

•هذه اللوحة لوحتي… أنا من أبدعها تخييلا وتصميما وتلوينا… ولا أعلم، كما لا أريد أن أعلم، كيف وصلت إليك… لأن ما يهمني في نهاري السعيد هذا هو فرحتي بالعثور عليها عندك، ولن تكتمل سعادتي سوى باستعادتها…

•قد تكون فعلا أنت رسمتها، إذ تظهر الأصباغ ملونة أطرافا من ملابسك وأناملك. ولكن هذه اللوحة هي اليوم في ملكي، وأنا اقتنيتها لأجل عرضها للبيع…

كان هذا قول الرجل القميء البائع للخردوات، ودون أن يتحرك من مقبعه مد يده إلى اللوحة، فأعطاها له الرسام. أمسك القزم القميء باللوحة في حضنه، ثم حرك إصبعيه (السبابة والإبهام) لبرهة من الزمن، دلالة على استفساره الرسام عن الثمن الذي بمكنته تقديمه سعرا ما دام يرغب في اقتناء تلك اللوحة. عندها زفر الفنان التشكيلي زفرة عميقة وممتدة، ثم ارتج في دواخله السؤال في صوت خفيض لا يكاد يبين:

•كم تطلب ثمنا لها؟

•القدر الفلاني من الدراهم هو ما أطلبه ثمنا لبيعها

هكذا رد الرجل القزم القميء بصوته الحاد النشاز والمرتفع، بحيث كاد أن يثقب طبلتي أذني الرسام التشكيلي.

•سأعمل على توفير الثمن الذي طلبته، مهما كلفني من بذلي للجهود، حتى ولو توجب علي بيع مقتنياتي الغالية على نفسي، والتي هي أدوات اشتغالي من فرشات وأصباغ وحامل اللوحة مع حامل الأصباغ…

وفعلا لم تكد تمضي سويعات على عثور الرسام التشكيلي على لوحته المعشوقة حتى كان قد تمكن من جمع السعر المطلوب وقدمه ثمنا، وإذ استعاد لوحته العزيزة فقد رجع بها راكضا إلى بيته، ثم وضعها في مكانها الذي اختار لها بعد أن قام بتنظيفها من الغبار الكثيف ومما التصق بها من خيوط نسيج العناكب، وكذلك مما شانها من أوساخ، ثم خاطبها قائلا:

•في البدء أحببتك لمرتين، للمرة الأولى حين انبثقت فكرة شبحية في خيالي، وللمرة الثانية حين قضيت في استخراجك للوجود أياما وليالي، ثم ها أنذا أحبك للمرة الثالثة بعد أن استعدتك مقدما فيك كل ما ملكته من نفيس وغالي.

ومنذئذ لبث فناننا الرسام التشكيلي منتبها لما أصاب لوحته الفنية المعشوقة من جراح وثلوم، وما كاد يشوه جمالها وحسنها الفتان، فطفق في كل آن وحين يعالج أدواءها، ويمسح عنها ما قد يلوثها أو يعفرها أو يغزوها من غبار… لكنه ما عرف كيف يبعد عنها كل ما يهددها من اللصوص باعة الجمال بالدرهم والدينار والدولار، لذلك كان يخاطبها، في صبيحة كل يوم ما إن يستيقظ، وفي مبدء كل ليلة حين يضع رأسه فوق الوسادة، فيقول، كما لو أنه يصلي داعيا:

• كم أحببتك وأحبك يا مشكاة تنير دياجيري وخبالي

كان حبي الأول لك حين انبثقت فكرة شبحية في خيالي،

وكان حبي الثاني لك حين قضيت في صنعك أيامي والليالي،

ثم أحببتك للمرة الثالثة حين سرقت، فجلت باحثا عنك لا أبالي

و في أحقر الحوانيت وجدتك مرمية بين الخردوات، ياحائزة للجمال

عندها حاربت القماءة والرداءة لأقتنيك بما  ملكته من نفيس وغالي.

وها أنا يوميا أعلن لك حبي المتوالي ذائدا عنك ما يترصدك من الأوصاب والأهوال.

*المفصوع: اسم اشتققته من الفعل العربي (فصع) الذي أورده اللغويون المعجميون ضمن المداخل المعجمية، وفي «»معجم مقاييس اللغة» لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت395هـ) ورد ما يلي: (فصع: الفاء والصاد والعين يدل على خروج شيء عن شيء: يقال:فصع الرطبة، إذا قشرها، ويقولون: الفصعة: غلفة الصبي إذا اتسعت حتى تبدو حشفته.) ص356، الجزء الثاني، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، الطبعة الثانية 2008.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق