ثقافة وفن

توظيف القهر وفشل الشاهد في «أقوال شاهد إثبات»

لمحمد الفيتوري

عماد البليك (كاتب وروائي سوداني)

«ما أبشع ان لا يفهم الانسان ما يحدث» الفيتوري -…

أذكر انني تفاعلت مع هذا النص مبكرا، وكانت تسيطر عليّ رغبة في الكتابة عنه باعتباره يتخذ محورا مختلفا في اشعار الفيتوري، فالفيتوري رغم بعده الصوفي والجمالي في اسقاط عوالم الفقر والحرية الذاتية الملغمة بالزهد، الا انه في هذا النص يكاد ان ينفلت لسطوة التمرد السلبي، تحركه «الأنا» بدافع كبير، يقترب من القول، ولا يقول، لتكون اجواء القصيدة عاكسة لنفسية الشاعر بدرجة عالية في «زمن الكتابة».

لقد حول الفيتوري ملهاة الحياة الى جنون الانطواء، والتراجع، ليعكس مصير المثقفين والمقهورين فهم على وجه خاص وهم الـــغالبية، ورغم ان النص قديم، الا إنه يسترجع ذاته من خلال فيضان الدمار النفسي والقهر الذي يحاصر حياتنا، ويتحدى قيمة الذات في ان تكون وتبدع. ويصور أحابيل الزمن الداعشي المستنسخ في كل الأزمان.

في قصيدة «اقوال شاهد اثبات» لمحمد الفيتوري تتمحور فكرة صراع السلطة في ممتزجة مع افكار اخرى كالبقاء والموت وتبدو القصيدة عارية تماما كما اراد لها الشاعر، باعتبار أنها كتبت دون تواريخ وانفعالات مجازية على صيغة الذات لتحريك الهدف نحو سبر اغوار الآخر وبعث اناها في ثورة من الطقوس المدارية القائمة.

وفي محصلة من المفردات القاسية مثل: الدهاليز الطويلة/ القاعات الضيقة السوداء/الصمت والانطفاء/ الرقصة القاسية الحزينة/ النار التي تخرج من الجمجمة/ القضاة الذين يحملون الاسلحة/ الفجر الرمادي الرصاصي/ السماء التي تغطي وجهها/ الجناة التتريون/ الزناة المغتصبون للسلطة/ مذبحة العصر/ الضحايا، كل هذه القائمة تشكل رؤية واضحة لمضامين مروعة تعرضها اقوال الشاهد معبرا بها عن حجم الجريمة التي يرتكبها الجناة في طريقهم الى السلطة مخلفين الضحايا وطريقا من الوحل واللعنة.

يصور الفيتوري الاستيلاء القهري على السلطة كنوع من القهر الغصبي الذي يشبه الى حد بعيد اغتصاب فتاة لم تبلغ الحلم واستخدم مفردة «زنا» ليعكس بها هذا الفعل الشنيع الذي لم ينج منه أحد حتى الميتون في اضرحتهم:

«لم تنج من اللعنة حتى الأضرحة، يا وطني»

الشاهد/ الاثبات ــ الثورة/الجريمة:

يعطي مزدوج الشاهد/الاثبات رؤية كلية عن حلقتين متواصلتين منطقيا وفلسفيا فالشهادة هي اليقين الذي يبرهن الحقائق عندما تكون هذه الحقائق مجرد اكاذيب واساطير، ويأتي البرهان على مستوى الرؤية بعيدا عن الخيال والحلم والاسطورة وهذا ما جعل الشاهد يصرخ في اقواله:

«انني اعترف الآن

لقد رأيتهم

أنى رأيت القتلة»

لم يكتف الشاهد بسرد ما رآه بل سارع الى تفوير صيغة «الانا» معبرا عن انفعالاته الذاتية من خلال ما محورته فكرة المشاهدة لقد صرخ غاضبا في وجه القتلة:

«ماذا تصنعون؟

لم تقتلوا البذرة؟

لم تقتلعوا الصخرة؟»،

مجموعة من الاسئلة تطرح في وجه الجناة ذات بعد خارجي مدرك وذات بعد داخلي في محاورة الذات:

«ما أبشع ان لا يفهم الانسان ما يحدث»

وينتقل الشاهد من صيغة الاستفسار للأمر لكي ينقل المجاز الى الحقيقة المدركة الكاملة عندما صاح « اقتربوا»، اقترب الجناة فحدثت جريمة جديدة بعد الجرائم الاولى التي شملت التقتيل والعبث بالمقدسات (كتعبير عن توظيف المقدس لغير اهدافه) كانت الجريمة الجديدة هي الاعتداء على الشاهد:

«وعلقوا صلبانهم في عنقي تميمة»

إذا كان القتلة يسمونها «ثورة» الا ان الشاهد سماها «جريمة» وكان واحدا من ضحايا الجريمة الذين التصقت بهم ايادي الغدر لدرجة انه أصبح مجردا من العقلانية لا يفهم لقد اغتيل عقله على طريقة برهان غليون:

«وكدت لا افهم ما يحدث

ما أبشع ان نفهم ما يحدث»

حدثت الجريمة البشعة الكاملة باسم الثورة حُرقت جنازة الشاهد ودفق رماده للهواء ثم استمر الخداع للامة حيث اعلن الثوار بانهم جزء من مشيئة الله لكن اعلانهم رفض حتى من الطبيعة التي غضبت عليهم وهو توظيف جمالي لفكرة عذاب الله للمارقين في القرآن:

«ومالت الاشجار في الحديقة

وغطت وجهها السماء»

«عبر الدهاليز الطويلة

التي تختال في قاعاتها الضيقة السوداء

آلهة الموت صفوفا

ناشرات خلفها الصمت والانطواء»

تبدأ قصيدة «أقوال شاهد إثبات» بهذا المقطع المجتزأ الذي يعكس لوحة متداخلة للدهليز والموت والأسود مغلفة بالصمت والخجل ونجد ان الارتباط بين الأسود والطول/ الضيق يعبر عن فكرة الثورة التي تتخذ طابع الجريمة والتي نوقشت سابقا، لكن مفتتح التوطئة للقصيدة يتمحور حول ثلاثي من الافكار، يلخص في موت الذاكرة، وفناء الجنون بالرقصات القاسية الحزينة، واللامبالاة المتصفة.

هذه الافكار تولدت عن الهروب من الواقع الحتمي والذكريات المؤلمة التي يكون مفادها التعري ضرورة لابد منها، حتى تحقق الذات ثباتها، على الاقل لحظيا، لكن هذا الثبات لا يحدث ابدا كما يتمنى الشاهد، المراقب، يقول:

«والنار التي تخرج من جمجمتي

صاعدة إلى السماء»

استطاعت رؤى الشاهد ان تصنع للون الأسود أكثر من بعد، في الطول والضيق، بما يعكس لنا اختلال صورة الذات أمام الأشياء، امام مهزلة الخوف والضياع والجريمة،

لكن الأمل الذي يظل معلقا في ذهنية الشاهد/ الشاعر هو حفز المستقبل، يقول الفيتوري:

«يا وطني

لم تنج حتى حرمات الأضرحة

سأعترف يا من ستأتون

انني وقفت لم أحرك شفة ولا يدا

وأنني في قمة العصر

شهدت المهزلة»

وللقارئ ان يشاهد، كيف يرتبط صياغ المقدمة بختام القصيدة، ففي الوقت الذي محورت التوطئة لفكرة الحزن والحبس والجريمة الكبرى، نجد ان الختام تمحور لتأكيد الصمت، لتتلاقى النهايات بالبدايات في شكل بدائي لتركيب القصيدة، لكن هل يمكن ان يفهم هذا الشكل في تجربة الفيتوري؟

لا اعتقد ان الفيتوري تعمد هذه الرؤية، وانما كان يناسب في نصه عبر تعميق معنى الفوضى والجراح مقابل فكرة «الثورة» ليعمق لنا من وجه آخر مفهوم القهر ويعمل على توظيفه بشكل قاس جدا يوازي فكرة القهر المعاشة، بيد ان الرؤية الكلية لأقوال الشاهد تعكس شخصية منكسرة منهزمة، تفشل محاولاتها في اختراع الثبات، ولنا ان نلاحظ التقارب بين (الثبات) و(الاثبات).

فشل الشاهد في الاثبات، كما فشل في ان يخلق حالة من السكون التي تفتح اشرعة النص نحو ان يحمل خيارات الامل والتفاؤل، فالشاهد ظل دائما بعيدا عن التفاعل، يتخذ طابع المراقب الخائف، رغم انه يحمل الحقيقة الثانية عن «المجرمين»، ورغم انه يمتلك الرؤية الكاملة لقراءة الحدث، آثر المراقبة، وابتعد عن التفاعل في الفوضى، مكتفيا بتنسيق الجرائم الى قديمة وأخرى لتجر كلمة «أخرى» وراءها فيض من القسوة والحزن مما يعمق المأساة، كأنما اراد الفيتوري ان يقول ان جرائم القهر ضد الانسان لا تنتهي، هو قهر الانسان ضد بقاء الانسان وحلمه وتصالحه مع الحقيقة والحب ومعاني الحرية والامل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق