ثقافة وفن

الرسائل: الأدب الذي روى فيه المبدعون عن آلامهم

نورهان عز

معظم المبدعين والفنانين مروا بتجارب سيئة ومأساوية في الطفولة، والمآسي لها القدرة على إخراج الآلم في هيئة صورة إبداعية في تلك الحالات.

ارتدت معطفها الشتوي، وتركت رسالة تفوح منها رائحة الوداع تنتهي بعزاء ورجاء للغفران، عن ذلك الفعل الذي تصورت أن كل سبل الراحة لا تأتي بسواه، فكتبت ڤرجينيا وولف في رسالتها الأخيرة لزوجها ليونارد وولف وقالت:

“ما أريد أن أخبرك به، هو أنني مدينة لك بكل السعادة التي عشتها في حياتي. لقد كنت صبورًا معي وطيبًا بشكل لا يعقل، أريد أن أخبرك -والجميع يعلمون هذا- بأنه لو كان لرجل أن ينجح في إنقاذي فأنت هذا الرجل.

فقدتُ كل شئ يا ليونارد، عدا إيماني بك وبقلبك. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك. هذا يكفي.

لا يمكن لشخصين أن يكونا أكثر سعادة مما كنا عليه”.

ثم ذهبت إلى أقرب نهرٍ من منزلها وملأت جيوبها بالحجارة، وبالتدريج بدأت تختفي في الماء حتى اختفت من الحياة بأكملها.

كيف كشفت رسائل ڤرجينيا وولف عن اكتئابها ومصادر إلهامها؟

كانت تلك آخر رسائل الكاتبة ڤرجينيا وولف، واحدة من أعظم الأدباء الإنجليز. بالإضافة إلى موهبتها الكبيرة، كانت ڤرجينيا تعاني نوبات اكتئاب واضطراب ثنائي القطب، وظهر ذلك بشدة في جميع كتابتها من قصص ومقالات، لكن أدب الرسائل بشكل شخصي له القدرة على إزالة الوشاح تمامًا عن حياة الكاتب أو الفنان وتجريده بالكامل، ليظهر بكل مشاعره الحقيقية وضعفه أمام العالم.

رسالة الانتحار تلك هي أكثر ما جذب انتباهي للتعرف إلى كاتبتنا الحزينة، التي سمعتها لأول مرة خلال مشاهدتي الفيلم الأمريكي The Hours الذي تناول قصة ثلاث نساء من بينهن ڤرجينيا وولف وصراعها مع نوبات اكتئابها الشديدة.

وعندما اُغرمت بها من خلال الفيلم وكلماتها المؤثرة في رسالتها الأخيرة، بدأت التوغل في حياتها أكثر، وراودني سؤال مهم وأنا أفتش عن هذه المرأة في ذلك النهر التي انتهت فيه، هل للاكتئاب والاضطراب النفسي اتصال ما بالإبداع؟

وبدأت التأكد من صحة ذلك الكلام عندما كشف الكثير من رسائلها وكتابتها عن أنها لم تكن تستطيع الكتابة إلا وهي في نوبات اكتئابها، وعندما حاول الأطباء علاجها لم تعد قادرة على الكتابة لفترة طويلة، وهو أمر فسره الطبيب النفسي سكلبتشر في دراسته، “ڤرجينيا وولف: المرض العقلي وعلاقته بالعملية الإبداعية”، بأن الأكتئاب هو ما ساعد ڤرجينيا وولف على الكتابة الأدبية، وقدمت بسببه مجموعة من أعظم النصوص الأدبية في بداية العصر الحديث بإنجلترا.

رسائل ڤرجينيا وولف لم تفصح فقط عن شدة معاناتها مع الاكتئاب أو المرض، بل أفصحت أيضًا عن المصادر التي أخذت منها الإلهام لكتابتها أيضًا، وكان أحد تلك المصادر رسائلها مع ڤيتا ساكڤيل وست التي تبرز علاقتهما الحميمية، وتبين بعد ذلك أن لتلك العلاقة الفضل في إلهامها لكتابة روايتها “أورلاندو”، التي تُعتبر أشهر روايات ڤرجينيا التي تصور فيها تاريخ الأدب الإنجليزي بشكل ساخر.

رسائل ڤان جوخ: الغلاف الأقوى للوحاته

ولم تتوقف الرسائل عند ڤرجينيا وولف فقط لتؤكد نظرية اقتران الإبداع والاضطراب النفسي في معظم الأوقات، بل تطرق الأمر إلى ڤينسنت ڤان جوخ أيضًا، الذي برعت رسائله إلى أخيه ثيو في إبراز حياته، بل وكانت توثيقًا مهمًّا لمعاناته مع فنه ومرضه والمحيطين به.

كان ڤان جوخ يعاني اضطرابًا ثنائي القطب أيضًا، ورغم أنه طوال حياته لم يبع إلا لوحة واحدة، فقد استمر في الرسم لأنه وجد راحة وسلامًا في فنه يقللان من حدة اضطراباته ونوباته الاكتئابية، حتى اليوم الذي رسم فيه آخر لوحاته، ثم عُثر عليه مصابًا بطلق ناري إلى جانبها.

“عزيزي ثيو،

على الرغم من هذا الفقر المدقع شعرت بطاقتي تعود، وقلت لنفسي: على أي حال سأتعافى منه، سألتقط قلمي الرصاص الذي تركته في إحباطي العظيم وأعود إلى الرسم. ومن لحظتها بدا لي أن كل شئ تغير بالنسبة إلي، والآن أنا في طريقي، والقلم يزداد طواعية في يدي يومًا بعد يوم.

لقد كان فقرًا طويلًا قاسيًا، وهو ما تسبب في إحباطي لتلك الدرجة، التي عجزت عندها عن فعل أي شيء”.

رسائل ڤان جوخ هي الغلاف الذي أحاط بفنه وزينه للعالم ليراه، فبعد وفاة ڤينسنت وثيو نشرت أرملة ثيو تلك الرسائل، التي ساعدت على تعاطف الناس مع لوحاته وإدراك قيمة فنه والغاية منها.

لم يشارك ڤان جوخ ڤرجينيا وولف حب كتابة الرسائل فقط!

إذا كانت مجرد صدفة اشتراك ڤان جوخ وڤرجينيا وولف في حب كتابة الرسائل في التعبير عن آلامهما، فلم يكن الاكتئاب المشترك صدفة قَط، فهناك أسباب عدة تجعل المبدع أكثر عرضة للاكتئاب، فعلميًّا الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من الإبداع لديهم كثافة منخفضة لمستقبلات الدوبامين، بالإضافة إلى أن معظم المبدعين والفنانين مروا بتجارب سيئة ومأساوية في الطفولة، وأن المآسي لها القدرة على إخراج الآلام في هيئة صورة إبداعية في تلك الحالات.

وأعتقد أن تلك هي أقوى العوامل المشتركة، ليس بين ڤان جوخ وڤرجينيا وولف فقط، ولكن بين الكثير من الفنانين المبدعين، مثل بيتهوڤن وڤيكتور هيجو وإدجار آلان پو وسالڤادور دالي.

في النهاية، لم تكن رسائل الكتاب والمبدعين عبثية قَط، وإنما هي لغة مقدَّرة بينهم يحاكون فيها أنفسهم قبل العالم، للتعبير عن الحب والسعادة والفراق والألم، عن أي شئ… هي إرثهم الأقوى الباقي للأبد بعد رحيلهم بسلامٍ عن العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق