ثقافة وفن

التشكيلي علاء البلداوي

رمز ملون في كثافة المعنى

بشرى بن فاطمة

تثير العلاقة بين الفن والمتلقي ومعايشاته اليومية، الفنان التشكيلي العراقي علاء البلداوي، فتحمله إلى عوالمه الخاصة التي يقدّم فيها رموزه على محك القصص الواقعية والحكايات الشعبية بثرائها السردي وتفاعلات الحقيقية التي لا تفصله بدوره عن انتمائه اليها بين حضور واندماج وتفكيك وبحث وتسرّب نحوها.
فقد حاول من خلال تجربته الفنية وتجريبه الابتكاري أن يكون قريبا وأليفا وصاخبا باللون كثيفا بتلك الرموز والمفاهيم التي تحيل على بساطة وعمق انتماءه للعراق وحضارته بكل تفاصيل العلامات الرمزية التي تميّزه بسيميائياتها التأويلية وقراءاتها المتداخلة والمتكاملة، وهو ما أثبت عنده شخصية فنية متميّزة، ذات أسلوب مختمر وناضج.
فهو لا يقع في تراتبية الملل ولا في سياقات التكرار المزعج بين لون وتدريج ودمج للرمز الذي يختاره أو يدمجه مع رموز أخرى ليخدم فكرته البصرية ويحملها نحو ثنايا كل تلك الكثافات التي قد تبدو فوضوية ولكنها بين عنصر وعنصر تحمل دورا ودلالة ومقصدا تجريبيا فنيا.
يحمل البلداوي حكاياته الممزوجة بالفلكلور الشعبي الثري ليحيل العلامة إلى انتماء قوي ومؤثّر، من خلال كل ذلك الزخم الدافق منه إلى أرضه ومن أرضه إلى متلقيه حتى يشدّه أكثر ويأجّج تفاصيل الألوان إليه بألفة يخلقها معنويا وحسيا، فالهلال والأهوار والشمس والأسماك كلها إحالات تأويلية لحضارة الرافدين بعراقة وتعتيق مفعم بالأمل رغم كل هموم الواقع.
يتمازج الرمز عند البلداوي مع الألوان بحثا عن خصوبة الأرض ومدى أفقها الحاضن لكل الجمال، فهو يخلق فيها بغرابة سحرية وتفاعل مدهش وغارق مشهدا متفاعلا مع تضاريس الأرض منهمكا بالحياة والانسان، فالأزرق الكثيف والذهبي المشعّ والأحمر الدافق، يثير احتمالات يقينية تركّز على بقايا الجمال المنساب من الأرض إلى اللوحة في تفعيلاته التي تحيله إلى قصص وخيالات يمزج بينها ليسردها على طريقته.
فبين كل لون ولون هناك حركة وارتقاء، ترتقي الفكرة بدورها معه باللوحة من دورها التعبيري إلى دورها التفاعلي والتأثيري في الأذهان والنفوس، وهي تقنيات مفكّكة ومترابطة يجيد تنفيذها معا بدقّة وحرفية وحساسية عالية.
تبدو الخطوط والأشكال في لوحات البلداوي في علاقات مرحة ومريحة رغم كل الصخب بينها في تواصلها مع الملامح فهو يلامسها بهندسة متقنة معتمدا تقنيات البعد الثالث وبراعته في تسيير البعد الثاني من خلال تكاملات رؤيوية تخدم اللوحة في تفاصيلها الانتمائية للفنان وبيئته ومفاهيمه وعلاقاته.
يوظّف البلداوي الرمز بوصفه صيغة تعبير تقارب مواضيعه التي تحاكي العراق التاريخ والانسان وتشغل تفاصيل أخرى وتدمجها مع الواقع بين صعود وهبوط بين انفراج وأزمات، فهو يقدّم الرمز بشكل يكاد يكون زخرفيا خزفيا يبدو مثل انزياح مطلق نحو الفكرة القديمة في التجسيد والخطوط والتعبير التي تتحمّل التأويل والقراءة بعيدا عن نمطية الترديد وروتينية التوليف بينها للوصول إلى المفاهيم، وهو ما يضفي جمالياته المحمّلة بالأفكار إلى المتلقي حتى لا يكون التواصل جامدا بل مليئا بالأفكار، فالأفكار في أعماله يحيل إليها الضوء ويستحيل معها رسائل من نور معمّق الجماليات الحسية والفكرية.
والرمز في علاقة البلداوي بأعماله قابل للتلقي بل وناضج الحضور لتفكيك قدراته الذاتية في الإشارة والاستنارة الذهنية والاستعارة الضرورية له كعلامة ثابتة المعنى في موتيفاتها الأيقونية المتكاملة.
فالرموز التي يقدّمها علاء البلداوي لها فعلها ووقعها الدلالي المتّسم به وبكل مقاصده في سياقات الأعمال التي يقدّمها أو في تمازجات رحلته التجريبية الفنية الجمالية.
لاشكّ أن قوة اللون تقع أيضا في تفاعل الرمز اللوني المراد تفكيكه في تواصله التجريبي مع الرحلة الجمالية التي يقدّمها وبالتالي تكمن الدلالات في اختزان مشاعر المتلقي والقبض عليها ودمجها مع مخيلته الصاخبة والخصبة وبين ذلك وكله يقع فيها على وقع المعنى، الذي يستدعي سكينة وهدوء ونضجا رغم كل ذلك الصخب، فالملامح الملونة والساطعة رغم مراراتها وخذلان الواقع تحمل روحها خضراء بكثافة شديدة وحركة تكاد تلتحم مع محيطها وتستدرج الفراغ إلى ضجّتها، لخلق تعايش مدمج مندمج بينها، تبدو فيه متوهّجة وعميقة.
ولعل هذا التكييف اللوني الموغل في عمق اللوحة يحمل خطوطه من وإلى المخيال العام والذاكرة والفناء داخل الجمال رغما عن الواقع، تنفعل داخل التفصيل الملون بديناميكية يحملها بين تكاملات بنيوية في العمل الفني بين البنى الجسدية والحسية والخطية واللونية لتبدو خفيفة رغم ثقل المفهوم ومعبّرة رغم تداخل العناصر.

*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق