ثقافة وفن

الشـرق والشرقيون في ديوان فيكتور هوجو

(“الشرقيات – “Les Orientales “لفكتور هوجو “1802- 1885”)

معجب بن سعيد الزهراني

جاذبيـة الشـرق

تعاضدت مجموعة من الخبرات والتجارب لتولد في ذهنه ومخيلته مشاعر الإعجاب والافتتان بذلك الشرق الذي سريعًا ما تحول إلى مصدر إلهام وأفق تجديد لشعرية جديدة كان ف. هوجو من أبرز روادها وممثليها في مطلع القرن التاسع عشر (7) ففي حوالي العاشرة من عمره كان عليه أن ينتقل مع أسرته إلى إسبانيا التي ألحقها نابليون بونابرت بالإمبراطورية الفرنسية وكان والده الجنرال هوجو حاكمًا عليها. هذه الإقامة القصيرة (من 1811 إلى 1812) سمحت لشاعر المستقبل البارز باكتشاف بلد تختلف أنماط حياته ومظاهر عمرانه عما تعوّده في فرنسا، وعن هذا الاختلاف تحديدًا بدأت علاقات الإعجاب والانجذاب تتشكل لتقود الشاعر إلى الافتتان بإسبانيا وذاكرتها الحضارية المشرقية التي كانت آثارها الجمالية تنتشر في كل مكان. فالقصور والمساجد المزينة أبوابها ونوافذها وجدرانها بالآيات القرآنية وبالنقوش الزخرفية العربية شاهدها الطفل الموهوب تجاور الكنائس والقصور الغوطية مولدة “مشاهد متنوعة، متآلفة حينًا ومتنافرة حينًا آخر، جادة وعنيفة من جهة، ومرحة إلى حد البهجة من جهات أخرى.. “وهذا ما فتن به الشاعر في الحال” كما يقول أ. موروا كاتب أهم سيرة حياتية – أدبية عن ف. هوجو (8)

كذلك يذكر هذا الباحث نفسه أن ف. هوجو الطفل كان قد قرأ خلال تلك الرحلة نسخة من “ألف ليلة وليلة” حرصت أمه على أن تكون ضمن حاجات السفر، ولابد أن حكاياتها العجيبة المدهشة أيقظت مخيلة الطفل وأطلقت العنان لأحلامه باتجاه تلك الفضاءات الشرقية البعيدة الغامضة التي تترآى صورها الخلابة مرة في الحكايات ومرة في هذه المدن الإسبانية المليئة بآثار الشرق الحضارية الحية!.

أمر ثالث يستحق التنبيه إليه هنا ويتعلق بتعرف ف. هوجو إلى فتاة إسبانية تكبره ببضع سنوات ويبدو أنه شعر تجاهها بأول علاقة محبة في حياته لابد أنها عمقت افتتانه بالفضاء وثقافته. فعن هذه التجربة العاطفية المبكرة كتب الشاعر لاحقًا:

“في إسبانيا هذه التي أحببت/ مطلع كل يوم وكل ربيع/ قالت لي بيبا – أنا ابن الثامنة – يا فتى/ اسمي بيبا، ووالدي من سراة القوم هنا/ لحظتها شعرت بأنني رجل يعيش في بلد محتل/ وتراوده أحلام مختلطة بحالة الحرب” (9)

هكذا إذًا تفاعلت مجموعة من العوامل ليخرج ف. هوجو بتجربة غنية من رحلته إلى إسبانيا وإقامته العابرة في مدريد، ولا شك أن هذه التجربة تدخلت بقوة في تشكيل وعي الشاعر ومخيلته الإبداعية خاصة وأنها غذت حياته ببعد جديد مختلف لم يكن له أن يكتسبه من دون هذه الوقائع الموثقة كما يلاحظ. فإسبانيا التي تنقّل الشاعر بين مدنها وقراها وشاهد حدائقها وقصورها ومساجدها وكنائسها ستمثل عنده، وعند غيره من الرومانسيين، الثمرة الأجمل للقاء والتفاعل بين حضارات الشرق والحضارة الغربية. ولقد بيّنت أهم الدراسات المقارنة في هذا الموضوع بالذات كيف تحولت إسبانيا إلى امتداد واقعي ومتخيل للشرق الذي فتن به كثير من الأدباء والفنانين الرومانسيين من قبل ف. هوجو ومن بعده (10)

٤) التحول إلى “الرومانسية” ودور الشرق في هذا التحول:

بعد عودته من إسبانيا بدأ حضور ف. هوجو “الشاعر” يتكرس في الوسط الأدبي الفرنسي بسرعة لا يحظى بها إلا قلة نادرة في كل زمان ومكان؛ ففي الثالثة عشرة من عمره نشر قصيدة مطولة فازت بجائزة من “الأكاديمية الفرنسية” التي نظمت المسابقة، وهي السلطة الأدبية الرسمية الأهم في فرنسا بالأمس واليوم. بعد ذلك بسنتين (1817) منحته الأكاديمية ذاتها وسام استحقاق اعترافًا بمواهبه وتشجيعًا له، وفعلت مثلها أكاديمية أخرى في تولوز بعد سنوات قليلة مما فتح أبواب الشهرة أمامه وهو في بداية مرحلة المراهقة!

هذه النجاحات المبكرة لم تدفع به إلى الغرور والتهاون بل إلى المزيد من الجهد لتطوير ذاته وإبداعه كيما يحقق طموحه بأن يكون “مثل شاتوبريان أو لا شيء” كما كان يقول حينها (11) هكذا بادر وهو في السابعة عشرة إلى إصدار مجلة “المحافظ الأدبي” ليبلور، بالتعاون مع إخوته، آراءه وتصوراته من جهة، ولكي يتواصل مع الوسط الأدبي من حوله عبر هذا الوسيط الإعلامي الجديد والجذاب هو أيضًا في تلك الفترة. ومما يدل على تناسب الطموحات مع الإنجازات أن الكاتب أصدر خلال سنوات قليلة ثلاث مجموعات شعرية هي “أغاني وأشعار متنوعة” (1822) “الأغاني الجديدة” (1824) ثم “الشرقيات” (1829)، هذا بالإضافة إلى عملين قصصيين يؤكدان موهبته الروائية نشر أولهما عام 1820 والثاني عام 1823 (12)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق